صفحة 4 من 11 الأولىالأولى 12345678 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 31 إلى 40 من 106
 
  1. #31
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    سقوط ميافارقين!!
    وفي هذه الأثناء حدث حادث أليم ومفجع، إذ سقطت مدينة ميافارقين تحت أقدام التتار بعد الحصار البشع الذي استمر عاماً ونصف عام!..
    ثمانية عشر شهراً متصلة من النضال والكفاح والجهاد.. وذلك دون أن تتحرك نخوة قلب أمير من الأمراء أو ملك من الملوك!.. ثمانية عشر شهراً والناصر والأشرف والمغيث وغيرهم من الأسماء الضخمة يراقبون الموقف ولا يتحركون!..
    سقطت مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تماماً.. فقد جعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد يقاوم في هذه المنطقة.. فقتل السفاح كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميراً.. ولكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد رحمه الله حياً ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه هولاكو وهو في حصار مدينة حلب..
    واستجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه!!.. وظل به على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله عز وجل للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها..
    "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين"..
    روى البخارى ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يموت ـ له عند الله خير ـ يسره أن يرجع إلى الدنيا ـ وأن له الدنيا وما فيها ـ إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسرّه أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل مرة أخرى"..
    وقد يقول قائل: لقد قتل الكامل محمد الذي قاوم، كما قتل الخليفة المستعصم بالله الذي سلم ولم يقاوم!.. ولكن أقول لكم يا إخواني: شتان!!..
    شتان بين من مات رافعاً رأسه، ومن يموت ذليلاً منكسراً مطأطئ الرأس..
    شتان بين من مات وهو ممسك بسيفه، ومن مات وهو رافع يده بالتسليم..
    شتان بين من مات بسهم في صدره وهو مقبل، ومن مات بسهم في ظهره وهو مدبر..
    والكامل محمد رحمه الله مات في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. إنه لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة.. وكذلك مات المستعصم بالله في الميعاد الذي حدده رب العالمين.. لم يتقدم لحظة، ولم يتأخر لحظة..
    والله يا إخواني:
    لن يُطيل الجبن عمراً، ولن تُقصره الشجاعة..
    احفظوا هذه الجملة جيداً!!
    حقاً.. لن يُطيل الجبن عمراً، ولن تُقصره الشجاعة..
    لكن أين اليقين؟!
    استشهد البطل الأمير الكامل محمد الأيوبي، والذي كان بمثابة شمعة مضيئة في عالم من الظلام، وقطع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، وذلك ليكون عبرة لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، حيث عُلِّقَ فترةً على أحد أبواب دمشق، وهو باب الفراديس، ثم انتهى به المقام أن دفن في أحد المساجد، والذي عُرِفَ بعد ذلك بمسجد الرأس..
    ونسأل الله أن يكون من أهل الجنة..

    اشتد القصف التتري على حلب، وقد زادت حماسة التتار بقتل الكامل محمد وسقوط ميافارقين، وفي ذات الوقت خارت قوى المسلمين نتيجة الضرب المكثف، وهبوط المعنويات لمقتل الأمير البطل الكامل محمد..





  2. #32
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    احتلال فلسطين

    ثم قرر كتبغا أن يحتل فلسطين، فأرسل فرقة من جيشه، فاحتلت نابلس، ثم احتلت غزة، ولم تقترب الجيوش التترية من الإمارات الصليبية الأوروبية المنتشرة في فلسطين، كما لم يقتربوا من إمارات الصليبيين في سوريا ولبنان.. وبذلك قسمت فلسطين بين التتار والصليبيين..
    ومع كون التعاون بين التتار والصليبيين كان واضحاً إلا أن كتبغا زعيم التتار كان يسير على نهج هولاكو، فهو ـ وإن كان نصرانياً ـ إلا أنه لم يكن يسمح للنصارى ـ سواء من أهل الشام أو من أوروبا ـ أن يخرجوا عن سلطانه وعن حكمه وعن خططه..
    فمن ذلك مثلاً ما حدث من أمير صيدا "جوليان"، والتي كان يحتلها الصليبيون الأوروبيون، فإنه عندما شاهد الصراع بين التتار والمسلمين، ظن أن هذه فرصة لتوسيع أملاكه، فأغار على سهل البقاع الخصب واحتله، فأرسل له كتبغا من ينهاه عن ذلك، ولكنه لم يستجب، فرد كتبغا على ذلك بإرسال جيش كثيف إليه لضرب صيدا وتدميرها، ودُمرت صيدا بالفعل، ولكن أفلت جوليان عبر البحر، ثم كرر كتبغا نفس الأمر مع "يوحنا الثاني" أمير بيروت، وذلك عندما أغار على منطقة الجليل..
    وبذلك يتضح أن التتار كانوا يريدون الإمساك بكل خيوط اللعبة في أيديهم، وعلى من أراد التعاون أن يأتي تابعاً، لا صديقاً أو محالفاً.. وهو نظام القطب الواحد في الأرض، والذي لا يقبل بنشوء أي قوة إلى جواره..
    ولا شك أن هذا التصرف من كتبغا، ومن قبله التصرف الذي كان ينتهجه هولاكو بفرض الهيمنة المغولية على النصارى حتى في اختيار البطريرك الديني لهم.. لا شك أن هذه الأعمال أوغرت صدور أمراء الممالك الصليبية في الشام، وخاصة أن أوضاعهم كانت مستقرة قبل قدوم التتار، لأنهم كانوا يطمئنون إلى ضعف المسلمين، كما أنهم كانوا يطمئنون إلى عهد المسلمين، فهم عادة لا يغدرون، بعكس التتار، وما ظهر من التتار من إذلال لأمير أنطاكية ثم أمير صيدا ثم أمير بيروت جعل أمراء الممالك الصليبية الأخرى على وجل من التتار، وبات معلوماً لهم على وجه اليقين أنه بمجرد أن تستقر الأوضاع للتتار في المنطقة، وتترسخ أقدامهم فإنهم سيفعلون في نصارى الشام والممالك الصليبية مثلما فعلوا قبل ذلك في نصارى أوروبا الشرقية عند الاجتياح السابق لها في فترة ولاية أوكيتاي بن جنكيزخان..
    لكن على كل حال ـ فبرغم هذا التوجس الشديد والقلق العميق ـ إلا أن أمراء الممالك الصليبية ظلوا يراقبون الموقف دون محاولة التدخل فيه.. ولم يكن أحد منهم يدري بأي شيء ستأتي الأيام القادمة..
    وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكامله، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضاً سوريا بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين!!.. وقد حدث كل ذلك في عامين فقط!!..
    ووصل التتار في فلسطين ـ كما ذكرنا ـ إلى غزة، وأصبحوا على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلومترًا فقط من سيناء، وبات معلوماً للجميع أن الخطوة التالية المباشرة للتتار هي.....احتلال مصر!!..

