صفحة 4 من 4 الأولىالأولى 1234
النتائج 31 إلى 36 من 36
 
  1. #31
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 42
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    اليرموك: اليوم الثاني

    تجمع المسلمون والروم عند منطقة اليرموك, وبعد أن التقت القوات الرومية مع القوات الإسلامية في (5 من رجب 15هـ)، بدأ المسلمون يخرجون بعض أبطالهم للمبارزة، التي نتج عنها استشهاد 4 من المسلمين، وقتل خمسة من الروم..

    شعر خالد بن الوليد بقلة جيشه (33 ألفًا، مقابل 200 ألف)، وأنه يجب أن يغيروا خطة الحرب، فأتى أبا عبيدة فقال:والله يا أبا عبيدة إن هؤلاء قد أقبلوا بعدد وجَدٍّ وحدٍّ وإن لهم لشدة لا يردها شيء، وليست خيلي بالكثيرة، ولا والله لا قامت خيلي لشدة خيلهم ورجالهم أبدًا (وخيله يومئذ أمام صفوف المسلمين ثلاثة) فقال خالد: قد رأيت أن أفرق خيلي فأكون في أحد الخيلين، وقيس بن هبيرة في الخيل الأخرى (يريد أن يقسم خيله نصفين، كل منهما ألف فارس) ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة (ميمنة المسلمين بقيادة معاذ بن جبل ، والميسرة عليها قباث بن أشيم) فإذا حملوا على الناس، فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم، وإن كانت الأخرى حملت خيولنا عليهم وهي جامَّة (أي مستريحة) وهم قد انتهت شدتهم وتفرقت جماعتهم، ثم نحمل عليهم وهم كذلك، فأرجو عندها أن يظفرنا الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم، وقد رأيت أن يجلس سعيد بن زيد (وكان في مؤخرة الجيش ) مجلسك هذا (في المقدمة مكان أبي عبيدة، ويرجع أبو عبيدة إلى المؤخرة) ويقف من ورائك بحذائك مائتان أو ثلاثمائة من الفرسان ذوي الوجوه يكونون للناس ردءًا وأراد من ذلك أنه إذا حاول أحد المسلمين الفرار، فإنه يستحي من أبي عبيدة عندما يراه في الخلف، فيعود مرة أخرى للقتال.. (وليس إجبارًا على القتال، كما يفعل الروم)، قالوا: فقبل أبو عبيدة مشورته وقال: افعل ما أراك الله، وأنا فاعل ما أردت.

    كما أشار عليه أن يجعل صفوف المسلمين ثلاثة صفوف فقط، حتى يغطي المساحة عرضًا أمام الجيش الرومي، الذي يبلغ عمقه 20 صفًّا، وعرضه 6 آلاف جندي، أي أن عرضه 9 كلم تقريبًا، يريد خالد أن يغطي مساحة العرض، حتى لا يجعل لهم فرصة في الالتفاف على جيش المسلمين، وهو أمر صعب تكتيكيًّا في القتال، لا يستطيع أن يقوم به إلا المجاهدون المسلمون الأقوياء..

    كذلك ذهب إلى معسكر النساء رضي الله عنهن من شرق المنطقة إلى وسط الجيش، يقول لهن: إذا أتاكم أحد المسلمين، فذكروه بالدفاع عنكن، وعن أولادكن (ورد في تاريخ دمشق قوله: يا نساء المسلمين، أيما رجل أقبل إليكنَّ منهزمًا فاقتلنه)، كما أخذ يذكر المسلمين أن نساءهم وبناتهم، إن هم فرُّوا، سيقعن سبايا في أيدي الروم، وهذا سلاح نفسي جديد..

    فكان هذا أسلوب خالد في منع الفرار: بدأ في البداية بأسلوب الخطابة، والموعظة، وقراءة القرآن في الجيش كله (قراءة سورة الأنفال على كل فريق من المسلمين)، كما أرسل إلى جيوش المسلمين الكثير من الخطباء الذين وعظوا الناس، وثبتوهم في هذا المكان.

    كما استعمل السلاح النفسي بوضع النساء خلف الجيش، وكذلك بجعل أبي عبيدة في المؤخرة..

    الروم يولون الأدبــار!!

    واقترب موعد صلاة المغرب، والهجوم كاسح من المسلمين، يقابله تراجع غير محسوب من الروم، واقتراب عنيف من الهاوية، وجاءت الأوامر أن يؤخر المسلمون صلاة المغرب مع العشاء، حتى يصلوها "بعد الفتح"، (وذلك حتى لا ينسى أحد المجاهدين نية "جمع التأخير" فتضيع عليه الفريضة، وهو أمر مثير للاستغراب، فمع كل ذلك القتال العنيف، إلا أن الصلاة تكون دائمًا في أذهانهم)..

    ويأتي الليل، ويسود الظلام، فيخترق أحد المسلمين جيش الروم ويصل إلى باهان قائد الروم العظيم، ويقاتله قتالاً قصيرًا، فيقتله..

    ويؤثر قتل باهان على نفسية الروم تأثيرًا شديدًا، وتنهار معنوياتهم تمامًا، ويرفع أبو سفيان صوته بالنداء: (يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين) على الرغم من أنه أصبح كفيفًا إلا أنه لا يزال يحمس المسلمين، بإرادة تهد الجبال. (وكأنه يريد أن يمحو حروب سنين طويلة ضد رسول الله)..

    يقول الرواة: فكأن الروم حائط، قد هدَّه المسلمون فوقع..

    وأظلم الليل، وكانت ليلة ضبابية، فلم يعد المسلمون قادرين على رؤية أحد من الروم، إلا الصف الأول فقط، ويلاحظون أنه يهرب منهم.. حتى أظلم الليل تمامًا، فلم يعد المسلمون يرون أحدًا من الروم..

    فتوقف المسلمون عن القتال بعد صلاة العشاء، ووقفت بعض الفرق للحراسة، ولم يكونوا يعلمون من تبقى من الروم، وبدأوا يضمدون جراحهم.

    وكان ممن يضمد جراحه عكرمة بن أبي جهل، وكان في اللحظات الأخيرة من حياته، يطلب ماءً ليشرب، فلما جيء له بالماء، سمع أحد المسلمين يطلب الماء، فيقول: اذهب إليه بالماء لعله أحوج إليه مني، فيذهب الرجل ويترك عكرمة، إلى هذا الرجل الثاني، الذي ما إن يصل إليه حتى يسمع استغاثة رجل آخر يطلب الماء، فيقول له: اذهب إليه واسقه، لعله أحوج مني بالماء، فيذهب إليه، ويجده قد مات، قبل أن يشرب؛ فيعود إلى عكرمة فيجده قد مات قبل أن يشرب أيضًا!!! رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، فيذهب للثاني فيجده قد مات، فماتوا جميعًا عطشى في الدنيا، ولكنهم يوم القيامة يسقيهم رسول الله ..

    يقوم أبو عبيدة بن الجراح بنفسه بحراسة القوم في هذه الليلة، ويتفقد الجيش الإسلامي، خشية أن يباغتهم الروم في الظلام، وفي مروره يجد فارسين، يتفقدهما، فإذا هما الزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، يدوران حول المعسكر لحمايته، فيقول: يا ابن عمة رسول الله (ويقصد الزبير) ما الذي أخرجكما؟ فيقول الزبير: نحرس المسلمين، ذلك أن أسماء قالت: إن المسلمين مشتغلون بأنفسهم هذه الليلة عن الحراسة، لما لحقهم من التعب والجهاد طوال يومهم، فهل لك أن تساعدني على حراسة المسلمين؟ فأجبتها إلى ذلك.

    فعزم عليهما أبو عبيدة أن يرجعا، إلى أماكنهم، فرفضا، وظلا من الليل، حتى صبيحة اليوم التالي، ساهرين في سبيل الله..

    ويمر الليل كله بلا اضطرابات، ويصلي المسلمون الفجر، وبعد الفجر يبدأ النور في الظهور، ويتطلع المسلمون لأرض المعركة، فيُفاجأون مفاجأة مذهلة، إذ يجدون القتلى من الروم نحو 50 ألف قتيل، ويجدون في الواقوصة (80 ألف) رومي، أو أكثر ساقطين فيها، إذ تعدهم بعض الروايات 120 ألف رومي، عدهم ابن أخي حسان بن ثابت: شداد بن أوس، أي أن قتلاهم بلغ 130 ألفًا وهرب منهم في بداية المعركة 30 ألفًا، فهناك 40 ألفًا إذاً قد اختفوا.

    وهكذا لقي المسلمون أعظم انتصار على أقوى جيش أعده الروم منذ بدأت حروبهم، على الرغم من كل الإعدادات والقساوسة والرهبان، الذين أعدهم (هرقل)، فانتصر المسلمون عليهم انتصارًا رائعًا..

    وكان شهداء المسلمين 3 آلاف شهيد فقط.. روت دماؤهم الزكية أرض اليرموك، وفازوا ورب الكعبـة..

    { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ *الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ *الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ *إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 169- 175].

    دور المرأة المسلمة في المعركة:

    وكان ممن قاتل مع المسلمين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وأيضًا جويرية بنت أبي سفيان, فبذلك تكون عائلة أبي سفيان كلها في المعركة، وهند بنت عتبة –زوجته- تحمس الجيش من الخلف.

    بل إن واحدة من المسلمات لا يُعلم اسمها، شوهدت في هذا اليوم، تجري بفرسها وراء رومي، وهو يفر منها، حتى لحقته وقتلته، وقالت بعد أن قتلته: "هذا بيان نصر الله للمسلمين", فإذا وصلت الحرب إلى أن نساء المسلمين يقتلن رجال الروم، فإن في ذلك دلالة على نصر الله للمسلمين.

    وفي هذه الأثناء يستقر سهمٌ آخر في العين الأخرى لأبي سفيان ، فيعمى تمامًا، وكثرت الإصابات في أعين المسلمين في ذلك اليوم، حتى أصيبت 700 عين -كما ورد في الطبري- حتى سمي يوم اليرموك في التاريخ بـ "يوم التعوير".

    (فعل المسلمون ذلك في الأنبار، وفتح المدائن).

    وهكذا سالت كثير من الدماء، والجراحات، واشتد الأمر تمامًا على المسلمين، ومرت الظهيرة، واقترب وقت العصر، كل ذلك، ولا يزال خالد بن الوليد ، خلف الميمنة، وقيس بن هبيرة خلف الميسرة، بقواتهما لا يقاتلان، والمسلمون يتحملون أشد أنواع الحرب من الروم، بكل صبر..

    تغير في موازين القوى:

    بعد كل ذلك يتمكن الروم من ضغط ميسرة المسلمين وميمنتهم إلى القلب، وتصبح لديهم الفرصة مواتية للالتفاف على الجيش الإسلامي، وبدأت قوات الروم تتسرب خلف الجيش الإسلامي: من الميمنة، ومن الميسرة، وخالد بن الوليد يراقب عن كَثَب، حتى تسربت القوات الرومية فعلاً وطوقت الجيش الإسلامي من خلفه، وأصبحت قريبة من معسكر النساء، وكانت قوتهم تبلغ 20 ألف مقاتل رومي.

    عندئذٍ تحرك "سيف الله المسلول" خالد بن الوليد ، وقال: يا أهل الإسلام،لم يبقَ عند القوم من الجلد والقتال والقوة إلا ما قد رأيتم، فالشدةَ الشدةَ، فوالذي نفسي بيده، ليعطينَّكم الله النصر عليهم الساعة، إني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم. (في كل خطاباته يظل حريصًا على أن ينسب الفضل لله ).

    ويعطي الإذن بالبدء في القتال لفرقته المكونة من ألف فارس. ولفرقة قيس بن هبيرة المكونة من ألف فارس..

    فانطلق المسلمون بعد إذن خالد بن الوليد، وكأنهم سيل هادر كان محتجزًا خلف صخرة، رافعين أيديهم بالسيوف، وأصواتهم بالتكبير على ميمنة وميسرة الجيش الرومي يدكونه دكًّا، وبوغت الروم بهذا التحرك مباغتةً شديدة، على الرغم من أن الميمنة والميسرة تبلغ (100 ألف مقاتل) تواجه (ألفي مجاهد)، ولكنهم كانوا غير مرهقين، لم يحاربوا بعد، فكان نشاطهم شديدًا، واشتياقهم للقتال، والأخذ بثأر إخوانهم أكبر، كما أنهم راغبون في الشهادة في سبيل الله، بينما الروم مرهقون أشد الإرهاق، وخائفون من المسلمين، ومباغَتون من هذا الهجوم، الذي باغتهم به خالد بن الوليد، بل كانوا يعتقدون أنهم بمجرد إزاحة الميمنة إلى القلب، والانطلاق خلفها، قد انتصروا، أو تأكدوا من هزيمة المسلمين!!.

    فارتطم خالد بن الوليد ارتطامًا شديدًا بميسرة الروم، واقتحم قيس بن هبيرة كذلك بميمنة الروم، وكان نتيجة ذلك نتائج لم يتوقعها أحدهما، إذ إنه في أول هجمة للمسلمين قُتِلَ على الفور (10 آلاف) مقاتل من الروم!!!... {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17], ففوجئ الروم بذلك مفاجأة عظيمة، وأيقن فرسان الروم بالهلاك، وشعروا بأنهم مقتولون لا محالة فلم يكن منهم إلا أن فكروا في الهرب..

    ورأى خالد بن الوليد أنهم يجهزون أنفسهم، حتى يستطيعوا الالتفاف من خلف خالد والهروب من المهرب الوحيد خلف الجيش الإسلامي، فلم يكن من خالد بن الوليد إلا أن فكر بواقعية، ولم يغتر بمقتل عشرة آلاف رومي، وإنما ترك لهم فرصة لكي يهرب فرسانهم الآلاف الخمسين، ويتبقى له بقية الجيش، يمكنه التغلب عليه..

    فنادى بصوت مرتفع للمسلمين: " أفسحوا لهم الطريق، اتركوهم، ولا تُكرهوهم على القتال"، فهرب في هذه اللحظة (ثلاثون ألف) فارس من الروم، (عشرون ألف من الميسرة المواجهة لخالد، و10 آلاف من القلب).. كل ذلك في الهجمة الأولى..

    وكانت النتيجة الثالثة لهذه الهجمة المباغتة أن قائد الميسرة الرومي (درنجر) المتنسك العابد (الذي كان يعلم أنه لا يقاتل على حق) لما رأى ذلك، علم أن ما كان يشعر به كان صوابًا، وتيقن أن النصر حليف المسلمين، وأنه إنما يقاتل القدر، ولا يمكنه أن ينتصر أبدًا، ففعل ما لم يتوقعه أحد من المسلمين، ولا الروم، فجاء بثوب، ولفه حول رأسه، وجلس في أرض القتال، وقال: لا أريد أن أرى هذا اليوم المشئوم!!..

    فقد تملك الرعب قلبه، وخانته رجلاه عن الهرب، وجلس ينتظر من يقطع رقبته، الذي سرعان ما جاء فجز رأسه في ثوبه، لِيَمُوت هذا القائد ميتة لم يمتها قائد من قبل!!

    بعد ذلك بدأ المسلمون في الضغط على بقية الجيش الرومي، فهجم المسلمون هجومًا شديدًا وحاصروا الروم في المكان الضيق من أرض اليرموك، (تجاه الواقوصة)، وحاربهم المسلمون حربًا شديدًا، وزادت الحمية في قلوب المؤمنين، وارتفعت معنوياتهم بشدة، وظهرت النماذج الفريدة، وأرسل خالد بن الوليد رسائل خاصة؛ فأرسل للزبير بن العوام: أن هذا وقت الاقتحام، والهجوم المضاد، ورسالة إلى القعقاع بن عمرو التميمي، وكان في مقدمة المسلمين، وهاشم بن عتبة، وإلى معاذ بن جبل وإلى شرحبيل بن حسنة، وإلى أبو عبيدة بن الجراح والأشتر النخعي، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وقباث بن أشيم وهاشم بن مرّ وقيس بن مرّ وضرار بن الأزور والمقداد بن عمرو والمذعور بن عدي وعياض بن غنم وعكرمة بن أبي جهل..

    يمر خالد على الناس ويحفزهم، ويقول: أيها المسلمون إن عدوكم يألم كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون.

    التحام الجيشين من جديد:

    تقترب الجيوش الرومية من الجيش الإسلامي، ويرتب خالد جيشه، واستعد للقتال، ووضح من تحركات الجيش الرومي أنه سيهجم بميسرته (وقائدها درنجر القائد المتنسك)، على ميمنة المسلمين بقيادة معاذ بن جبل، وهو الذي سيبدأ الهجوم، والضربة الأولى ستتحملها الميمنة عليه، فلما رأى معاذ جيوش الرماة تقترب منه صاح في جنده: "يا معشر أهل الإسلام إنهم قد تهيئوا للشدة ولا والله لا يردهم إلا الصدق عند اللقاء والصبر عند القراع".

    ثم هجمت الكثرة الرومية على القلة المؤمنة، وكان قتالاً شديدًا، استمر فترة طويلة من الزمن، وثبت المسلمون ثباتًا عجيبًا، لا يفهمه الدنيويون..!! ويشتد البأس من قبل الروم، ويبدءون في الضغط على الجيش الإسلامي، والمسلمون ثابتون لا يتحركون، وخالد وفرقته يرون ما يحدث للمسلمين وهم خلف الميمنة، ولا يتحركون؛ لأن الخطة ألا يتحركوا حتى يجهد الروم تمامًا.

    وربما كان صبر خالد ومن معه -وهم يرون إخوانهم يتلقون سيوف الروم، ويُقتَلون بها أمامهم، وتروي دماؤهم أرض اليرموك، ولا يتحركون!!- أشد من صبر هؤلاء الذين يتحملون ضربات الروم، وهذا من بُعد نظر خالد ، إذ كان يُصَبِّرهُم، ويقول لهم: "رويدًا رويدًا".

    أُرْهِقَ بعض المسلمون في الميمنة من شدة القتال، وبدءوا يتراجعون بظهورهم، وإن كانت بعض الجزر الإسلامية ما زالت تقاتل، فتأتي النساء من الخلف، وكان فيهن السيدة خَوْلة بنت ثعلبة الأنصارية، كانت من المجاهدات في اليرموك، فقالت:

    يا هاربًا عن نسـوة تقيـات *** ميت بالسهم وبالمنيات

    فعن قليلٍ ما ترى سبيـات *** ولا حصيات ولا رضيـات

    فثبت المسلمون، وعادوا إلى أماكنهم...

    وكان أشد الضرب في الميمنة على قبيلة "دوس"، التي قتل منها في بداية المعركة عمرو بن الطفيل وابنه جندب بن عمرو، إذ كان أكثر الشهداء في الميمنة منهم، فقام أبو هريرة وهو من قبيلة دوس، وقال: تزينوا للحور العين، وارغبوا في جوار ربكم، في جنات النعيم، فما أنتم إلى ربكم في موطن من مواطن الخير أحب إليه منكم في هذا الموطن (يذكرهم بأن هذا المكان: أرض الجهاد، أحب إلى الله حتى من المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ومن كل الأماكن المقدسة؛ لأن الجهاد قد فرض عليهم في هذا الوقت) ألا وإن للصابرين فضلهم، وحرمة دم المسلم، خير عند الله تعالى من حرمة الكعبة.

    الصلاة وسط صليل السيوف:

    وحانت الظهيرة (وكان الالتحام قد بدأ عند الشروق) وهي فترة نحو 6: 7 ساعات، والجيش المسلم يحارب أمام سيول متدفقة من الجيش الرومي، ثم تأتي الأوامر بعد الظهر أن يصلي المسلمون الظهر والعصر جمع تقديم، إيماءً على الخيول، بوجوههم فقط..

    أي جيشٍ هذا!! وأي قوم هؤلاء، الذين بين صليل السيوف، وتساقط الرءوس، وشدة الحرب، يثبتون، ويهتمون بالصلاة، ولا يتوقفون عن القتال.

    يشعر المرء أن الصلاة عندهم كالتنفس، أو كضربات القلب، ليس لها أي ثقل على النفس.

    ويصف عبد الأعلى بن سراقة، أحد المجاهدين في الميمنة، موقف المسلمين آنذاك، فيقول: وركب المسلمين أمثال الجبال من الروم، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأينا الروم تدور بالمسلمين كما تدور الرحى، فما رأيت موطنًا أكثر قحفًا ساقطًا (القحف هو عظم الجمجمة عندما يطير بالسيف) أو معصمًا نادرًا (زائلاً عن موضعه) أوكفًّا طائحة، من هذا الموطن.. ( أي أن أرض هذا المكان امتلأت بأشلاء القتلى، من عظام الرأس، والأيدي والمعاصم) والناس يضطربون تحت القسطل (أي الغبار الشديد) وقد والله أوحلناهم شرًّا وأوحلونا، حتى لقينا من قتالهم مالم يلقَ أحد من قبلنا من مثلهم قطُّ!!

    في أثناء هذا الهجوم العنيف، يصدر (باهان) الأمر الثاني، بتحرك ميمنة الجيش الرومي تجاه ميسرة المسلمين، وترتطم ميمنة الروم ارتطامًا شديدًا بالميسرة المسلمة على رأسها قباث بن أشيم ، وكان هو أشد الناس قتالاً في الميسرة، وكان في المقدمة دائمًا حتى إنه كَسَرَ في الروم ثلاثة رماح وسيفين، وكان كلما كسر رمح من رماحه أو سيف من سيوفه، يقول: من يعير سيفًا في سبيل الله، رجلاً قد حبس نفسه مع أولياء الله، وقد عاهد الله لا يفر، ولا يبرح.

    فيعيره المسلمون أحد السيوف، فيقوم، ويقاتل، حتى يكسر سيفه، فيعيد مقولته، فيعيره أحد المسلمين سيفًا آخر، فيذهب ويقاتل... وهكذا..

    كما كان يزيد بن أبي سفيان من أشد الناس قتالاً أيضًا في هذا اليوم، على الرغم من أنه المشرف العام لميسرة المسلمين، يقول حبيب بن مسلمة: كان يزيد بن سفيان من أعظم الناس غَنَاءً، وأحسنهم بلاءً، هو وأبوه جميعًا، فقد كان أبو سفيان يقاتل تحت راية ابنه يزيد، وهو يقاتل بعين واحدة وكان قد فقد إحدى عينيه في حصار الطائف عام 9هـ, وكان يمر به فيقول له: يا بني عليك بتقوى الله والصبر فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محفوفًا بالقتال, فكيف بك وبأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين أولئك أحق الناس بالجهاد والنصيحة, فاتق الله يا بني والزم في أمرك ولا يكونن أحد من إخوانك بأرغب في الأجر والصبر في الحرب ولا أجرأ على عدو الإسلام منك.

    قال: أفعل.

    فقاتل يومئذ في الجانب الذي كان فيه واقفًا قتالاً شديدًا[1]..

    وعلى الميمنة كان الموقف لا يزال شديدًا، وبدأ المسلمون يتراجعون ببطء، ويثبت فيهم عمرو بن العاص ، وقد كان قائد الميمنة، فكل القادة في هذه الحروب يكونون أشد الناس قتالاً، ومن هنا تظهر لنا حكمة اختيار هؤلاء كقادة، لأنهم أقدر على القتال، وليس لمجرد الأفضلية، وإنما الأصلح للمكان...

