وقد طُرحت قضية الولاء في عصر التنوير في أوربا، حينما وُصف اليهود بأنهم « دولة داخل دولة » بسبب خصوصيتهم وانعزاليتهم الحقيقية أو الوهمية، وقد طُلب إلى أعضاء الجماعات اليهودية، وكذلك إلى الأقليات الإثنية والدينية كافة، أن يدينوا بالولاء للدولة القومية وحدها وأن يرفضوا أية ولاءات أخرى. وبالفعل، كان اليهود من أكثر العناصر ترحيباً بهذه الدعوة، فاندمجوا في مجتمعاتهم بنسبة عالية كلما سنحت لهم الفرصة. ولم يُعرْقل هذه العملية سوى تَعثُّر التحديث سواء في روسيا أو في ألمانيا، وهي المجتمعات التي طرحت تصوراً عضوياً لفكرة الولاء.
وفي العصر الحديث، يشعر يهود الولايات المتحدة بالولاء العميق لبلدهم أمريكا، فهم ينتمون إليه انتماءً كاملاً ويحاربون ويموتون دفاعاً عنه، ومصيرهم مرتبط بمصيره. وحينما يشكك الدعاة الصهاينة في هذا الولاء، فإن أعضاء الجماعات اليهودية يثورون. ويتضح ولاؤهم أيضاً في رفضهم الهجرة إلى إسرائيل وفي اندماجهم في مجتمعاتهم. أما يهود جنوب أفريقيا، فهم لا يشعرون بالولاء تجاه وطنهم لأن وضعهم في بلادهم مقلقل، وبالتالي فقد يكون ولاؤهم غير راسخ، ولذا فهم يفكرون في الهجرة منها. ولكن عدم ولائهم لا ينبع من مصالحهم اليهودية أو من جوهرهم أو طبيعتهم أو شخصيتهم، وإنما ينبع من أن المستوطن الأبيض في جنوب أفريقيا قد بدأ يتعرض لضغوط حقيقية من السكان الأصليين تهدد وجوده. وحينما يهاجر اليهود الروس من روسيا، فهم لا يفعلون ذلك من باب الولاء اليهودي، وإنما من باب الولاء الدنيوي للمستوى المعيشي المرتفع، ومن ثم يتجهون إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل. وقد اتخذت الولايات المتحدة من التشريعات ما يكفل إغلاق باب الهجرة لتحويلهم عنوة إلى الدولة الصهيونية. وفي هذا، لا يختلف المهاجرون اليهود المرتزقة من روسيا أو أوكرانيا كثيراً عن معظم أعضاء المجتمعات العلمانية في الغرب. فماركس يتحدث عن ولاء الرأسمالي، وهو ولاء يتجاوز الولاء القومي، كما يتحدث بنتام (فيلسوف النفعية) عن المنفعة الشخصية، وهي منفعة تتجاوز الصالح القومي.
ويَصدُر الصهاينة عن فكرة ازدواج الولاء، شأنهم في هذا شأن النازيين والمعادين لليهود، وينطلق برنامجهم السياسي منها. فيتحدث المفكرون الصهاينة، كلاتزكين وجولدمان وبن جوريون، عما يسمُّونه «الولاء القومي اليهودي». وبالتالي، فإن اليهودي الذي يعيش في بلد غير الدولة اليهودية لن يشعر تجاهه بأي ولاء، أو سيكون ولاؤه له ضعيفاً إذ سيكون موزعاً بين وطنه الفعلي الذي يقيم فيه ووطنه القومي الصهيوني، وهو ما يُطلق عليه «ازدواج الولاء». وقد كان هرتزل يتفاوض مع السلطات الإمبريالية المختلفة في إطار تصور أنه قادر، حسب قوله، على تحويل كل يهود العالم إلى عملاء يدينون بالولاء لا لأوطانهم وإنما لأية دولة تساند الفكرة الصهيونية. والعميل إما شخص عديم الولاء أو شخص ذو ولاء مزدوج.
المفضلات