    وهذا أمر لا يحتاج إلى كبير ذكاء!!.. فالمتتبع لخط سير التتار سيدرك على وجه اليقين أن مصر ستكون هدفاً رئيسياً لهم، وذلك لعدة أسباب منها:
    ـ أولاً: سياسة التتار التوسعية واضحة، وهم لا ينتهون من بلد إلا ويبحثون عن الذي يليه، ومصر هي التي تلي فلسطين مباشرة..
    ـ ثانياً: لم يبق في العالم الإسلامي بأسره قوة تستطيع أن تهدد أمن التتار إلا مصر، فقد سقطت كل الممالك والحصون والمدن الإسلامية تقريباً، وبقيت هذه المحطة الأخيرة..
    ـ ثالثاً: مصر ذات موقع استراتيجي في غاية الأهمية، فهي تتوسط العالم القديم، وخطوط التجارة عبر مصر لا تخفي على أحد..
    ـ رابعاً: مصر بوابة أفريقيا، ولو سقطت مصر لفتح التتار شمال أفريقيا بكامله، و شمال أفريقيا لم يكن يمثل أي قوة في ذلك الوقت، لأن وصول التتار إلى الشام كان متزامناً مع سقوط دولة الموحدين بالمغرب سقوطاً كاملاً، وتفكك الشمال الأفريقي المسلم إلى ممالك متعددة صغيرة، ولو سقطت مصر فلا شك أن كل هذه الممالك ستسقط بأقل مجهود..
    ـ خامساً: الكثافة السكانية الكبيرة في مصر، فقد كان سكانها يبلغون أضعاف سكان المناطق الإسلامية الأخرى..
    ـ سادساً: الحمية الدينية والصحوة الإسلامية عند أهل مصر عالية.. بل عالية جداً.. ويخشى التتار أنه لو تولى أحد الصالحين المجاهدين قيادة هذا البلد كثيف العدد، شديد الحمية، المحب للإسلام، والغيور على حرمات الدين، أن تتغير الأوضاع، وتتبدل الأحوال، ويهتز وضع التتار في المنطقة بأسرها..
    لهذه الأسباب ـ وقد يكون لغيرها أيضاً ـ كان التتار يعدون العدة للانتقال من فلسطين إلى مصر، ومع متابعة سرعة انتقال التتار من بلد إلى بلد، فإن المراقبين للأحداث لابد أن يدركوا أن تحرك التتار إلى مصر سيكون قريباً، بل قريباً جداً، حتى لا يعطي التتار الفرصة لمصر للتجهز للحرب الحتمية القادمة..

    ولكن كيف كان الوضع في مصر عند احتلال التتار للشام وفلسطين؟
    لقد كانت مصر في ذلك الوقت تعيش أزمات شديدة متلاحقة، سواء من الناحية السياسية أو من الناحية العسكرية أو من الناحية الاقتصادية، وذلك لعوامل عدة سنعرض لها مستقبلاً إن شاء الله..
    لكن المهم هنا أن نذكر أن المماليك كانوا قد بدءوا فترة حكمهم لمصر، وكان السلطان المظفر قطز رحمه الله هو الذي يعتلي عرش مصر في هذه اللحظات..
    وقبل الحديث عن تخطيط التتار للهجوم على مصر، ورد فعل الدولة المصرية، وقبل الحديث عن الحالة السياسية والعسكرية والاقتصادية لمصر، أود أن أشرح مقدمة ـ ولو بسيطة ـ عن نشأة المماليك، وكيف وصلوا إلى حكم مصر، وكيف تمكن قطز رحمه الله من قيادة هذا البلد الأمين، وكيف كانت كل الملابسات تشير بوضوح إلى أن صداماً حتمياًً بين جيش التتار والجيش المصري بقيادة المماليك سوف يحدث..
    كل هذا سيعطينا عمقاً تاريخياً نستطيع به أن نحلل الأحداث، ونستخرج الدروس والعبر، ونستنبط الأسباب التي أدت إلى النتائج التي سنراها..
    ولننتقل سوياً إلى المماليك!!