    فيثبت عمرو وجماعة معه، ويشتد عليهم ضغط الروم، فإذا بهم يتراجعون ومعهم عمرو، ولكنهم لا يولون الأدبار، فلما بدأ يتراجع، وشعر نساء المسلمين بأنهم يتراجعون، أسرعت أم حبيبة بنت العاص (أخت عمرو)، فوقفت وراءه، وقالت: قبَّح الله رجلاً يَفرُّ عن حليلته (زوجته)، قبح الله رجلاً يفر عن كريمته (بنته، أو أخته)، فلما قالت ذلك ثبت المسلمون مرة أخرى، وحملوا على الروم حملة شديدة، وكان من أشد المحمُّسات هند بنت عتبة التي كانت تقول: قاتلوا أيها المسلمون، فلستم ببعولتنا إن لم تمنعونا.
    أما القلب، قلب جيش المسلمين، فقد جاءت الأوامر من باهان بالتقدم أيضًا للهجوم عليه، وبذلك التحم الجيش الرومي بكامله، مع الجيش الإسلامي.. ولم يكن القتال في القلب بأفضل مما هو عليه في غيره، بل كان على أشد ما يكون، وكان على جزء من المقدمة سعيد بن زيد، وعلى الجزء الآخر هاشم بن عتبة رضي الله عنهما، وكوَّن شرحبيل بن حسنة وهو قائد القطاع الأوسط "القلب" مع سعيد جبهة يقاتلون فيها فلم يكن أحد يقاتل مثلهم، وهم من القادة، وكان سعيد بن زيد يخطب في المسلمين، يقول: {إنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 111].

    الاستراتيجية العسكرية لخالد بن الوليد:

    في المقابل بذل الروم جهودًا أخرى لمنع جنودهم من الفرار، فوضعوا الجيش أمام (الواقوصة) وهي هاوية عمقها أربعمائة متر من هوى فيها مات، كما ربطوا 30 ألف مقاتل منهم بالسلاسل، يضعون كل 10 في سلسلة، حتى يمنعوهم من الهرب!!، هذا بالإضافة إلى الوعود المادية الكثيرة، وقليل منهم من يفكر في الأموال في هذا الموقف؛ فالروح أعز وأهم، فيظلون متشبثين بالحياة، ويفكرون في الفرار طويلاً..

    وهذا هو الفرق بين الجيش الإيماني، جيش العقيدة، وجيش دنيوي، مما يضع أمامنا بعض مفاتيح النصر..

    ونتوقف لنقرأ تحليل أحد المحللين العسكريين الألمان المعاصرين (كلاوس فيتز) في القرن التاسع عشر، الذي كان أقوى محلل عسكري في ذلك الوقت، ويذكر في كتابه (في الحرب): أن أروع لحظات الدفاع هي لحظة الانتقال السريع والقوي إلى الهجوم كضربة ثأر بسيف بتار، والطرف الذي لا يفكر في هذه اللحظة منذ البداية، ولا يدخلها عند نشوب العمليات في مفهوم دفاعه، لا يمكن أن يفهم أبدًا تفوق الدفاع.

    يرى أن الدفاع خير وسيلة للهجوم، فيظل الجيش في الدفاع، حتى يستهلك العدو قوته، ثم يبدأ الهجوم، وهذه أروع لحظات المعركة، وفيها تُشَلُّ قوة العدو.

    وقد وضعها في القرن 19 الميلادي، ثم جاء محلل آخر يدعى (ليدل هاد) يسمونه: نبي الاستراتيجية العسكرية في القرن العشرين؛ فنقض نظرية الألماني في جزء منها، فقال:

    إن الهدف من المعركة هو إحداث صدمة تربك تفكير العدو، بتوجيه ضربة له في مكان لا يتوقعه، وإحداث خسارة مادية تؤثر على نفسية العدو.

    (وبذلك فهو يرى أن الأجدى ليس الدفاع، وإنما توجيه ضربة للعدو لا يتوقعها، تحدث خسارة مادية، تكون نتيجتها انهيار معنويات العدو).

    ثم يقول: وحاول أن تخلق الفوضى في صفوف عدوك، إذا كنت تنوي ضربه الضربة الساحـقة، ويؤيد (كلاوس فيتز) في جزئية أخرى، تخص ما نحن بصدد الحديث عنه هنا، فيقول: إذا كان عدد الجنود في معسكرك يقل عن عدد الجنود في معسكر العدو (كموقف المسلمين في موقعة اليرموك) فحاول مؤقتًا أن تعطيه فرصة للهجوم على معسكرك، ولا تهجم عليه.

    وأكبر الظن أنك ستواجه ناحية ضعيفة في معسكر العدو، لتفاجئه أنت بالهجوم، عندئذٍ استجمع كل قوتك، واعزم على النصر، وسيكون النصر حليفك.

    ولو نظرنا لخطة خالد بن الوليد ، ثم قارناها بما يقوله خبراء العسكرية بعده بقرون، لوجدنا خالدًا في الجزء الأول من المعركة في اليرموك كان عازمًا على الأخذ بخطة "كلاوس فيتز" الأولى، وهي أنه يدافع حتى تنهك قوى الجيش الرومي، ثم يقتحم بعد ذلك، ويهجم عليهم، وفي الجزء الثاني من المعركة، أراد أن يفاجئ جيش الروم بضربة تحدث خسارة مادية واضحة، وتؤثر على نفسيتهم، ومعنوياتهم.

    وبذلك استعمل خالد النظريتين معًا في هذه المعركة، قبل خبراء العسكرية بنحو 13 قرنًا، وهاتان النظريتان يدرسان في الكليات العسكرية الآن، ولا يشار بأي كلمة إلى أن هناك قائدًا مسلمًا طبَّق هذه النظريات في موقعة واحدة، هو سيف الله المسلول وأرضاه.

    وللأسف الشديد لم نقدر نحن سيدنا خالد قدره، فلم نقم حتى بتدريس هذه النظريات العسكرية الإسلامية المبتكرة في مدارسنا، أو كلياتنا العسكرية!!

    [1] تاريخ دمشق لابن عساكر.


    يُتبع بإذن الله ،،،




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  2. #32
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 42
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    بين اليرموك والقادسية

    بعد انتصار المسلمين في موقعة اليرموك، وانهزام جيش الروم هزيمة نكراء، وهروب 70 ألف مقاتل، (30 ألفًا أثناء القتال، و40 ألفًا بعد ذلك).كانت قوة الجيش الإسلامي آنذاك 30 ألف مجاهد، وقد اعتادوا أن يلاحقوا الفارِّين بعد كل معركة، فخرجت قوة مكونة من 5 آلاف مجاهد، بقيادة "خالد بن الوليد" لتعقب الفارين، حتى لا يعودوا للقتال مرة أخرى، وبالطبع فإن 5 آلاف قادرين على ردع الـ 70 ألف، لاختلاف الدوافع عند كل منهم، واختلاف العوامل النفسية، بين فارين منهزمين، ومنتصرين أقوياء..فيخرج خالد بن الوليد في إثرهم، عن طريق دمشق، ويقابل في الطريق بعض فلول الجيش الرومي، فيقاتلهم، ويبيدهم عن آخرهم، في معركة قصيرة جدًّا، ثم يصل إلى دمشق (100 كلم) بعد يوم صعب من القتال، فخرج له أهل دمشق، واستقبلوه، وقالوا له: إنهم على العهد معه (الصلح)، وأنهم سيدفعون الجزية، فأقرهم خالد على ذلك، وقبل منهم نفس العهد السابق، وأخذ منهم الجزية، واتجه فورًا في اتجاه حمص في إثر بقية الفلول الرومية الهاربة، وقابل في طريقه إلى حمص مجموعة أخرى من الروم في ثنية العقاب، فحاربهم وانتصر عليهم انتصارًا سريعًا، وأبلى فيها الأشتر النخعي بلاءً حسنًا.ثم انطلق باتجاه حمص (نحو 225 كلم)، وهناك وجد أهل حمص –كذلك- يخرجون إليه، يؤكدون أنهم على العهد، لرضاهم بالجيش الإسلامي، فقبل منهم خالد، وأخذ منهم الجزية، وبقي في حمص في انتظار الأوامر من أبي عبيدة .وبعد أن عرف أبو عبيدة بوصول خالد إلى حمص ترك فرقة في اليرموك على رأسها بشير بن كعب، وتوجه إلى دمشق, وأرسل من هناك رسالة لعمر بن الخطاب ، يبشره فيها بالفتح والنصر! ومعها خمس الغنائم، فقال في رسالته: "لعبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، من أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي أهلك المشركين، ونصر المسلمين، وقديمًا ما تولَّى اللهُ أمرهم، وأظهر نصرهم، وأَعَزَّ دعوتهم، فتبارك الله رب العالمين، أُخبرُ أمير المؤمنين أنا لاقينا الروم في جموع لم تلق العرب مثلها قَطُّ، فأتوا وقد علموا أنه لا غالب لهم اليوم من الناس أحد، فقاتلوا المسلمين قتالاً شديدًا ما قُوتل المسلمون مثله في موطن قط، ورزق الله المسلمين الصبر، وأنزل عليهم النصر، فقتلهم الله في كل قرية، وكل شعب، وكل واد، وكل جبل، وسهل، وغنم المسلمون عسكرهم، وما كان فيه من أموالهم، ومتاعهم، ثم إني اتبعتهم بالمسلمين حتى أني بلغت أقاصي بلاد الشام حمص، وقد بعثت إلى أهل الشام عمالي، وقد بعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام -أي القدس- فإن قبلوا وإلا فليؤدوا إلينا الجزية عن يَدٍ وهم صاغرون، فإن أبوا سرت إليهم حتى أنزل بهم، ثم لا أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله، والسلام عليكم".ففي هذه الرسالة بشر أبو عبيدة عمر بالنصر والفتح، وأخبره بتوجهاته التالية، وهي إرسال جيوشه إلى أقاصي الشام، ورسله من اليرموك إلى القدس (إيلياء)، وهي لم تُفْتَحْ بعدُ.ولما وصلت الرسالة إلى عمر بن الخطاب فرح بها فرحًا شديدًا، ولم تنم المدينة ليلتها، بل باتوا فرحين يهنئ بعضهم بعضًا بالنصر، ثم أرسل عمر رده إلى أبي عبيدة، يقول له: "من عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد،فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله للمشركين، ونصره للمؤمنين وما صنع لأوليائه وأهل طاعته، فأحمد الله على حسن صنيعه إلينا، واستتم الله ذلك بشكره، ثم اعلموا أنكم لم تظهروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة، ولكنه بعون الله ونصره، ومنه وفضله، فلله المنُّ والطَّوْل، والفضل العظيم، والسلام عليكم ".فهذه رسالة عمر بن الخطاب في وقتٍ غدا هو فيه رئيس أعظم دولة في العالم آنذاك، ومع ذلك نلمح في خطابه التواضع، ونسبة الفضل كله لله، وأن النصر كله من عند الله ، وأنهم جند الله، ليس لهم من الأمر شيء.بعد توجه أبي عبيدة إلى دمشق واستقراره فيها، تأتيه خطبتان متشابهتان لمعركتين مختلفتين:في القادسية:

    خطبة سعد في القادسية جاء فيها: "إن الله هو الحق وحده لا شريك له في الملك، وليس لقوله خلف، وهو يقصد قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون} [الأنبياء: 105]. وقال في آخرها: فإن تزهدوا في الدنيا، وترغبوا في الآخرة، جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرب ذلك أحدًا إلى أجله, وإن تهنوا وتفشلوا وتضعفوا، تذهب ريحكم، وتوبقوا آخرتكم".وجاء في خطبة عاصم بن عمرو في القادسية أيضًا: "إن صبرتم، وصدقتموهم الطعن والضرب، فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم وبلادهم، وإن خرتم وفشلتم، والله لكم جار وحافظ، لم يبق من هذا الجمع منكم باقية", ثم يقول: "اجعلوا الآخرة همكم، يا معاشر العرب إنكم تخاطرون بالجنة، وهم يخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا أمرًا تكونوا به شينًا على العرب غدًا".وفي اليرموك:

    جاء في خطبة أبي عبيدة: "يا عباد الله انصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، فإن وعد الله حق، يا معشر المسلمين اصبروا، فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومضحدة للعار، فلا تبرحوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدأوهم بقتال، والزموا الصمت إلا من ذكر الله".ولمعاذ بن جبل: استشهد بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55], وقال: "أنتم إن شاء الله منصورون، فأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، واستحيوا من ربكم، أن يراكم فرارًا من عدوكم، وأنتم في قبضته، ورحمته، وليس لأحدٍ منكم ملجأ من دونه، وليس فيكم متعززٌ بغير الله سبحانه"[1].- في الخطبتين نلاحظ الحث على الصبر، ووحدة الصف الإسلامي، والرغبة في الآخرة، وحتمية انتصار المسلمين، إن شاء الله، وتركيبة الجيش المسلم النفسية واحدة، مما أنتج هذا التشابه.من هذا التشابه الموجود في المعركتين، يطرأ سؤال، هل سنجد موقعة، أو معركة حربية كبرى قريبة ينتصر فيها المسلمون، ويمكنون في الأرض؟والإجابة بالتأكيد بالإيجاب؛ لأن الله I وعد بذلك، فنحن لا يهمنا الزمان، ولا المكان، وإنما نحن على يقين، بأن معركة ما قريبة، سينتصر فيها المسلمون -لا شَكَّ- على أعدائهم، ولكن ما يهمنا هو صفة هذا الجيش المسلم، وهو أنهم فرسان بالليل رهبان في النهار.ثم نعود بعد ذلك إلى أرض الشام، حيث يبدأ أبو عبيدة في تقسيم الشام إلى قطاعات أربع، يولي على كل قطاع رجلاً من المسلمين، وفي كل قطاع تتم تصفية جميع الجيوب الرومية المتبقية.هناك أقوال أنها كانت عام 13هـ.

    أوجه المقارنة والشبه بين اليرموك والقادسية:

    على ذكر القادسية، وتوجه المسلمين من الشام إلى العراق، نعقد مقارنة بين الجيشين، والمعركتين، وخاصة أنه هناك عدد من نقاط التشابه بينهما، (مثلما قدم ابن تيمية مقارنة بين الأحزاب، وبين حروب التتار) فعوامل النصر ثابتة، ولو تكررت هذه العوامل في جيش من الجيوش لا بد من تكرر النتائج.وكذلك فإن عوامل الهزيمة لو توفرت (حتى لو كان جيشًا مسلمًا) فإن النتيجة ستتحقق، فإذا تذكرنا هزيمة المسلمين الوحيدة في الشام التي كانت في مَرْج الصُّفَّر الأولى، وهزيمتهم الوحيدة في فارس التي كانت في موقعة الجسر، نجد أن أسباب الهزيمة متقاربة، أهمها: اختيار قائد غير محنَّك في القيادة، على الرغم من تميزه بالشجاعة والإيمان، (خالد بن سعيد في مرج الصفر، وأبي عبيد بن مسعود في الجسر), لكنهما افتقدا المهارة في القيادة، ولذلك اعترض البعض على توليهما إمارة الجيوش.جدول المقارنة :

    يفصل بين الموقعتين مئات الأميال، ولكن الشبه قريب بينهما:
    اليرموك - القـادسيـة
    الجيش الإسلامي: 32 ألف مجاهد - 32 ألف مجاهد.المدد: ألف بقيادة سعيد بن عامر - 6آلاف بقيادة هاشم بن عتبة.المـجـموع: 33 ألف - 38 ألف (من اليوم الثاني في القتال).

    القائـد العـام: أبو عبيدة بن الجراح - سعد بن أبي وقاص
    (وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة، ومن أوائل من أسلم من المسلمين، على يد أبي بكر الصديق ).

    قائد المعـركـة: خـالد بن الولـيد - خالد بن عرفطة
    لثقة أبي عبيدة في قيادته - (لأن سعد كان مريضًا، وتملأ جسمه الدمامل؛ فارتفع فوق حصن يراقب المعركة، وهو نائم على بطنه).

    أهل بـدر: 100 منهم - 70 منهم يشاركون في المعركة.
    تقسيم الجيش: 38 كردوسًا (الكردوس من800 إلى ألف) - 10 أقسام.

    صفة الجيش الإسلامي: رهبـان في اللـيل، فرسـان في الـنهـــــار (وهي شهادة الأعداء قبل المسلمين، فهي شهادة الجواسيس المرسَلين من قِبَلِ الفرس والروم، في أرض المعركة) وهذه الصفة لو تحققت في أي جيش، وفي أي عصر من العصور، لتحقق لهم النصر دائمًا.
    طريقة تجميع الجيش:

    التـطـوع - يدعوهم الخليفة للجهاد، فيخرج من يريد منهم، وذكرنا ما حدث من نفور المسلمين في البداية من الخروج.. وكلهم يرجو الشهادة في سبيل الله.

    بعض الصحابة: الزبير بن العوام، سعيد بن زيد - سلمان الفارسي، النعمان بن مقرن، وإخوته العشرة (الأعراب). معاذ بن جبل، أبو هريرة، أبو الدرداء، عبد الله بن مسعود - عبد الله بن أم مكتوم (على الرغم من أنه ضرير) عمرو بن العاص، المقداد بن عمرو، أبو ذر الغفاري - وقد استشهد في اليوم الثالث من القتال. وعبد الله بن سلام (اليهودي الذي أسلم) - ربعي بن عامر (ومعروف حديثه مع رستم)، زيد بن صوحان (رجل تسبقه يده إلى الجنة). حنظلة بن الربيع، سعد بن عبيد، عطارد بن حاجب، سهيل بن عدي، أرطأة بن كعب (استشهد).

    ومن الصحابيات: هند بنت عتبة، أسماء بنت أبي بكر - الخنسـاء
    خولة بنت ثعلبة، جويرية بنت أبي سفيان.واشترك في المعركتين: القعقاع بن عمرو، وهاشم بن عتبة، المغيرة بن شعبة، عمرو بن معديكرب، قيس بن هبيرة،عياض بن غنم.

    جيش الأعداء: 200 ألف رومي - 240 ألف فارسي.
    نوعهم: روم وعـرب - فرس وعرب

    .
    القائد في المعركة: بـاهـان (أعظم قوادهم) - رسـتـم (أعظم قوادهم).وقُتِلا في أرض المعركة من خلال جندي غير معروف من المسلمين.
    أقوى أسلحتهم: الفـرسـان 80 ألف - الفِيَلَة (33 فيلاً).

    صفـة الجيشين: الإفسـاد في الأرض، والتسلط على الجنود.
    وهذا ديدن كل جيش، أو سلطة لا تُبْنى على عقيدة، أو إيمان، حتى وإن كان مسلمًا في ظاهره.

    طريقـة تجميع الجيش: الحديد والنار، إجباريًّا على كل بالغ حتى الشيخ الفاني!! ويسلسلون من يخشون هروبه.

    [1] تاريخ دمشق لابن عساكر 2/149.


    يتبع إن شاء الله ,,,




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  3. #33
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 42
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    فتح القدس

    بعد أن انتصر المسلمون في اليرموك، أمر أبو عبيدة خالدًا أن يخرج في إثر الروم إلى أن وصل حمص، وأخذ أبو عبيدة جيشه إلى دمشق.
    قسم أبو عبيدة رضي الله عنه منطقة الشام إلى مناطق أربعة، كالتالي:
    الأولى: دمشق وما حولها بإمارة يزيد بن أبي سفيان.
    الثانية: منطـقـة فلسطين بإمرة عمرو بن العاص.
    الثالثة: منطـقـة الأردن بإمرة شُرَحْبِيل بن حسنة.
    الرابعة: حمص وما حولها، بإمرته هو.
    وأخذ خالد معه إلى قطاع حمص؛ لأن بقية شمال الشام لم يفتح بعد، بالإضافة إلى أنه كره أن يعطيه إمرة أحد قطاعات الشام فيغضب عمر لذلك (لأن عمر قرر عزله، حتى لا يفتن الناس به).
    وكانت مهمة كل قائد في كل منطقة أن يطهر المنطقة من جنود الروم وأتباعهم، فبدأ كل أمير بتنفيذ تلك المهمة في قطاعه، وقضوا بقية رجب في ذلك..
    عمر بن الخطاب يتسلم مفاتيح القـدس:
    لما استسلم أهل (إيلياء / القدس) للمسلمين، اشترطوا عليهم أنهم لن يسلموا مفاتيح القدس إلا لرجل تنطبق عليه مواصفات خاصة، اختلف فيها في كتب التاريخ، وقيل إنها لم تكن من طلبات أهل القدس، ولكن ذكرت مواصفات جسمية لرجل معين، وأن اسمه يتكون من ثلاثة حروف، فوجد المسلمون أن هذه المواصفات لا تنطبق إلا على الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
    فجاء عمر رضي الله عنه، من المدينة المنورة ليتسلم مفاتيح القدس، واستخلف عليًّا رضي الله عنه على المسلمين في المدينة المنورة. (يرد في كتب التاريخ أنه استشار عثمان، وعليًّا، فأشار عليه عثمان بألا يذهب، وأشار عليه علي بأن يذهب، وأخذ برأي علي).
    وهناك احتمال آخر، أن يكونوا قد أخذتهم العزة، ألا يسلموا تلك المدينة الحصينة، ذات القيمة العالية عندهم للجيش الإسلامي، فأحبوا أن يسلموها إلى أعلى قيادة في المسلمين، حتى يظل معلومًا أنها استعصت على جميع الجيوش الإسلامية، وبقيت حتى جاءها أمير المسلمين بنفسه، وتسلم مفاتيحها.
    وهناك رأي (رواية ثالثة) تذكر أن أهل القدس لم يطلبوا مجيء عمر، ولكن أبا عبيدة لما رأى صعوبة فتحها أرسل إلى عمر، لكي يأتيه بمدد يعينهم.
    في كل الأحوال، فإن الثابت تاريخيًّا أن عمر جاء من المدينة المنورة لفتح القدس بنفسه.
    وكانت الهيئة التي جاء بها عمر رضي الله عنه مختلَفًا فيها أيضًا، هناك رواية مشهورة جدًّا نعلمها جميعًا، على الرغم من أنها رواية ضعيفة، لا توجد حتى في تاريخ ابن كثير، تذكر هذه الرواية، أنه جاء هو وغلامه على دابة وحده (وهو أمر مُستغرَب، لأن الدولة الإسلامية كانت غنية جدًّا آنذاك، بعد فتح الفرس، وانتصارات المسلمين المتوالية في الشام)، وكانا يتناوبان الركوب على الدابة، حتى وصلا إلى أرض الشام، واقتربا من الجيش الإسلامي، ورآهم الجيش، وبعض أهل القدس، فاعترضتهم مخاضة (أي وحل)، وكان دور عمر في المشي، ودور الغلام في الركوب، فأَصَرَّ عمر على أن يمشي، ويترك الغلام راكبًا دابته، ودخل هذه المخاضة بقدميه، خالعًا نعله.
    لما رأى سخرنيوس بطريرك القدس ذلك التصرف، قال: "إن دولتكم باقية على الدهر، وقال: فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة".
    وهناك رواية أخرى تذكر أن أبا عبيدة بن الجراح لما رأى ذلك، ورآه يرتدي ملابس قديمة، فأسرع إليه، وقال له: يا عمر قد صنعت اليوم صنيعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا، وكذا، (وقال له: إنك دخلت البلد بهذه الهيئة الرَّثَّة، ومشيت على الوحل) وأن هذا لا يليق بوالي المسلمين.
    فضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صدره، وقال له: ولو كان غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تبتغون العزة في غيره، أذلكم الله!!.
    إذ لا يؤمن عمر بهذه المظاهر، والوجاهة الفارغة التي يهتم بها الروم، وإنما العزة لله وللمسلمين.
    وقد وردت هذه الرواية في كتاب لابن الجوزي، في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم توجد عند العديد من المؤرخين، حتى إن رواية ابن كثير المشابهة لهذه الرواية، يذكر فيها أن عمر جاء على ناقته، فاعترضته مخاضة، فنزل من ناقته حتى يعبر على قدمه، ثم عاد وركبها مرة أخرى، ولم يأتِ ذكر الغلام.
    وهناك روايات أخرى (أعتقد أنها رواية الطبري في تاريخ الرسل والملوك)، تزعم أنه جاء رضي الله عنه، بجيش لنجدة المسلمين، وقالوا: إنه كان على مقدمة هذا الجيش العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأن هذا الجيش ذهب مستعدًا لفتح القدس ومحاصرتها مع الجيش الإسلامي الموجود في الشام.
    وبين هذين الرأيين أقوال كثيرة، وهناك من لم يتعرض لهيئة مجيء عمر أصلاً، ويذهبون إلى أن ذلك دلالة على أنه جاء في هيئة حسنة، لا تثير الاستغراب!
    لم يدخل عمر إلى القدس مباشرة، وإنما ذهب إلى منطقة الجابية وكان المسلمون هناك مستعدين لاستقباله، مع أبي عبيدة بن الجراح، وخالد، ويزيد، فرحبوا به ترحيبًا عظيمًا، وهمَّ أبو عبيدة أن يقبل يدَ عمر بن الخطاب، فهَمَّ عمر أن يقبل قدم أبي عبيدة, (وردت في الطبري) فكفَّ أبو عبيدة، فكفَّ عمر.
    وهو موقف يوضح لنا درجة التواضع التي كانوا عليها، رضوان الله عليهم أجمعين.
    وقام في الجابية يخطب خطبة طويلة عصماء، جاء فيها:
    "أيها الناسُ أصلحوا سرائركم تَصلُحْ علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تُكْفَوْا أَمْرَ دنياكم"، وقال فيها أيضا: "فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد"، وقال أيضا: "ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما".

    نص العهدة العمرية:


    حضر والي القدس بعد الأرطبون من القدس إلى الجابية (وكان يُدعَى: العَوَّام)، واتفقا على صلح القدس، وكتب عمر بن الخطاب (العهدة العمرية)، التي حفظها التاريخ، وأجمع عليها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا نصها:
    "بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحيمِ، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان -وإيلياء هي القدس- أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضَارّ أحدٌ منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود, (نعم أيها المسلمون، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود, كان هذا طلب أهل القدس أنفسهم؛ لأنهم كانوا يكرهون اليهود بشدة -وكان اليهود يذبحون أسرى النصارى عند الفرس- حتى إنه في رواية أخرى للمعاهدة (ولو مرَّ بها يهوديٌّ، لا يبيت فيها ليلة) لأنهم كانوا يعادون اليهود عداءً حقيقيًّا), وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرِجُوا منها الروم، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصُلُبَهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم، ومن أقام منهم فعليه مثل ما على أهل إيلياء، ومن شاء أن يسير مع الروم، سار مع الروم وهو آمن، ومن شاء أن يرجع إلى أهله، رجع إلى أهله، وهو آمن، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكُتِبَ وحُضِرَ سنة خمس عشرة".


    وهكذا كان صلحًا في غاية التسامح مع أهل المدينة، وكل من يسكن معهم فيها.
    وبذلك سُلِّمَتْ مفاتيحُ القدس لعمر بن الخطاب نفسه، وبدأت نفوس المسلمين في الجابية تشتاق إلى دخول الأرض المقدسة, ورؤية المسجد الأقصى، ورؤية مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعدَّ المسلمون، وتحركت الجيوش لدخول القدس فتحًا.

    قطاع حمص:

    خرج أبو عبيدة من حمص إلى حماة، ففتحها، ثم اتجه إلى حلب، وحاصرها بضعة أيام، ثم نزل أهل حلب على العهد، وصالحوه على الجزية، وفُتِحَتْ بذلك حلب صلحًا، ثم توجه بعد ذلك إلى المنطقة المهمة مدينة أنطاكية، وهي مهمة؛ لأن هرقل اتخذها مقرًّا له في الشام، وذلك حتى يكون قريبًا من جيشه، وبعيدًا عن أراضي المعارك، (وهي مدينة من الشام، أخذها الاستعمار وأعطاها لتركيا).
    وكان هرقل قد فكر في الفرار بعد هزيمة الروم في اليرموك، وعلمه أن المسلمين يتجهون لحمص، ويستعدون لفتح شمال الشام.
    إلا أن الروايات اختلفت فيما فعله، البعض يذهب إلى أنه توجه إلى منطقة الرها شمالي الجزيرة (بين الفرات ودجلة)، حينما عرض نصارى تلك المنطقة مساعدته، فلما توجه إلى هذه المنطقة، وعلم عمر بذلك، أرسل رسالة إلى سعد بن أبي وقاص في القادسية، وأمره بأن يرسل من جيشه من يحاربه، فأرسل سعد عمر بن مالك رضي الله عنه، ففتح عمر مدينة هيف، وقرقسياء ووصل قرب هرقل، فهرب هرقل إلى القسطنطينية.!!
    وهناك رواية أخرى تذهب إلى أنه ترك أنطاكية مباشرة، إلى القسطنطينية.
    وكان هرقل يحب سوريا جدًّا، حتى إنه عندما كان يذهب للحج في بيت المقدس، كان يمر على سوريا في طريق عودته، وكان يقف على تلٍّ عالٍ هناك ويقول:
    "عليكِ السلام يا سوريا، تسليم مودعٍ لم يقضِ منك وطرًا، وهو عائد!", أما هذه المرة فيقف على نفس هذه التلة، ويقول: "قد كنت سلمتُ عليكِ من قبل تسليم المسافر، أما اليوم فعليك السلام يا سوريا، تسليم المفارق، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدًا، لا يعود روميٌّ إليكِ أبدًا إلا خائفًا، عليك يا سوريا السلامُ ونعم البلدُ هذا للعدو"..
    وهكذا يودع هرقل سوريا وداعًا نهائيًّا، وكان يود لو لم يحارب المسلمين، وسلَّم الشام كلها دون قتال، إلا أن وزراءه أبوا عليه إلا الحرب!!.
    قبل أن يصل أبو عبيدة إلى أنطاكية، وعلى بعد نحو 5 أميال شرق أنطاكية، يلتقي بقوات رومية في منطقة مهروبة ويدور بينهما قتال سريع ينتصر فيه أبو عبيدة، وتتراجع القوات إلى حصون أنطاكية، وأنطاكية بها جبل يحيطها شرقًا، ومن الجهة الأخرى سورٌ عالٍ جدًّا، ولا شك أن هذا من أسباب جَعْلِ هرقل منها مقرًّا له، فيحاصر أبو عبيدة أنطاكية، ولا تصمد كثيرًا؛ فتستسلم، وتقبل الجزية..
    بعد أن فتح أبو عبيدة أنطاكية، تصله معلومات أن هناك مجموعة من القوات الرومية تجمعت في منطقة مَعَرَّة نصرين شمال شرقي حلب، فأخذ جيشه من أنطاكية إلى معرة نصرين فيدور هناك قتال سريع، وتُفتح معرة نصرين في النهاية..
    ثم ينتقل شمالاً إلى قورس ويفتحها صلحًا، وهي مدينة على الحدود السورية التركية، وبذلك يكون قد طَهَّرَ الشام كله من الروم، ولا يكتفي بذلك بل يأخذ جيوشه ويتجه شرقًا حتى يصل إلى منبج على نهر الفرات، فيفتحها صلحًا، ثم يتجه جنوبًا إلى مدينة بالس فيفتحها صلحًا.
    وبذلك ينتهي عام 15هـ، وقد تطهر شمال وشرق الشام تمامًا من الجيوش الرومية..
    في هذا الوقت تأتيه الأنباء أن عمرو بن العاص قد استعصى عليه فتح مدينة القدس، وكذلك يافا وقيسرية، ويكون في حمص بعض المدن التي لم تفتح بعد، فيُؤَمِّر أبو عبيدة بعضًا من قواده، ليتوجهوا إلى فتح بقية البلاد الحمصية، ويتجه هو إلى مدينة القدس.
    تخرج قوة من حلب تفتح مدينة بوقة، وتخرج قوة أخرى تفتح مدينة خُنَاصِرَة، وثالثة تفتح مدينة سرمين، ثم يستخلف أبو عبيدة على مدينة حمص عُبَادة بن الصَّامِت رضي الله عنه (الذي قال عنه عمر: إنه رجلٌ بألف رجل), ويوصيه بثلاث مدن اللاذقية، وجبلة، وطرطوس، وكلها مدن ساحلية.
    فيتجه عبادة إلى اللاذقية، ويحاصرها فتستعصي عليه، ويأتي أهلَها مددٌ، فيحتال عبادة رضي الله عنه لفتحها، فيَصُفَّ نصف جيشه صفوفًا أمام المدينة، ويجعل النصف الآخر مختبئًا خلفه، يحفر حفرًا عميقة، وخنادق طويلة، وأهل اللاذقية لا يعلمون عن ذلك شيئًا، ثم لما حفر تلك الحفر والخنادق، أخذ جيشه، في النهار، وتوجه باتجاه حمص، موهمًا أهل اللاذقية أنه ينسحب، ولما جَنَّ الليل عاد مرة أخرى..

    فتح بيت المقدس:

    بعد أن فتح عمرو بن العاص رفح، وانتهى من هذه المنطقة توجه بجيشه إلى القدس، وحاصرها، ومكث في حصارها مدة طويلة، وللقدس أهمية عظمى عند المسلمين كما نعلم؛ لأن فيها أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أرض إسلامية يحرص المسلمون على استعادتها دائمًا.
    بعد أن أعيت عمرو بن العاص رضي الله عنه كل الحيل، على الرغم من أنه داهية العرب الذي قال عنه عمر بن الخطاب: "لقد رمينا أرطبون الروم، بأرطبون العرب، فانظروا عَمَّ تنفرج"، فكر في أن يحتال للأمر، فقام بدخول القدس بنفسه، باعتباره رسولاً من رسل المسلمين إلى أرطبون حتى يفاوضه، وغرضه أن يدخل فيبحث عن نقطة ضعف تمكنه من اقتحام تلك المدينة الحصينة، فذهب بنفسه، وبمفرده لأرطبون، وتحدثا سويًّا حديثًا طويلاً لم يرد في كتب التاريخ! ولكن يبدو أنه كان فيه مباراة ذكاء قوية جدًّا، لدرجة أن أرطبون الروم قال بعد انتهاء المناقشة: "والله إن هذا لعمرو، أو الذي يأخذ عمرو برأيه"؛ لأنه يعرف عمرو بن العاص، ويسمع عن دهائه ومكره، أو الذي يستشيره عمرو، ففكر في قتله، وقال: إنه لن يصيب المسلمين مصيبة أعظم من هذه، فأمر أحدَهم سرًّا أن يقتله، وشعر عمرو بفطنته بذلك، (وهناك من روى أن أحد العرب أَسَرَّ له بأنه سيقتل)، ففكر, كيف يخرج من هذا المأزق؟ فقال لأرطبون: إنني واحد من عشرة أرسلنا عمر بن الخطاب، لنعاون هذا الوالي (يقصد عمرو بن العاص) فإن أردت أن أذهب، وأعود إليك بالعشرة فتسمع منهم ويسمعوا منك، فإن وافقوا على رأيك، كان هو الرأي، وإن رفضوا عرفت أمرك! ففكر أرطبون أن عشرة أفضل من واحد، فتركه يخرج، فخرج عمرو، وبمجرد خروجه كبر المسلمون تكبيرًا شديدًا، فتعجب الروم، وعلموا أنه (عمرو بن العاص)، وقال أرطبون: "خدعني الرجل، والله إنه لأدهى الخلق".
    وحمد عمرو بن العاص الله على عودته، وقال: "واللهِ لا أعودُ لمثلها أبدًا"، إذ كان ذلك جرأة كبيرة منه، وكان بعد ذلك إذا أقسم قال: "والذي أنجاني من أرطبون"..
    أرسل عمرو إلى أبي عبيدة، ينبئه بتعذر فتح القدس عليه، فجاءه أبو عبيدة من مدينة بالس حتى يحاصر معه مدينة القدس، ثم جاء شرحبيل بن حسنة، ثم خالد بن الوليد من قنسرين حتى يحاصر معهم القدس، وحاصروها حصارًا شديدًا لشهور طويلة.
    ووجد أهل المدينة أن المسلمين مستمرون في الحصار، فلم يكن من أرطبون إلا أن هرب من القدس، وتوجه إلى مصر، ومكث هناك فترة طويلة، مع حامية الروم هناك، حتى جاءه بعد ذلك عمرو بن العاص في فتح مصر.
    (هذا القائد المحنك على الرغم من ذكائه، وسعة حيلته، إلا أنه يخاف على نفسه، فإذا به ينجو بنفسه، ويترك قومه للهلكة!! وفي المقابل نجد قادة المسلمين يضحون بأنفسهم، حتى يبحث عن نقطة ضعف العدو، وخالد، الذي كان يجعل علامة بدء القتال أن يبدأ هو، وكانوا دائمًا في مقدمة الصفوف، ولم يكونوا ليتراجعوا في أحلك الظروف، ارجع لموقعة الجسر مثلاً (إذ كان آخر المسلمين انسحابًا هو قائدهم).

    قطاع فلسطين:

    توجه عمرو بن العاص رضي الله عنه من بيسان إلى مدينة سبطية شمال غرب نابلس، ( ويذكر أن فيها قبر سيدنا زكريا u)، ثم يتجه منها إلى نابلس، ثم جنوب غرب، يفتح مدينة اللد ومدينة عمواس، ثم توجه جنوبًا إلى بيت جبرين، مرورًا بأجنادين، ثم اتجه جنوبًا وفتح رفح، واتجه شمالاً مرة أخرى ففتح عسقلان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ثم يافا، وقيل: إنها استعصت عليه!! ثم توجه إلى قيسرية فحاصرها فترة واستعصت عليه، ولم يستطع أن يفتحها.
    وهكذا فإن في النصف الثاني من عام 15هـ استطاع عمرو بن العاص أن يفتح فلسطين كلها، باستثناء 3 مدن، هي (قيسيرية، ويافا، وأهمهم القدس, أولى القبلتين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم), استعصت تلك المدن على عمرو.
    وكانت أسوار القدس عالية، وكانت حاميتها -على الرغم من صغر عددها- صابرة على القتال، وكان قائد الروم عليها رجلاً يُضْرَبُ به المثل في الدهاء والمكر، وهو أرطبون وهو ذائع الصيت، يعرفه العرب حتى قبل الفتوحات، وضربوا به المثل في المكر والحيلة والدهاء.

    قطاع الأردن:

    فتح شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه مدينة سيفيه ثم مدينة جرش، ثم اتجه شمالاً وفتح مدينة أفيق، ثم فتح منطقة الجولان شمال شرق بحيرة طبرية، (هذه المدن التي كانت أرضًا للجهاد، ثم ها هي مدينة جرش اليوم، يقام فيها احتفالات غنائية، وسينمائية، في حين نجد الجولان في يد اليهود!!).
    أصعب مناطق الشام كان قطاع حمص: وفيه أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد لفتح قنسرين، وقال: إنه سيتوجه لفتح حلب، وكان في قنسرين على الرغم من صغرها حامية رومية قوية جدًّا، وفيها حصن ضخم، على رأسها، قائد من كبار قادة الروم، يدعى ميناس، وكان وزير هرقل، واتخذ من قنسرين مقرًّا له، فتوجه إليه خالد بن الوليد، ودار بينهما قتال شديد خارج حدود قنسرين، واستمر القتال فترة طويلة، وصبر الروم، حتى قُتِلَ ميناس، وعلى غير عادتهم ظلوا يقاتلون بعد مقتل قائدهم، (وهي المعركة الوحيدة التي صمدوا فيها) وفَنَوْا عن آخرهم! لم يتبق منهم أحد، ولم يفر منهم أحد، وكان شهداء المسلمين (في المقابل) قليلين جدًّا، فانتصر خالد انتصارًا عظيمًا في هذه المنطقة.
    كان هناك بعض العرب الموالين للروم في قنسرين، ولما هزم الروم، وقُتل قائدُهم هربوا، فحاصر خالد الحصن، ورفض القوم الخروج منه، فقال خالد: "لو كنتم في السحاب لحملنا اللهُ إليكم، أو لأنزلكم إلينا ", لما سمعوا هذا الكلام، ألقى الله U في قلوبهم الرعب، فلم يكن منهم إلا أن استسلموا، وطلبوا الأمان، ومصالحة المسلمين على الجزية، فقبل منهم خالد ذلك، ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعجب، وقال: "أَمَّرَ خالدٌ نفسه، يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني! إني لم أعزله عن ريبة، لكن الناس عَظَّموه، فخشيتُ أن يُوكَلُوا إليه"، أي أن أداءه يفرض عليه أن يجعله أميرًا، ولم يكن عزله إلا أنه خاف أن يفتن به الناس، ويظنوا أن النصر من عند خالد، يقول ذلك بعد أن عزله بعامين، رضي الله عنهما، وأُمِّرَ على منطقة قنسرين، وبقي فيها رضي الله عنه.


    قطاع دمشق:

    توجه يزيد من دمشق غربًا إلى بيروت، وعبر الجبال الشاهقة، (طريق وعر وشاق) وفتحها، ثم اتجه جنوبًا وفتح صيدا، ثم عاد لبيروت، واتجه منها شمالاً جبيل ثم توجه إلى طرابلس التي استعصت عليه، فتركها، وتوجه إلى عرقة على بحر الروم..
    وكان في مقدمة جيشه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، لأول مرة، وهو الذي فتح طرابلس بعد ذلك، وساحل البحر الأبيض المتوسط كله، وينتهي به المطاف إلى ولاية الشام, وكانت منطقة دمشق من أسهل المناطق فتوحًا بشكل عام.



    يرجى مراجعة الرابط لوجود عرض توضيحي لتحركات الجيوش
    http://islamstory.com/ar/صلح_القدس_فتح_الشام

    يتبع بإذن الله ،،،




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  4. #34
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 42
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    دخول عمر بن الخطاب القدس واستكمال فتح الشام

    بعد أن عقد عمر صلحًا مع أهل القدس، وأعطاهم الأمان، ما عدا اليهود؛ توجه بجيشه من الجابية لدخول القدس، فلما اقترب منها، ورآها من بعيد صعد على جبل، وكبر، فكبر المسلمون، وسمي هذا الجبل بجبل المكبر، ودخل عمر القدس ليلاً، وحينما دخل بحث عن كعب الأحبار (الذي كان يهوديًّا ثم أسلم) وسأله عن مكان الصخرة (أي المسجد الأقصى) (وكان أمير القدس قد حاول أن يضلله عن مكانه) عن تاريخ الطبري: فقال: يا أمير المؤمنين اذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعًا فهي ثَمَّ (هناك)؛ فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله تعالى على خطئهم في ذلك, والمقصود أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلاثمائة سنة طهروا مكان القمامة واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضًا في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه فلما فتح عمر بيت المقدس وتحقق موضع الصخرة أمر بإزالة ما عليها من الكناسة حتى قيل: إنه كنسها بردائه، (وفعل ذلك معه الصحابة والتابعين) حتى طهر الباب فدخلوا إلى الساحة وصلى عمر في محراب داود ركعتين تحية المسجد، ثم انقضى الليل، وجاء الفجر، فأَذَّنَ المؤذن لصلاة الفجر، وهي أول مرة يُؤَذَّن فيها في القدس الشريف.
    وصَلَّى عمر بن الخطاب بالناس، وصلى الركعة الأولى بسورة (ص) وسجد فيها سجدة داود، وصلى في الركعة الثانية بصدر سورة الإسراء، وبعد الصلاة عادوا لتنظيف بقية أنحاء المسجد، ثم قرر المسلمون بناء المسجد الأقصى، لأنه كان مجرد سور، بداخله مساحة واسعة فقط، فاستشار عمر بن الخطاب كعبًا: أين يضع المسجد؟ فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة، (القدس شمال مكة، فلو بنى المسجد خلف الصخرة، عندئذٍ من يتجه نحو القبلة في البيت الحرام، ستكون الصخرة حائلاً بينه وبين القبلة) فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود (أي أن كعبًا كان يريد أن يجعل قبلة اليهود والمسلمين واحدة، إلى الصخرة!!) وأمر ببنائه في مُقَدِّم بيت المقدس "أمام الصخرة".

    تاريخ المسـجـد الأقصـى:


    تاريخ بناء المسجد الأقصى يعود إلى قديم الزمان، إذ بُني بعد المسجد الحرام بنحو 40 عامًا، لحديث أَبَي ذَرٍّ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ؟ قال: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ".
    قُلْتُ: ثُمَّ أَي؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الأَقْصَى". قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ عَامًا, ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ". رواه مسلم
    والذي بنى المسجد الأقصى هو إبراهيم غالبًا، ولم يُصَرَّحْ بذلك بوضوح، ولكن يُعْرَف من هذا الحديث؛ لأن إبراهيم كان يعيش في أرض فلسطين، وهذا البناء بني في عصر سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
    كان دخول عمر بن الخطاب القدس في رجب من عام 16هـ، وهذا ربما يلفت أنظارنا أن حادثة الإسراء والمعراج حدثت في نفس الشهر عام 10 قبل البعثة، فيتكرر دخول عمر بن الخطاب القدس لتحريرها من الروم في نفس الشهر الذي أسري به الرسول إلى المسجد الأقصى، وربما يكون في ذلك إشارة (كما أن صلاح الدين الأيوبي فتح القدس في 27 رجب، وحررها بعد 91 سنة من احتلال الصليبيين).. وإن شاء الله يتكرر ذلك قريبًا.
    للمسجد الأقصى خاصية أنه يمكن للمسلم أن يسافر، ويشد الرحال إليه، وأنه مسرى رسول الله ، وأنه أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهذا تشريف كبير له، فلا يجوز أن يسافر المسلم من بلد لآخر بغرض الصلاة في أي مسجد غير هذه المساجد الثلاثة.
    عُرِفَ المسجدُ الأقصى في التاريخ ببيت المقدس، وأول مرة يسمى فيها بـ (المسجد الأقصى) عندما نزلت الآية الكريمة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: 1], فالله I هو الذي سماه هذا الاسم، والأقصى بمعنى الأبعد، أي الأبعد عن مكة، وهي أول مرة يذكر فيها، وبعدها عرف عند المسلمين بهذا الاسم.
    بذلك تسلم عمر بن الخطاب المقاليد، وتم فتح القدس، بعد نحو 4 أعوام من الحروب والمعارك المتلاحقة داخل أراضي الشام، وأصبحت أرض فلسطين منذ ذلك الحين أرضًا إسلامية.
    حقيقة الأرض الإسلامية:

    أي أرض حُكِمَتْ في فترة من الزمان، ولو ليوم واحد بالإسلام، أصبحت أرضًا إسلامية، حتى لو بَعُدَ هذا الزمان عنَّا بألف عام، تظل أرضًا إسلامية، ولا يهمنا في هذا الصدد التقسيمات الجديدة، وسيادة الدول على الحدود المصطنعة، فالدولة الإسلامية حدودها تصل إلى كل دولة حكمت بالإسلام، في وقت مـا، سواء كان ذلك من عام مضى أو من عامين أو من ألف وأربعمائة عام.
    فهذا ما نعتقده، وهذا ما نؤمن به، فأرض فلسطين كلها إسلامية، وليست مدينة القدس فحسب، على ما لها من أهمية أكبر، لوجود المسجد الأقصى بها، ولكن بقية المدن الموجودة في فلسطين كلها أرض إسلامية، بل حتى "تل أبيب" أرض إسلامية؛ لأنها مدينة مبنية على أرض إسلامية، يجب أن تحرر ممن يسكنها، سواء كان من يسكنها أحفاد القردة والخنازير، أو غيرهم.
    وعليه فإن الأندلس (إسبانيا) أرض إسلامية، مهما عاش فيها عُبَّادُ الصليب، أو عباد المسيح، ألف عام فهي أرض إسلامية، يجب على المسلمين تحريرها، فرض عين عليهم، ما دامت قد حكمت يومًا واحدًا بالإسلام، فكيف يكون الأمر إذا حكمت 8 قرون!!
    وكذلك أرض الهند أرض إسلامية، حتى لو عاش فيها عباد البقر ألف عام، أو ألفي عام، لن نتهاون في تحريرها، ولا يهمنا في هذا الصدد القانون الدولي الجديد، ولا النظام الدولي الجديد، ولا يهمنا القوانين والتشريعات التي وضعها اليهود، والنصارى، والملحدون، ومن شايعهم! ولا يهمنا في ذلك الولايات المتحدة أمريكية كانت أو غير أمريكية، ولا يهمنا في ذلك شرقٌ أو غرب! ولا يهمنا في ذلك شياطين الإنس والجن، هذا شرع الله I، ثابت لا يتغير, وجند الله ملتزمون بشرعه، ينفذونه في كل عصر وفي كل مكان..
    وهذا ليس أحلامًا ولا أوهامًا، وإنما هي عقيدة ومبادئ، سيحققها الله I يومًا مـا، ستحرر هذه الأراضي إن شاء الله كلها بالكامل، ستحرر الهند، وفلسطين، والأندلس, ستحرر كل البلاد التي حُكِمت بالإسلام من قبل, وسيأتي يوم تحرر فيه هذه البلاد جميعها، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88].
    لكن لن يحرر هذه البلاد عميل خائن باع نفسه للشيطان، ولن يحررها قائدٌ متسلط، حمل البندقية ووجهها إلى صدر إخوانه وأهله!! لن يحررها قائد تخلى عن شرف القيادة، ولكن يحررها جيش عقيدة، كهذه الجيوش التي فتحتها، جيش يجعل من الإيمان السلاح الأول، ويجعل وجهته إلى الله I لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب، مهما كانت قوة الشرق والغرب، ذلك الجيش الذي يحقق سلاح الإيمان بالله أولاً، ثم يسعى بعد ذلك إلى السلاح المادي، ويحققه، هذا هو الجيش الذي سيحررها، مهما ضعفت الإمكانيات، حتى إن كان سلاحه الحجارة، ستحرر هذه البلاد، ولو بحجارة من سجيل..
    فالله قادر على تحقيق ذلك، ولكن المهم أن يُوجَدَ جُندُ الله، الراغبون في تحرير هذه البلاد، وهي ستتحرر ولا شَكَّ..
    لم يتبق للمسلمين غير "قيسارية" و"يافا" في فلسطين، وكذلك الشام لم يتبق فيه إلا "طرابلس" ليصبح الشام كله مسلمًا، وبعد فتح القدس، عاد أبو عبيدة إلى حمص، وعاد خليفة المسلمين عمر بن الخطاب إلى المدينة، وشرحبيل بن حسنة إلى الأردن، ويزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، وظل عمرو بن العاص في فلسطين.
    في بقية هذا العام 16هـ يفتح معاوية بن أبي سفيان مدينة طرابلس، وكان على مقدمة جيش يزيد بأمر عمر بن الخطاب .
    محاولات رومية لاسترداد حمص وصمود قيسارية:

    يأتي عام 17هـ ويكون أبو عبيدة في حمص آنذاك، وتفكر مجموعة من نصارى العرب، والروم الموجودين في الجزيرة (الموجودة بين دجلة والفرات) في الهجوم على المسلمين، فيتوجهوا بقوة لحصار حمص، وبها أبو عبيدة، فيقاتلهم أبو عبيدة وهو في حصنه، ويطول بينهما القتال، ولا يستطيع أن يفك الحصار، فتصل المعلومات إلى عمر بن الخطاب ، فيوجه الأوامر مباشرة إلى سعد بن أبي وقاص أمير العراق أن يرسل قوة من عنده لإنقاذ أبي عبيدة (وهذه فائدة أن تكون الدولة الإسلامية متحدة، وأن تعرف القيادة المركزية ظروف كل منطقة)..
    يرسل سعد بن أبي وقاص قوتين: الأولى لمحاربة منطقة الجزيرة نفسها، التي خرج منها المقاتلون، فأرسل ثلاثة جيوش، بقيادة سهيل بن عدي ، وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعياض بن غنم، الذي قاد الجيوش الثلاثة، حتى الجزيرة، لكي يقطع المدد عن الجيش الذي يحاصر حمص، وأرسل قوة أخرى إلى حمص مباشرة، على رأسها القعقاع بن عمرو القائد المنقذ, الذي قبل أن يصل إلى حمص بثلاثة أيام، بلغه نبأ انتصار المسلمين على الروم، وتمكَّن أبو عبيدة وجيشه من هزيمة الروم، وقتل عدد كبير منهم، وفرار الباقين.
    احتار المسلمين عندئذٍ كيف يوزعون الغنائم، وقد وصلهم جيش القعقاع بعد انتصارهم، أيشركون عَمْرًا في الغنيمة أم لا؟، فأرسلوا بذلك إلى عمر بن الخطاب, فرأى أن يُقْسَمَ له من الغنائم؛ لأن مجرد وجودهم قد أرهب الروم، كما أنهم لم يأت بهم إلا الجهاد، ونجدة المسلمين، وقسم لهم فعلاً من الغنائم.
    صمود قيساريــة:

    ولا يزال عمرو بن العاص محاصرًا لقيسارية، وهي مستعصية على الفتح، منذ عام 16هـ، وذلك لأنها كانت من المدن الحصينة، وهي على حدود البحر الأبيض المتوسط، وبها حامية قوية جدًّا: 120 ألف مقاتل، تجمعوا بعد اليرموك، وكان الروم حريصين على بقاء جزء منهم داخل الأراضي الشامية، حتى يستطيعوا الدخول منه لحرب المسلمين، لكن بعد هزيمة الروم في حمص (الهزيمة الثانية)، لم يفكر الروم في الهجوم على المسلمين مطلقًا حتى هذه اللحظة، لكن قوة (قيسارية) التي لا تستسلم، ولا تهزم هي الوحيدة التي استعصت على المسلمين، وكانت (يافا) قد فتحت على يد معاوية بن أبي سفيان، بعد أن جاءت أوامر من المدينة ليزيد بذلك.
    وتنتهي سنة 17هـ دون سقوط قيسارية، وأصبحت هي المدينة الوحيدة في الشام كله التي لم تُفْتَحْ!!
    طاعون عمواس:

    وبحلول عام 18هـ يحدث حدث مروع، كارثة تحدث للمسلمين في أرض الشام، لم يسبق لها مثيل في تاريخهم..
    تلك هي (طـاعون عمواس) ذلك الذي أصاب كثيرًا من المسلمين، وكل من يصاب به يموت فورًا بعد 5 أيام على الأكثر، ولم يفلح أي نوع من الأدوية والعلاجات في علاج هذا الوباء الخطير.
    والطاعون في لغة العرب يحمل أي نوع من الوباء (لا يُشترط أن يكون المرض المعروف الذي تنقله الفئران والبراغيث) ولكن مِن وَصْفِ هذا المرض على لسان من رأوه، يغلب على الظن أنه هو المرض المعروف الآن باسم (الطاعون)، وقد انقرض الآن من الدنيا والحمد لله، (لكنه عاد في الهند) ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، وظل الطاعون في أرض الشام شهورًا، بل إنه انتشر من عمواس إلى مدن أخرى كثيرة، حتى إنه وصل إلى مدينة البصرة في العراق, ومات خلق كثير.
    كان عدد المسلمين في أرض الشام بعد الفتوحات، وبعد إسلام بعض أهل الشام، بين 30 و36 ألف مسلم، وقد توفي منهم في هذا الوباء الخطير ما بين 25 و30 ألف مسلم!! أي أن نسبة الوفاة بلغت 80 بالمائة من الجيش الإسلامي الموجود في الشام، فكانت كارثة عظيمة على المسلمين، لا تقارن بعدد شهداء المسلمين منذ بدء الحروب مع الكفار (من بدر) حتى لحظتهم هذه!!
    لما علم خليفة المسلمين عمر بن الخطاب بهذه الكارثة أراد أن يستنقذ أبا عبيدة بن الجراح ، الذي كان قائد المسلمين في الشام، وكان يرى أنه لو مات أبو عبيدة، فسيكون ذلك مشكلة كبيرة لبقية الجيش الإسلامي الموجود في الشام،
    وكانت فتوحات المسلمين في فارس مستمرة، ولكنه أراد أن يستنقذ أبا عبيدة، حتى يحافظ عليه قائدًا لجيش المسلمين في أرض الشام، فأرسل له رسالة: "سلامٌ عليك، فإني قد عرضت إليَّ فيك حاجة، وأود أن أشافهك بها، فعزمتُ عليك، إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إليَّ، فإن أتاك ليلاً، فلا تصبحْ حتى تركب إلي، وإن أتاك نهارًا، فلا تُمْسِ حتى تركب إليَّ".
    ولكن أبا عبيدة فهم رسالة عمر، وقال: "غفر الله لأمير المؤمنين"، وأرسل له رسالة، يقول له فيها: "يا أمير المؤمنين، إني قد عرفتُ حاجتك إليَّ، وإني في جندٍ من المسلمين، لا أجد لنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه، فَخَلِّني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي".
    هذا هو أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ونذكر ما قاله عنه الصديق أثناء توديعه لحروب الشام، عندما قال له: ما دعوتك إلا أني أردت أن أخبرك بمنزلتك عند رسول الله ، فإني والله، بعد أن علمت هذه المنزلة، لا أعدل على الأرض أحدًا بك، أو بهذا الرجل (وأشار إلى عمر بن الخطاب) ونعلم ما فعله كذلك يوم السقيفة، حينما خَيَّر المسلمين بين أبي عبيدة، وعمر بن الخطاب، أن يبايعا أحدهما.
    فلما قرأ عمر بن الخطاب كتابه بكى، فسأله المسلمون، وهم يخشون أن يكون قد مات أبا عبيدة، فقال لهم: "لا، ولكن قـد..!!" أي إنه على وشك أن يموت!
    وهناك رواية أن عمر ذهب بنفسه إلى الشام، حول مدينة عمواس، وقد انتشر الوباء في أكثر من مدينة، فخرج إليه أبو عبيدة، ورفض عمر أن يدخل المدينة الموبوءة، فقال له أبو عبيدة: أتفِرُّ من قدر الله يا عمر؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!، إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله.
    أي إنه إنما يأخذ بالأسباب، فقضاء الله نافذٌ لا محالة، ولكن عمر لم يدخل مدينة عمواس، ورفض أبو عبيدة أن يعود معه، وعاد إلى داخل المدينة..
    وأرسل عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما رسالة أخرى فقال له: "سلامٌ عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضًا عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة"..
    يرى أن الحل ربما يكون في تغير المكان، فلما وصلت الرسالة أبا عبيدة، استدعى أحد علماء الأرض، ومن الأدلة في أرض الشام وهو طارق بن شهاب البجلي، فقال له: اختر لنا منزلاً، فعاد طارق إلى بيته ليعد راحلته، فوجد زوجته قد أصيبت بالطاعون، وماتت، فرجع يبكي لأبي عبيدة، ويقول له: لقد أصيبت زوجتي بالطاعون، وماتت.
    وفاة أبي عبيدة ومعاذ ويزيد وشرحبيل رضى الله عنهم:

    فعزَّاه أبو عبيدة، ولكن ما إن ينظر طارق إليه حتى يجده قد أصيب في رجله وفي كفه بالطاعون، فعلم أنه أصيب، فسأله عن هذه الآثار، فعلم أبو عبيدة أنه قد أصيب، (وهذا ما كان يخشاه عمر)؛ فجمع أبو عبيدة الناس، وقام فيهم خطيبًا فقال: "إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان وتصدقوا وحجوا واعتمروا وتواصوا, وانصحوا لأمرائكم ولاتغشوهم, ولا تلهكم الدنيا فإن امرءا لو عُمِّرَ ألفَ حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسُهم أطوعهم لربه وأعلمهم ليوم معاده والسلام عليكم". صَلِّ بالناس يا معاذ، ورد في خطبة أبي عبيدة في كتب التاريخ: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لنا حظًّا منه فطعن، فمات.
    استخلاف معاذ t:

    واستخلف معاذ بن جبل، ومات وأرضاه، عن عمر يناهز ثمانية وخمسين عامًا..
    وكان قد أوصى أن يُدْفن في بيت المقدس، ثم عدَّل فيها، وقال: ادفنوني حيث مِتُّ، خوفًا أن تصبح سنة.
    وفاة معاذ:

    وقام معاذ بن جبل؛ فقال للناس: "يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحًا فإن عبدًا لا يلقى الله تائبًا من ذنبه إلا كان حقًّا على الله أن يغفر له, من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد يُرتهن بدينه, ومن أصبح منكم مهاجرًا أخاه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاث وهو الذنب العظيم، إنكم أيها المسلمون قد فُجِعْتُم برجل ما أزعم أني رأيت عبدًا أبرَّ صدرًا , ولا أبعد من الغائلة (من الحقد للناس) ولا أشد حبًّا للعامة, ولا أنصح للعامة منه؛ فترحموا عليه رحمه الله واحضروا الصلاة عليه".
    فَصَلَّى عليه المسلمون، ودُفن في أرض الشام في صباح هذا اليوم، ويسمع معاذ حينها مقولة تسري بين المسلمين، أن هذا الوباء "طوفان ورِجْز"، أي كالذي عُذِّبَ به آل فرعون، فغضب معاذ لذلك غضبًا شديدًا؛ لأن هذا ليس عذابًا من الله I، فجمع الناس جميعًا (في نهاية هذا اليوم، وهناك روايات أنه بعدها) فقال لهم: أيها الناس لو أعلم أني أقوم فيكم بعد مقامي هذا ما تكلفت اليوم القيام فيكم (أي أنه يخشى أن يموت قبل أن يبلغهم ما يريد، ويخشى أن يكون قد أصيب بالطاعون، وقد أُصِيبَ فعلاً) وقد بلغني أنكم تقولون هذا الذي وقع فيكم طوفان ورجز, والله ما هو طوفان ولا رجز، وإنما الطوفان والرجز كان عَذَّب الله به الأمم, ولكنها شهادة أهداها الله لكم، واستجاب فيكم دعوة نبيكم (أن تُوهب الشهادة لقومه؛ لأن الرسول يقول: إن المطعون شهيد، فقد مات أبو عبيدة شهيدًا، وكل من مات في هذا الطاعون شهداء).
    ومات معاذ بن جبل ، في يومه ذاك، وهو لم يبلغ الثامنة والثلاثين من عمره (وفي روايات 33 فقط) فلم يتأَمَّر على الشام إلا يومًا واحدًا في أصح الأقوال.
    ووصلت الأنباء إلى عمر بن الخطاب في المدينة، فحزن حزنًا شديدًا، وبكى بكاءً طويلاً، حتى اخضلَّت لحيته بالدموع ، واحتار في الأمر، ثم كتب كتابًا، وأمر على المسلمين يزيد بن أبي سفيان، فأصبح يزيد أمير الشام كلها، وكان آنذاك لا يزال محاصرًا لقيسارية، بعد أن تركها له عمرو بن العاص، وكان معه في هذا الحصار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فتولى أمر المسلمين، وهو لا يزال حول قيسارية.
    وفاة يزيد وشرحبيل:

    وما هي إلا أيام حتى أصيب يزيد بن أبي سفيان بالطاعون أيضًا، فسقط شهيدًا ، وهو أمير المسلمين الثالث، في غضون أقل من شهر.
    فتصل الأنباء إلى عمر، فيزداد حزنه، ويقرر أن يقسم الشام إلى قسمين: شمالي وجنوبي، جعل على القسم الشمالي معاوية بن أبي سفيان، وعلى القسم الجنوبي شرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما، وما هي إلا أيام ويسقط شرحبيل بن حسنة شهيدًا صريعًا للطاعون!!
    وجمع عمر إمرة الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك عام 18هـ، وبقيت في يده بأمر عمر حتى خلافة الحسن بن علي ، وأحداث الفتنة, حتى أصبح أميرًا للمؤمنين عام 40هـ.
    لما عمَّ هذا البلاء على المسلمين، قام عمرو بن العاص خطيبًا في فلسطين، وقال: أيها الناس إن هذا البلاء ليس له حل إلا أن تهربوا في الشعاب، والأودية، والجبال..
    (لم يبق من المسلمين إلا 6 آلاف على أكثر تقدير)؛ فغضب لمقولته كثير من الصحابة، حتى إن أحدهم، واسمه أبو وائل الهذيلي ، قام لعمرو بن العاص وقال له: كذبت والله.
    عمر يرجع إلى الشام:

    خشي المسلمون بعد ذلك -لقلة أعدادهم- من بطش الأعداء، بعد هذا الطاعون، وخاصة أن الروم ذوو أعداد كبيرة، وعتاد ضخم، فداخل قيسارية يوجد120 ألف رومي!! وسبحان الذي ألقى في قلوبهم الرعب، ولم يخرجوا للمسلمين حتى هذه اللحظة، ولكن عمر بن الخطاب خشي على بقية الجيش الإسلامي، من أن يهاجمهم الروم، فبحث لهم عن المدد، وأعد لهم العدة، وذهب بنفسه إلى الشام، فانقمعت بذلك قلوب الأعداء -كما يذكر ابن كثير- لأنه كان ذا رهبة كبيرة في قلوب الأعداء، وكان قد ذهب لهدفين رئيسيين:
    الأول: إرهاب الأعداء حتى لا يأتوا بالقوة لأرض المسلمين، بعد تهديدهم بهذه الكارثة الرهيبة.
    والثاني: هدف شرعي، وهو الفصل في تقسيم المواريث بين المسلمين، لأنهم احتاروا في تقسيم مواريث (25 إلى 30 ألفًا) متوفى، وقسم مواريث 25 ألف متوفى بنفسه، ومكث فترة في أرض الشام، في أواخر عام 18هـ، حتى زاد المدد، وازدادت شوكة المسلمين.
    ولم يحدث في هذا العام أي هجوم على المسلمين من الروم، على الرغم من أنها كانت فرصة سانحة، ومواتية تمامًا للقضاء على من تبقى من المسلمين.
    وممن استشهد في الطاعون: ابن عم رسول الله الفضل بن العباس ، وكذلك أبو جندل ابن سهيل بن عمرو ، الذي جاء إلى رسول الله بعد صلح الحديبية، وطلب أن يدخل في حلف المسلمين بعد أن أسلم، فرده رسول الله إلى أبيه..
    وكذلك الحارث بن هشام ، وهو أخو أبو جهل عمرو بن هشام، أسلم في فتح مكة، خرج للجهاد في الشام، في فتح الشام كما ذكرنا في اليرموك، وخرج في سبعين من أهله، فاستشهدوا جميعًا في طاعون عمواس، إلا أربعة..
    وتوفي أبو مالك الأشعري، ومات الكثير من أبناء خالد بن الوليد , وابنا معاذ بن جبل وزوجته.
    معاوية يفتح قيسارية:

    بعد انقطاع الطاعون في أواخر عام 18هـ، بقي للمسلمين مدينة واحدة فقط لم تفتح حتى هذه اللحظة، وهي مدينة قيسارية، فيذهب إليها معاوية بن أبي سفيان بنفسه، وحاصرها مدة طويلة (بلغت 6 سنوات)..
    ويأتيه في ليلة من الليالي رجل من اليهود، اسمه يوسف، يقول له: أَمِّنِّي على نفسي، وأهلي ومالي، وأنا أدلُّك كيف تدخل هذه المدينة، فيُؤَمنه معاوية، فَدَلَّه على سرداب، تحت الأرض فيه المياه إلى حِقْوِ الرجل، وأخبره أن هذا المجرى من الماء يصل إلى داخل الحصون.
    فدخل معاوية وجيشه من خلال هذا السرداب ليلاً، ولما دخل الجيش كله، كبر معاوية؛ فكبر المسلمون، وقام أهل المدينة فزعين، وفوجئوا بوجود المسلمين داخل الحصن، فأسرعوا ليفروا عن طريق السرداب، فوجدوا المسلمين عنده، ودارت معركة قاسية جدًّا، ولم يكن جيش المسلمين يتجاوز الـ 17 ألف مجاهد، مقابل 120 ألف رومي!!! وكتب الله النصر للمسلمين، وسقط من القتلى داخل الحصن 80 ألف رومي، ولم يُسْتَشهد عدد يذكر من المسلمين، وهرب الباقون، فلاحقهم المسلمون، وقتلوا منهم 20 ألفًا آخرين.
    وتصل الأنباء إلى المدينة المنورة ليلاً، فيكبر عمر، ويكبر المسلمون فرحًا بهذا النصر المبين، بعد هذه المصيبة التي كانت قد ألمت بالمسلمين في أرض الشام، وتكون أول ليلة من الفرح، بعد ليال طويلة من الحزن لما حدث في طاعون عمواس.

    وبذلك تسقط آخر مدينة من مدن الشام، وأصبح الشام كله مسلمًا عام 19هـ.

    تم بحمد الله ،
    ولنا مع التاريخ بقية إن شاء الله .




    [SIGPIC][/SIGPIC]


  5. #35

    عضو مجتهد

    مسلم غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 2027
    تاريخ التسجيل : 14 - 4 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 44
    المشاركات : 177
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    البلد : مصر
    الاهتمام : مقارنة الاديان
    الوظيفة : محاسب قانونى
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    رجال مارأيتهم من قبل
    بارك الله فيك ابو فارس





  6. #36
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية ABO FARES
    ABO FARES غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 4248
    تاريخ التسجيل : 15 - 6 - 2011
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    العمر: 42
    المشاركات : 1,333
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 11
    البلد : مصر - الاسكندرية
    معدل تقييم المستوى : 15

    افتراضي


    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مسلم مشاهدة المشاركة
    رجال مارأيتهم من قبل
    بارك الله فيك ابو فارس
    صدقت والله يا أخي .. أنا اجلس بالساعات حتى أتخيل وجوه هؤلاء الراجل ولكن لا استطع الوصول لشئ وأحاول الوصول لاى كتاب يصفهم لا أجد ؛ كل ما أجده شخصيات خارقه للطبيعه رغم بساطتها .

    بارك الله فيك أخى مسلم على المتابعه




    [SIGPIC][/SIGPIC]


 

صفحة 4 من 4 الأولىالأولى 1234

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML