السيولة الشاملة (عصر ما بعد الحداثة)
امتدت المرحلة الثنائية والواحدية والواحدية الصلبة منذ عصر النهضة في الغرب حتى منتصف الخمسينيات. ورغم أن رؤية السيولة الكاملة كانت كامنة في الرؤية الغربية للعالم إلا أنها ظلت هامشية وبدأت تتحرك نحو المركز في نهاية القرن التاسع عشر واستقرت فيه في العقود الأخيرة من القرن العشرين (في عصر ما بعد الحداثة).
ومع نهاية القرن التاسـع عشـر بدأت تظهر عناصر جديدة جعلت من المستحيل الاستمرار في حالة الصلابة القديمة:
1 ـ بدأ الإنسان الغربي يدرك استحالة تنفيذ مشروعه التحديثي وأن ما تحقَّق منه قد بدأ يؤدي إلى اختفاء الإنسان. ورغم إدراك الإنسـان الغربي لهذا الوضـع فإنه كان لا يعـرف بديلاً له، كما أنه لا يزال يحـمل ذكرى عصر المادية البطولي، ولذا استمر فيه واستمر في الإبداع وفي التمرد على وضعه. وقد سمينا هذا عصر الحداثة المأساوي/الملهاوي/العبثي.
2 ـ لاحظنا تفكيك مقولة الذات الإنسانية المستقلة. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذه النقطة، بل تستمر عملية التفكيك وتصل إلى مستويات أكثر عمقاً وجذرية، إذ يتم ضرب فكرة الواقع الموضوعي نفسه أيضاً. فالواقع (الطبيعة/المادة)، من المنظور التحديثي، في حالة حركة دائمة وتَغيُّر دائم، والتغيُّر هو الصفة الثابتة الواحدة لعالمنا، سجن الزمان والمكان. ومن ثم سقطت الطبيعة نفسها في قبضة الصيرورة.
وقد "أثبت" داروين أن الطبيعة في حالة صراع دائم يحكمها منطق القوة. و"أثبت" علم النفس أن إدراكنا لها ليس موضوعياً، ومن ثم فهي ليست مصدر موضوعية للمعرفة. ثم جاءت ثورة العلوم الطبيعية (نظرية عدم التحدد ـ النظرية النسبية.. إلخ) التي أكدت استحالة رصد الواقع الموضوعي واستحالة تجاوزه.
لكل هذا، تبدأ الطبيعة/المادة نفسها في الاختفاء كمعيارية ومرجعية وككل ثابت متجاوز، ويصبح كل شيء مرجعية ذاته، وهذا ما يؤدي إلى تشظي الكون وتحوُّله إلى ذرات (بالإنجليزية: أتومايزيشن atomization، أو أتوميستيك فراجمنتيشن atomistic fragmentation) ويظهر عالم لا مركز له، أو متعدد المراكز، يتسم بعدم وجود حقيقة أو بتعدد الحقائق، وبعدم وجود مطلق أو بتعدد المطلقات، عالم ما بعد الحداثة والقصص الصغرى والنظام العالي الجديد، عالم ليس فيه ذات متماسكة ولا موضوع متكامل. ويصبح العالم مفككاً لا مركز له (بالإنجليزية: نان لوجو سنتريك non logo-centric)، وتصبح الصيرورة مركز الحلول والكمون، ويصبح النسبي هو المطلق الوحيد، ويصبح التغيُّر هو نقطة الثبات الوحيدة.
المفضلات