  3. #33
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي



    سقوط حلب
    واستمر الحصار التتري لمدينة حلب سبعة أيام فقط، ثم أعطى التتار الأمان لأهلها إذا فتحوا الأبواب دون مقاومة، ولكن زعيمهم توران شاه قال لهم: إن هذه خدعة، وإن التتار لا أمان لهم ولا عهد، ولكنهم كانوا قد أحبطوا من سقوط ميافارقين، وعدم مساعدة أميرهم الناصر يوسف لهم، وبقائه في دمشق، وتركه إياهم تحت حصار التتار لهم.. وهذا الإحباط قاد الشعب إلى الرغبة في التسليم.. واتجه عامتهم إلى فتح الأبواب أمام هولاكو، ولكن قائدهم توران شاه وبعض المجاهدين رفضوا، واعتصموا بالقلعة داخل المدينة..
    وفتح الشعب الحلبي الأبواب للتتار بعد أن أخذوا الأمان، وانهمرت جيوش التتار داخل مدينة حلب، وما إن سيطروا على محاور المدينة حتى ظهرت النوايا الخبيثة، ووضح لشعب حلب ما كان واضحاً من قبل لمجاهدهم البطل توران شاه، ولكن للأسف كان هذا الإدراك متأخراً جداً!.. لقد أصدر هولاكو أمراً واضحاً بقتل المسلمين في حلب وترك النصارى!!.. وهذه ولاشك خيانة متوقعة، والخطأ هو خطأ الشعب الذي بنى قصوراً من الرمال!.. وهكذا بدأت المذابح البشعة في رجال ونساء وأطفال حلب، وتم تدمير المدينة تماماً، ثم خرب التتار أسوار المدينة لئلا تستطيع المقاومة بعد ذلك، ثم اتجه هولاكو لحصار القلعة التي في داخل حلب، وكان بها توران شاه وبعض المجاهدين، واشتد القصف على القلعة، وانهمرت السهام من كل مكان، ولكنها صمدت وقاومت، واستمر الحال على ذلك أربعة أسابيع متصلة، إلى أن سقطت القلعة في النهاية في يد هولاكو، وكسرت الأبواب، وقتل هولاكو - كما هو متوقع ـ كل من في القلعة، ولكنه أبقى على حياة توران شاه ولم يقتله!.. وهنا يذكر بعض المؤرخين أن هولاكو قد فعل ذلك إعجاباً بشجاعة الشيخ الكبير توران شاه، وأن هذه فروسية ونبل من الفاتح هولاكو، ولكن هذه صفات لا تتناسق أبداً مع وصف هولاكو، وليس هولاكو بالذي يُعجب بمن يقاومه، وليس هو بالذي يتصف بنبل أو فروسية.. إنما الذي يتراءى لي أنه أبقى على حياته لأغراض أخرى خبيثة، فهذا العفو من ناحية هو عمل سياسي ماكر يريد به ألا يثير حفيظة الأيوبيين المنتشرين في كل بلاد الشام، وخاصة أنه قتل الكامل محمد الأيوبي منذ أيام، فإذا تتبع قوادهم بالقتل فهذا قد يؤدي إلى إثارتهم، ولا ننسى أيضاً أن كثيراً من الأيوبيين يحالفونه، ومنهم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو لا يريد أن يقلب عليه الأوضاع في الشام.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو يريد أن يفتح الباب للأمراء المسلمين أن يسلموا أنفسهم إليه دون مقاومة، فهولاكو - كما هو واضح - رجل وديع جداً، ولطيف جداً، ومسالم ونبيل جداً جداً، ويحافظ على القواد الذين يقاومونه، فما بالكم بمن دخل في حلفه!!.. ثم من ناحية ثالثة فإننا لا ننسى أن توران شاه هو عم الناصر يوسف حاكم دمشق الخائن، والإمساك بتوران شاه دون قتله قد يكون وسيلة من وسائل المساومة المستقبلية مع الناصر يوسف، أو فتح الطريق أمامه للاعتذار، وبذلك قد يوفر هولاكو على نفسه حرباً من المحتمل أن يفقد فيها عدداً من جنوده..
    أنا أعتقد أن أمثال هذه الدوافع ـ أو ما كان على شاكلتها ـ قد يناسب طبيعة هولاكو الدموية، أما أن يقال إن هولاكو تأثر بأخلاق وفروسية توران شاه فأصبح هو الآخر أخلاقياً وفارساً، فهذا ما لا يُتوقع من مثله أبداً!..
    وهكذا استقر الوضع لهولاكو في حلب، وخمدت كل مقاومة، وهدمت كل الأسوار والقلاع.. ثم أراد هولاكو أن ينتقل إلى مكان آخر في الشام، فاستقدم الأشرف الأيوبي أمير حمص، وهو أحد الأمراء الخونة الذين تحالفوا مع التتار، وأظهر هولاكو للأشرف الأيوبي كرماً غير عادي!.. فقد أعطاه إمارة مدينة حلب إلى جوار مدينة حمص، وذلك ليضمن ولاءه التام له، ولكي يتيقن الأشرف أن من مصلحته الشخصية أن يبقى السيد هولاكو محتلاً للبلاد، ولكنه بالطبع وضع عليه إشرافاً تترياً دقيقاً من بعض قادة الجند التتر، فأصبح الأمير الأشرف الأيوبي وكأنه الحاكم الإداري للمدينة، أي أصبح الأمير الأشرف الأيوبي "صورة" حاكم أمام الشعب، بينما كان هناك الحاكم العسكري التتري لحلب، والذي كان يعتبر في الواقع الحاكم الفعلي للبلد، وبيده بالطبع كل مقاليد السلطة والحكم والقوة!
    ثم اتجه هولاكو غربًا بعد إسقاط حلب، إلى حصن "حارم" المسلم (على بعد حوالي خمسين كيلو مترًا من حلب(، وكانت به حامية مسلمة رفضت التسليم لهولاكو، فاقتحم عليها الحصن بعد عدة أيام من المقاومة، وذبح كل من فيها..
    ثم أكمل طريقه غرباً بعد ذلك حتى وصل إلى إمارة أنطاكية، وهي إمارة حليفه النصراني الأمير "بوهمند"، فضرب هولاكو معسكره خارج المدينة، ثم دعا إلى عقد مؤتمر لبحث الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط الجديد (وذلك حسب الرؤية التترية)؛ فبدأ حلفاؤه في هذه المنطقة يتوافدون عليه ليقدموا له فروض الولاء والطاعة.. فجاء الملك الأرمني هيثوم، وجاء إليه أمير أنطاكية بوهمند، وجاء إليه كذلك أمراء السلاجقة المسلمون: كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وكانت إمارتهما على مقربة من أنطاكية..
    ثم بدأ هولاكو يصدر مجموعة من الأوامر والقرارات:ـ
    ـ أولاً: يكافأ ملك أرمينيا هيثوم بمكافأة كبيرة من غنائم حلب، وذلك تقديراً لمساعدات الجيش الأرمني في إسقاط بغداد ثم ميافارقين ثم حلب..
    ـ ثانياً: على سلطانَيْ السلاجقة: كيكاوس الثاني, وقلج أرسلان الرابع أن يعيدا بعض المدن والقلاع التي كان المسلمون قد فتحوها قبل ذلك إلى ملك أرمينيا، وذلك لتوسيع ملك الزعيم الأرمني، وتثبيت أقدامه في المنطقة كحليف استراتيجي أساسي لهولاكو.. ولم تكن - بالطبع - فرصة الاعتراض واردة عند السلطانين المسلمين!
    ـ ثالثاً: يكافأ "بوهمند" أمير أنطاكية على تأييده لهولاكو، وذلك بإعطاء مدينة اللاذقية المسلمة له، ليضمها بذلك إلى أملاك إمارة أنطاكية، وكانت اللاذقية قد حررت من الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ثم ظلت مسلمة إلى هذه اللحظة، ولكنها أهديت بكلمة واحدة إلى النصارى!!.. والقرار الثاني والثالث هما تطبيق للقاعدة الاستعمارية المجحفة وهي أن المحتل يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق!!
    ـ رابعاً: وهذا القرار الرابع كان قراراً غريباً، وهو ليس في مصلحة أمير أنطاكية ولا في مصلحة الملك الأرمني، ولكن هذا القرار لإثبات أن كل شيء الآن أصبح بيد السيد الجديد هولاكو، وما هؤلاء الملوك إلا "صورة" حلفاء فقط..
    وهذا القرار الغريب كان يقضي بأن يعين بطريرك جديد للكنيسة في أنطاكية المحكومة أصلاً بالنصارى!.. وليس في حلب مثلاً أو بغداد.. ولكن في أنطاكية ذاتها، ومن المعلوم أن هولاكو لم يكن نصرانياً، فالقرار يأتي من قبل من لا يفقه في النصرانية شيئاً، وفوق ذلك فالبطريرك الجديد ليس من أنطاكية!.. بل أنكى من ذلك فالبطريرك الجديد ليس من نفس المذهب النصراني الذي عليه بوهمند وهيثوم!!.. وهذه سابقة خطيرة في تاريخ النصارى..





  4. #34
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    صفعة على خد الكنيسة
    لقد عين هولاكو البطريرك اليوناني "يومنيميوس" مكان البطريرك اللاتيني )الإيطالي( الذي قدم قبل ذلك من جنوة، ولا ننسى أن الإمارات الصليبية في الشام هي إمارات مملوكة لنصارى غرب أوروبا، وهم جميعاً على المذهب الكاثوليكي، بينما البطريرك اليوناني الجديد على المذهب الأرثوذكسي، وهو مذهب أوروبا الشرقية، وبالطبع فهناك فارق هائل بين المذهبين، بل هناك أيضًا صراع هائل بين المذهبين، فكانت هذه الخطوة من هولاكو خطوة محسوبة لها مراميها الخطيرة جداً، فهو أولاً يريد إذلال أمير أنطاكية وملك أرمينيا ليعلما أنهما مجرد تابعين له لا رأي لهما، ولا يرقى إلى أذهانهما أن يتعاملا مع هولاكو "كحلفاء" على نفس المستوى، وثانياً هو لا يريد أن يكون هناك استقرار في هذه المناطق لكي لا يتوسع ملك أو أمير في المنطقة على غير رغبته، بل سيجعل كل فريق من حلفائه رقيباً على الآخر، وثالثاً كان هولاكو يريد إقامة علاقات صداقة وجوار مع الإمبراطور اليوناني، وذلك ليضمن استقرار سلطانه على أرض الشام والأناضول، وهي الأرض المجاورة تماماً للإمبراطور اليوناني، فإذا انتهى من أمر الأناضول كله، فقد يفكر في إعادة ترتيب أوراقه من جديد..
    وبالطبع كان في هذه الخطوة إهانة كبيرة لأمير أنطاكية، ولكنه كان واقعياً، وأدرك حجمه الطبيعي، وموقفه المهين فلم يعترض، ولكن كبراء قومه ووزرائه اعترضوا عليه، لكن بوهمند أصر على الرضوخ لهولاكو، ووضح لهم قدرهم الحقيقي، فهم يحكمون إمارة لا تُرى على خريطة الدنيا، بينما التتار دولة تصل في ذلك الوقت من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وقد اكتسحت في طريقها كل أملاك المسلمين، علماً بأن كل الحروب الصليبية السابقة ـ والتي قامت بها أوروبا ضد المسلمين على مدار عشرات السنين ـ لم تفلح إلا في احتلال بعض الإمارات الصغيرة المتفرقة في تركيا وسوريا وفلسطين ولبنان، ولم تكن الإمارة في الغالب سوى مدينة واحدة تحيط بها بعض القرى..
    وهكذا استقر الوضع لهولاكو في شمال سوريا وجنوب تركيا، وبدأ يفكر في التوجه جنوباً لاحتلال مدينة حماة أولاً، ثم المرور على بعد ذلك على مدينة "حمص"، وهي بلد الأمير الخائن الأشرف الأيوبي والموالي له، وذلك ليصل في النهاية إلى "المجاهد" الناصر يوسف الأيوبي وجيشه الرابض في شمال دمشق!..
    تسليم "حماة"!
    وبينما كان جيش التتار يستعد للتوجه إلى حماة، جاء إلى هولاكو وفد من أعيان حماة وكبرائها يقدمون له مفاتيح المدينة، ويسلمونها له دون قتال.. وذلك برغبتهم وإرادتهم الذاتية، ودون طلب من هولاكو!!.. وقبل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم الأمان، ولكنه كان في هذه المرة أماناً حقيقياً، وذلك ليشجع غيرهم على أن يحذوا حذوهم..

    وتحرك هولاكو بجيشه الجرار في اتجاه الجنوب، ومر على حماة دون أن يدخلها، وكذلك مر على حمص بلد "صديقه" الأشرف الأيوبي ولم يدخلها كذلك، واتجه مباشرة إلى دمشق، وبينها وبين حمص 120 كيلومترًا فقط..
    ولنترك هولاكو قليلاً، ونذهب لمتابعة الموقف في دمشق..
    الناصر يوسف يعسكر الآن في جيشه خارج دمشق، والأخبار السيئة جاءت بسقوط حصون ميافارقين، وقتل الكامل محمد الأيوبي بالطريقة البشعة التي أشرنا إليها، ثم جاءت الأخبار أيضاً بسقوط مدينة حلب واستباحتها، ثم سقوط حصن حارم، ثم تسليم حماة وحمص دون قتال.. والخطوة القادمة للتتار هي - ولا شك - دمشق!!..
    ماذا يفعل الناصر يوسف الملك الجبان، وقد أعلن حرباً ليست له بها طاقة.. ليس لقوة التتار فقط، بل لضعفه هو في الأساس؟
    لقد عقد الناصر يوسف مجلساً استشارياً هاماً يضم قادة جنده.
    ماذا نفعل؟





  5. #35
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    بطل في مستنقع الأذلاء!!
    كان المجلس يضم معظم أمراء الجيش، وعلى رأسهم الأمير زين الدين الحافظي، وكان يضم أيضاً الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وهو من أمراء المماليك البحرية الذين فروا قبل ذلك من مصر أثناء فتنة دارت بين المماليك هناك، واستقبله الناصر يوسف، وضمه إلى قواده لما له من الكفاءة العسكرية العالية جداً، والقدرات القيادية الهائلة..
    بدأ الاجتماع، ولم يكن يخفى على الحضور مظاهر الرعب والهلع التي يعاني منها الناصر يوسف، والتي انتقلت منه بعد ذلك إلى معظم أمرائه..
    وبدا واضحاً أيضاً أن الناصر يوسف لا يميل مطلقاً إلى الحرب، ولا يقوى على اللقاء، وكذلك أمراؤه، فبدأ معظم الحضور يتخاذلون، ويتحدثون عن الفجوة الهائلة بينهم وبين التتار، ثم انتقل الحديث إلى أمير الجيش الأمير زين الدين الحافظي فقام يعظم من شأن التتار، ويهون من شأن المسلمين، ويشير على الناصر يوسف ألا يقاتل..
    هنا انتفض الأمير ركن الدين بيبرس، وكانت فيه حمية كبيرة للدين، وحماسة عالية للقضاء على التتار، ورغبة جارفة في المواجهة.. لكنه وجد نفسه في مجموعة من المتخاذلين والخونة..
    صرخ الأمير ركن الدين بيبرس في وجه زين الدين الحافظي، ثم سبّه سبًّا عنيفاً، بل إنه لم يتمالك نفسه فقام وضربه، وقال له: أنت سبب هلاك المسلمين..
    وطبعاً كلام "بيبرس" وإن كان موجهاً إلى زين الدين الحافظي إلا أن المقصود الأول من الكلام هو الناصر يوسف نفسه.. فهو من أهم أسباب هلاك المسلمين.. لكن بيبرس كان يخاطب مجموعة من الأموات.. والموتى لا يسمعون!.. فما وقعت كلماته في قلب أحد..
    "إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصمَّ الدعاء إذا ولَّوا مُدبرين"
    وهؤلاء موتى!.. وصُمٌّ!.. ومُدْبرون!..
    ومن ثَمَّ اتخذوا القرار المناسب في رأيهم..
    والقرار............. هو الفرار !!!!!!!!!..
    الأمير الناصر يوسف سيفر، والأمراء سيفرون، والجيش سيفر، وستبقى مدينة دمشق وشعبها الكبير دون حماية ولا دفاع!!..
    وإنا لله وإنا إليه راجعون..
    ولم يجد ركن الدين بيبرس حلاً مع هؤلاء فتوجه إلى غزة بفلسطين، وهناك راسل سلطان مصر ليذهب عنده على أمل التوحد في لقاء التتار.. وبالفعل استقبله سلطان مصر بحفاوة، وسنأتي لتفصيل ذلك مستقبلاً إن شاء الله..
    وخلت دمشق من الأمراء والحراس..
    ومدينة دمشق مدينة كبيرة وحصينة، وكان يتوقع لها الثبات فترة طويلة قبل أن تسقط، ولكن الأمراء من أمثال الناصر يوسف يأمرون بالمقاومة ويحضون عليها ما دامت بعيدة عن أرضهم، فإذا اقتربت جيوش العدو من مدينتهم كانت الخطة البديلة دائماً هي.. الفرار..
    حدث ذلك في دمشق، ويحدث كثيراً إذا وجد أمثال هؤلاء الأمراء الأقزام..

    تسليم "دمشق"!!
    ووقع أهل دمشق في حيرة كبيرة.. ماذا يفعلون؟! جيوش التتار ستأتي إليهم في غضون أيام قليلة جداً.. والتتار لا يبقون على أخضر ولا يابس، وشعب دمشق لم يتدرب قبل ذلك على جهاد، وليست له دراية بفنون القتال، والجند المحترفون والأمراء القواد هربوا وتركوا مواقعهم..
    لقد كان الموقف في غاية التردي..
    وهنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يفعلوا مثلما فعل أهل "حماة"، فيأخذوا مفاتيح المدينة، ويسلموها إلى هولاكو، ثم يطلبوا الأمان منه، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين قرروا التحصن في قلعة دمشق، والدفاع حتى النهاية..
    وصدق ظن هولاكو عندما أعطى الأمان الحقيقي لأهل حماة، فإن ذلك دفع غيرهم من أهل المدن الكبرى أن يفعلوا مثلهم..
    وخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو، ويسلمه مفاتيح المدينة ومقاليد الحكم في دمشق..
    موت "منكوخان"..
    في هذه الأثناء حدث أمر لم يكن في حسبان هولاكو في هذا التوقيت.. لقد مات "منكوخان" زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار بذلك إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق، وبالطبع كانت هذه أزمة خطيرة، فمنكوخان يحكم دولة مهولة اتسعت في وقت قياسي، وحدوث أي اضطراب في الحكم قد يهدد هذه الدولة العظيمة بالتفكك، كما أن هولاكو - بلا شك ـ هو أحد المرشحين لحكم دولة التتار، فهو أخو منكوخان، وهو حفيد جنكيزخان، وله الانتصارات العظيمة الكثيرة، وله الفتوحات المبهرة.. ويكفيه فخرًا أنه أوَّل مَن أسقط الخلافة الإسلامية في التاريخ.. فكانت كل هذه المؤهلات تجعل هولاكو من أوائل المرشحين لحكم دولة التتار بكاملها، بدلاً من حكم منطقة الشرق الأوسط فقط..
    لذلك لما وصل خبر وفاة منكوخان، لم يتردد هولاكو في أن يترك جيشه، ويسرع بالعودة إلى قراقورم عاصمة التتار للمشاركة في عملية اختيار خليفة منكوخان، وترك هولاكو على رأس جيشه أكبر قواده وأعظمهم "كتبغا نوين"، وهو كما ذكرنا قبل ذلك من التتار النصارى..
    وأسرع هولاكو بالعودة، حتى إذا وصل إلى إقليم فارس جاءته الرسل من قراقورم بأنه قد تم اختيار أخيه "قوبيلاي" خاقاناً جديداً للتتار، ومع أن الأمر كان صدمة كبيرة لأحلام هولاكو، وكان على خلاف توقعاته، بل وعلى خلاف قواعد الحكم التي وضعها جنكيزخان قبل ذلك، إلا أنه تقبل الأمر بهدوء، وآثر أن يمكث في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وقد رأى الخيرات العظيمة في هذه المناطق، لكنه لم يرجع مرة أخرى إلى الشام، بل ذهب إلى تبريز (في إيران حالياً)، وجعلها مركزاً رئيسياً لإدارة كل هذه الأملاك الواسعة، وتبريز بالإضافة إلى حصانتها وجوها المعتدل، فإنها تتوسط المساحات الهائلة التي دخلت تحت حكم هولاكو حتى الآن، فهو يحكم بداية من أقاليم خوارزم والتي تضم كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، ومروراً بإقليم فارس وأذربيجان، وانتهاء بأرض العراق وتركيا والشام.. والذي شجعه أكثر على عدم الرجوع إلى الشام هو أن ما تبقى في بلاد الشام يعتبر جزءاً بسيطاً ضعيفاً ليس فيه مدن كبيرة، لاسيما أنه قد سمع قبل رجوعه بفرار جيش الناصر يوسف الأيوبي في اتجاه الجنوب إلى فلسطين تاركاً وراءه دمشق دون حماية.. غير أن هولاكو لم ينس أن يرسل رسالة هامة إلى "كتبغا" يؤكد له فيها على ضرورة الإمساك بهذا المتمرد الصعلوك "الناصر يوسف الأيوبي"..





  6. #36
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    دمشق بعد السقوط



    ونعود إلى دمشق..
    لقد وصل أعيان المدينة وهم يحملون مفاتيحها إلى جيش التتار، فاستقبلهم القائد الجديد كتبغا، وقبل منهم التسليم، وأعطاهم الأمان، وتقدم بجيشه لدخول المدينة العظيمة دمشق!..
    ها هي "دمشق" عاصمة الخلافة الأموية تسقط كما سقطت من قبل "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية!!..
    سقطت دمشق!.. واحدة من أعظم مدن الإسلام قاطبة.. ومن أهم ثغور الجهاد.. ومن أرقى دور العلم..
    ها هي الجيوش التترية تزحف على دمشق، وتنساب من أبوابها إلى داخلها دون أدنى مقاومة!!
    أواه يا دمشق!!..
    يا درّة الشام.. ويا قلب العالم الإسلامي!!..
    أين أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم أجمعين، والذين فتحوا هذه المدينة الحصينة منذ أكثر من ستة قرون؟
    أين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه الذي حكم الدنيا من هذا المكان؟
    أين عمر بن عبد العزيز رحمه الله الذي نشر العدل في الأرض من هذه المدينة؟
    أين خلفاء بني أمية رحمهم الله الذين فتحوا البلاد الواسعة التي يسقطها التتار الآن؟
    أين عماد الدين زنكي ونور الدين محمود رحمهما الله واللذان سطّرا بجهادهما آيات من المجد والعزة والفخار؟
    أين صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي يرقد الآن في مدينة دمشق؟
    ها قد مرت الأيام وشاهد المسلمون في دمشق أموراً ما خطر على الذهن أصلاً أن تحدث..
    لقد شاهد المسلمون ثلاثة أمراء من النصارى يتبخترون بخيولهم في مقدمة جيوشهم، وهم يخترقون أبواب دمشق، ويسيحون في شوارع المدينة الإسلامية العظيمة.. لقد كان يتقدم جيوش التتار كتبغا نوين، قائد الجيش التتري، وبصحبته الملك هيثوم النصراني ملك أرمينيا، والأمير بوهمند النصراني أمير أنطاكية.. ودخلوا جميعاً المدينة المسلمة المجيدة.. وهذه أول مرة يدخل أمراء النصارى مدينة دمشق منذ أن تركها أمراء الجيوش الرومانية أيام هرقل قيصر الروم، وذلك عند الفتح الإسلامي لها في سنة 14 هجرية..
    ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
    وأعطى التتار الأمان فعلاً لأهل دمشق فلم يقتلوا منهم أحداً اللهم إلا أولئك الذين تحصنوا في قلعة دمشق، فقد حاصرهم التتار حتى أسقطوا القلعة بعد عدة أسابيع وقتلوا كل من فيها..
    لقد سقطت دمشق في أواخر صفر سنة 658 هجرية، وذلك بعد سنتين تماماً من سقوط بغداد.. وهذا زمن قياسي حققه التتار، إذ إنهم اجتاحوا مساحات كبيرة في هذه المناطق، وأسقطوا مدناً كثيرة في العراق وتركيا وسوريا .. نعم المدن الرئيسية الثلاث هي بغداد وحلب ودمشق، لكن المدن الأخرى أيضاً ليست بالمدن البسيطة.. كما أن الكثافة السكانية في هذه المناطق كانت عالية جداً، لخصوبتها من ناحية، ولقدمها وتاريخها من ناحية ثانية، ولارتفاع مستوى المعيشة والحضارة فيها من ناحية ثالثة..
    وبالطبع هبطت معنويات العالم الإسلامي كله إلى الحضيض.. وأصبح معظم المسلمين يوقن باستحالة هزيمة التتار، كما أصبح معظمهم أيضاً يدرك أن اللحظات المتبقية في عمر الأمة الإسلامية أصبحت قليلة جداً..
    وبدأ التتار في إدارة مدينة دمشق بواسطة النصارى.. وذلك بعد أن خربوا أسوارها وقلاعها.. ووضعوا على إدارة المدينة رجلاً تترياً اسمه "إبل سيان"، وهو - وإن لم يكن نصرانيًّا - إلا إنه كان معظماً جداً للنصارى، ومحابياً جداً لهم، وبدأت المدينة تعيش فترة عجيبة في تاريخها!..
    وأنقل هنا نص كلام ابن كثير رحمه الله وهو يصف حال دمشق وقت أن تولى حكمها "إبل سيان" التتري..
    يقول ابن كثير رحمه الله:
    "اجتمع إبل سيان لعنه الله بأساقفة النصارى وقساوستهم، فعظمهم جداً، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهبت طائفة من النصارى إلى هولاكو (في تبريز) وأخذوا معهم هدايا وتحفاً، وقدموا من عنده ومعهم أمان من جهته، ودخلوا من باب توما (أحد أبواب دمشق) ومعهم صليب منصوب.. يحملونه على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: "ظهر الدين الصحيح دين المسيح"، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أوانٍ فيها خمر، لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمراً، وقماقم ملآنة خمراً يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم، ووقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفة السوق فمدح دين النصارى، وذم دين الإسلام وأهله، فإنا لله وإنا إليه راجعون..
    ثم إنهم دخلوا الجامع بخمر، فلما وقع ذلك اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء، فدخلوا القلعة يشكون هذه الحال إلى إبل سيان زعيم التتار، فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون"..
    وهكذا كان الوضع ينذر بكارثة حقيقية.. فقد وقع المسلمون بين شقي الرحى في دمشق.. بين التتار والنصارى.. وبات واضحاً للجميع أن التعاون بين الطائفتين التترية والنصرانية سيكون كبيراً، وخاصة أن رئيس المعسكر التتري في الشام نصراني وهو كتبغا، والنصارى الذين يعيشون في الشام يعرفون كل خباياها، ويدركون كل إمكانياتها.. ولا شك أن تعاونهم مع التتار سيكون ضربة موجعة للمسلمين..





  7. #37
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    نشأة المماليك

    د. راغب السرجاني




    تعتبر فترة حكم المماليك تعد من الفترات التاريخية المجهولة عند كثير من المسلمين، وذلك قد يكون راجعاً لعدة عوامل.. ولعل من أهمها أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت كانت قد تفرقت تفرقاً كبيراً، حتى كثرت الإمارات والدويلات، وصغر حجمها إلى الدرجة التي كانت فيها بعض الإمارات لا تتعدى مدينة واحدة فقط!!.. وبالتالي فدراسة هذه الفترة تحتاج إلى مجهود ضخم لمتابعة الأحوال في العديد من الأقطار الإسلامية.

    ومن العوامل التي أدت إلى جهل المسلمين بهذه الفترة أيضاً: كثرة الولاة والسلاطين في دولة المماليك ذاتها، ويكفي أن نشير إلى أن دولة المماليك الأولى -والمعروفة باسم دولة المماليك البحرية (وسنأتي إلى تعريف ذلك الاسم لاحقاً إن شاء الله)- حكمت حوالي 144 سنة، وفي خلال هذه الفترة حكم 29 سلطانًا!.. وذلك يعني أن متوسط حكم السلطان لم يكن يتعدى خمس سنوات.. وإن كان بعضهم قد حكم فترات طويلة، فإن الكثير منهم قد حكم عاماً أو عامين فقط!.. أضف إلى ذلك كثرة الانقلابات والاضطرابات العسكرية في فترة حكم المماليك، فقد قتل من الـسلاطين التسعة والعشرون عشرة، وخُلع اثنا عشر!!.. وهكذا كانت القوة والسلاح هي وسيلة التغيير الرئيسية للسلاطين، وسارت البلاد على القاعدة التي وضعها أحد سلاطين الدولة الأيوبية (قبل المماليك) وهو السلطان "العادل الأيوبي"، والتي تقول: "الحكم لمن غلب"!!..

    ولعل من أهم أسباب عدم معرفة كثيرين بدولة المماليك هو تزوير التاريخ الإسلامي، والذي تولى كبره المستشرقون وأتباعهم من المسلمين المفتونين بهم, والذين شوهوا تاريخ المماليك لإنجازاتهم المشرقة والهامة؛ والتي كان منها: وقوفهم سداً منيعاً لصد قوتين عاتيتين من قوى الشر التي حاولت هدم صرح الإسلام، وهما التتار والصليبيون، وكان للمماليك جهاد مستمر ضد هاتين القوتين، وعلى مراحل مختلفة، وظلت دولة المماليك تحمل راية الإسلام في الأرض قرابة ثلاثة قرون، إلى أن تسلمت الخلافة العثمانية القوية راية المسلمين..

    وأنا لست في هذا الكتاب بصدد الشرح والتفصيل لأخبار دولة المماليك، فإن هذا يطول البحث فيه، ولكني سأفرد إن شاء الله كتابين كاملين سأشرح فيهما بالتفصيل نشأة المماليك، وقصة دولتهم وجهادهم..

    أما الكتاب الأول فسيكون عن الحروب الصليبية، وسأتحدث فيه إن شاء الله عن تاريخ الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، ودور آل زنكي، ثم الدولة الأيوبية، ثم نشأة المماليك، ودورهم في صد هذه الحملات الصليبية..

    وأما الكتاب الثاني فسيكون عن دولة المماليك ذاتها من البداية إلى النهاية..

    لكني في هذا الفصل سأحاول أن أمر باختصار شديد على الأحداث التي أدت إلى ظهور دولة المماليك، والتي كانت تحكم مصر في الوقت الذي وصل فيه التتار إلى الشام، وذلك خلال اجتياحهم للعالم الإسلامي..





  8. #38
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    الدولة الأيوبية

    لكي نفهم هذه الفترة بوضوح لابد من العودة إلى الوراء قليلاً لمتابعة الأحداث من بدايتها..
    لقد أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569 هجرية، وظل يحكم هذه الدولة عشرين سنة إلى سنة 589 هجرية، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقق عليهم انتصارات هائلة، والتي من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الثاني سنة 583 هجرية، وفتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من نفس السنة، وترك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق وأجزاء من تركيا وأجزاء من ليبيا والنوبة.. وحُصر الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام.

    لكن -سبحان الله- بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تقلص دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتن المسلمون بالدولة الكبيرة، وكثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتفككت الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله..

    ولسنا بصدد التفصيل في هذه الخلافات والصراعات والاستقلالات، فسنفصل فيها إن شاء الله عند الحديث عن الحملات الصليبية في كتاب الحروب الصليبية، ولكن نذكر هنا أن الصراع بين أمراء الأيوبيين استمر نحو ستين سنة متصلة منذ موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589هـ، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في سنة 648 هجرية، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلام وسباب وشقاق فقط.. بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأدى ذلك بالطبع إلى الفُرقة الشديدة، والتشرذم المقيت.. بل كان يصل أحياناً الخلاف وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين!! أو التعاون مع التتار ضد المسلمين!! وكل هذا من جراء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة التي طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    روى ابن ماجة والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"..

    لقد جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفاً واحداً هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا –فعلاً- وهي راغمة..

    أما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر تماماً، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله عز وجل فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيراً، ومنهم من مات طريداً، ومنهم من مات حبيساً..
    كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي رحمه الله..





  9. #39
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    الملك الصالح نجم الدين أيوب
    في هذه الصفحات سأقفز بكم خمسين سنة من الصراع، وأصل بكم إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى سنة 637 هجرية، وذلك حين تولى عرش مصر السلطان الأيوبي "الصالح نجم الدين أيوب" أو "الملك الصالح"، والذي يعد من أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين، وللأسف فإن كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن هذا السلطان العظيم حتى في مصر، والتي كانت مقر حكمه الرئيسي..

    تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة 637 هجرية، وكالعادة الجارية في تلك الأيام استعدّ الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل معه على خلافة مصر.. وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة 641 هجرية عندما توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين لحرب الملك الصالح أيوب!!.. وذلك في مقابل أن يتنازل أمراء الشام الأيوبيون عن بيت المقدس للصليبيين!!!..

    والحق أن المرء لا يستطيع أن يتخيل كيف قبل أولئك الأمراء أن يتنازلوا عن بيت المقدس للنصارى، والمسلم الصادق لا يتخيل التفريط في أي بقعة إسلامية مهما صغرت، فكيف ببيت المقدس خاصة، والذي به ـ كما يعرف الجميع ـ المسجد الأقصى، والذي حرَّرَهُ جدهم البطل صلاح الدين رحمه الله من أيدي الصليبيين، وأريقت في سبيل تحريره دماء كثيرة، ومرت على المسلمين فترات عصيبة، وحروب مريرة.. لكن -سبحان الله- هذا ما حدث بالفعل!..

    وتوحدت قوى أمراء الشام الأيوبيين مع الصليبيين في جيش كبير، وبدأ الزحف في اتجاه مصر.. وهنا أعد الملك الصالح جيشه، ووضع على قيادته أكفأ قادته وهو ركن الدين بيبرس، واستعد للمواجهة.. وكان الجيش المصري قليلاً وضعيفاً إذا قورن بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين، ولذلك استعان الملك الصالح بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فروا من قبل من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، والذي فصلنا فيه في الصفحات السابقة..

    وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنوداً مرتزقة بمعنى الكلمة.. بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعرفت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة 642 هجرية، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية -نسأل الله عز وجل أن يحررها، وأن يحرر كامل فلسطين إن شاء الله- وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، وقُتل من الصليبيين أعداد كبيرة وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسرت مجموعة كبيرة من أمرائهم وملوكهم، وكذلك أسرت مجموعة من أمراء الأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس الذي كان الأيوبيون في الشام قد تنازلوا عنه للصليبيين، فاقتحم حصون الصليبيين، وحرّر المدينة المباركة بجيشه المدعم بالخوارزمية في سنة 643 هجرية، وبذلك حُرّر بيت المقدس نهائياً، ولم يستطع جيش نصراني أن يدخله أبداً لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم 16 نوفمبر سنة 1917م، وذلك بالخيانة المعروفة لمصطفي كمال أتاتورك.. نسأل الله أن يعيده من جديد إلى الإسلام والمسلمين..

    ثم إن الملك الصالح أيوب أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما..

    غير أنه حدث تطور خطير جداً في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة!.. وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتف هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنك ركن الدين بيبرس..

    وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لابد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله.. فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية.. وكانت هذه الطائفة هي: "المماليك"..





  10. #40
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    من هم المماليك؟

    المماليك في اللغة العربية هم العبيد أو الرقيق، وبخاصة هم الذين سُبُوا ولم يُسب آباؤهم ولا أمهاتهم..
    ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد الذي يباع ويشترى.. (العبد الذي سُبِي أبواه يعرف بالعبد القن وليس المملوك)..

    ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، إلا أنه اتخذ مدلولاً اصطلاحياً خاصاً في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي المشهور "المأمون"، والذي حكم من سنة 198 هجرية إلى 218 هجرية، وأخيه "المعتصم" الذي حكم من سنة 218 هجرية إلى 227 هجرية.. ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعداداً ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما..

    وبذلك ـ ومع مرور الوقت ـ أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية ـ وأحياناً الوحيدة ـ في كثير من البلاد الإسلامية.. وكان أمراء الدولة الأيوبية بوجه خاص يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حد ما، إلى أن جاء الملك الصالح أيوب، وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطر رحمه الله إلى الإكثار من المماليك، حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جداً، وخاصة في مصر..

    مصادر المماليك:
    كان المصدر الرئيسي للمماليك إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يجلب منها المماليك بلاد ما وراء النهر، (النهر المقصود هو نهر جيحون، وهو الذي يجري شمال تركمنستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزبكستان وطاجكستان)، وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراق تركية في الأغلب، وكانت هذه المناطق مسرحاً دائماً للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، ومن أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت كانت "سمرقند" و"فرغانة" و"خوارزم" وغيرها.. لذلك كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمنع أن هناك مماليك من أصول أرمينية ومن أصول مغولية، كما كان هناك مماليك من أصول أوروبية، وكان هؤلاء الأوربيون يعرفون بالصقالبة، وكانوا يستقدمون من شرق أوروبا بوجه خاص..

    كل هذا كان يحدث على مدار عشرات أو مئات السنين، ولكن الأمر الذي استحدثه الملك الصالح أيوب -وتبعه بعد ذلك سلاطين دولة المماليك- أنه كان لا يأتي إلا بالمماليك الصغار في السن، أي في مرحلة الطفولة المبكرة، وكان غالبهم من بلاد غير مسلمة، وإن كان يحدث أحياناً أن يؤسر بعض الأطفال المسلمين غير الناطقين بالعربية، فلا يُعرفون، ولا يُعرف أصلهم أو دينهم، فيعاملون معاملة الرقيق..

    تربية المماليك:
    وكان الصالح أيوب -ومن تبعه من الأمراء- لا يتعاملون مع المماليك كرقيق.. بل على العكس من ذلك تماماً.. فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم.. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد أبداً، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته.. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة.. حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب "الأستاذ" وليس لقب "السيد"..

    ويشرح لنا المقريزي رحمه الله كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة، فيقول: "إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلي من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عوقب"..

    لهذه التربية المتميزة كان أطفال المماليك ينشئون عادة وهم يعظمون أمر الدين الإسلامي جدًا، وتتكون لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، وتظل مكانة العلم والعلماء عالية جداً جداً عند المماليك طيلة حياتهم، وهذا ما يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في زمان المماليك، وكيف كانوا يقدرون العلماء حتى ولو خالفوهم في الرأي.. ولذلك ظهر في زمان دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله جميعاً، وظهرت أيضاً غيرهم أعداد هائلة من العلماء يصعب جداً حصرهم..

    ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً في المهارة القتالية، والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب..

    ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تماماً في المجال العسكري والإداري، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة.. وهذا كله - بلا شك - كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال..
    وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء..

    وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحياناً كان السلطان الصالح أيوب - رحمه الله - يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حباً كبيراً حقيقياً، ويدينون له بالولاء التام..

    وهكذا دائماً.. إذا كان القائد يخالط شعبه، ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم -ولاشك- يحبونه ويعظمونه، ولا شك أيضاً أنهم يثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا كلفهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه.. أما إذا كان القائد في حالة انفصال عن شعبه، وكان يعيش حياته المترفة بعيداً عن رعيته.. يتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون ناحيته بأي انتماء.. بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم نفسها.. ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل..

    وكان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح هو قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش وهكذا..

    وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم..
    فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية وهكذا..

    وقد زاد عدد المماليك الصالحية، وقوي نفوذهم وشأنهم في عهد الملك الصالح أيوب، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً.. وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة بالقاهرة، وكان النيل يعرف بالبحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية "بالمماليك البحرية" (لأنهم يسكنون بجوار البحر).

    وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك الذين وصلوا إلى أرقى المناصب في جيشه وفي دولته، وتولى قيادة الجيش في عهده أحد المماليك البارزين اسمه "فارس الدين أقطاي"، وكان الذي يليه في الدرجة هو ركن الدين بيبرس، فهما بذلك من المماليك البحرية..





 

صفحة 4 من 11 الأولىالأولى 12345678 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رسول الله في كتب السابقين !( فى كتب الهندوس) د . راغب السرجانى
    بواسطة عبدالرحمن السلفى في المنتدى البشارات الحق بمبعث سيد الخلق
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 2012-06-09, 02:30 PM
  2. قصة الحروب الصليبية مع د. راغب السرجاني
    بواسطة kholio5 في المنتدى ثمار النصرانية
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 2011-04-16, 01:17 PM
  3. عناية الاسلام بالنفس الانسانية : د. راغب السرجانى
    بواسطة بن الإسلام في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-01-19, 11:26 AM
  4. جميع مقالات الدكتور راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 95
    آخر مشاركة: 2010-10-31, 01:37 PM
  5. سلسلة فتح مصر بقلم د. راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 2010-10-20, 09:39 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML