البابالثامن: رأسماليون من أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة
رأسماليون من الأمريكيين اليهود (اليهود الجدد(
American-Jewish (Neo-Jewish) Capitalists
يُلاحَظ أن معظم الرأسماليين الأمريكيين اليهود أمريكيون تماماًوإن كانوا قد تأثروا بعض الشيء، في المراحل الأولى، بميراثهم الاقتصادي. فالتجارالسفارد في القرن السابع عشر كانوا من كبار تجار الرقيق ومموِّلي الجيوش إلى جانبالتجار المتجولين الذين كثيراً ما كانوا يصنعون بعض سلعهم بأنفسهم لأنهم حرفيونوتجار.
أما في المرحلـة الألمانيـة من تاريـخ الجماعة اليهودية فيالولايـات المتحدة (1776 ـ 1880)، فيُلاحَـظ ما يلي:
1 ـ معظم هؤلاء من أصلألماني وليس من أصل روسي/بولندي (يديشي)، ولعل هذا يعود إلى أن المهاجرين منألمانيا قد جاءوا من بلد حقق طفرات واسعة في مجال التحديث والتصنيع، ولذا فهميحملون معهم خبرات ملائمة للمجتمع الأمريكي، وهو ما يعني أن المهاجرين من ألمانياكانوا قد تحرروا أيضاً من عدد كبير من الشعائر والأوامر والنواهي التي كان يمكن أنتعوقهم عن الحركة والحراك. كل هذا على خلاف يهود شرق أوربا.
2 ـ وصل اليهودالألمان منذ منتصف القرن التاسع عشر وبأعداد صغيرة. وقد جاءوا بعد أن كانت اليهوديةالإصلاحية قد ظهرت واستحدثت صيغة مخففة للعقيدة اليهودية. وساهم كل هذا في عمليةاندماجهم وسرعتها (على عكس يهود شرق أوربا الذين جاءوا بأعداد كبيرة يؤمنونبالأرثوذكسية(.
3 ـ ملأ المهاجرون اليهود من ألمانيا كثيراً من الفراغاتوراكموا الثروات بسرعة، كما أن جذورهم في أوربا وعلاقاتهم المالية والتجارية فيهاساعدتهم على تحقيق النجاح في أعمالهم (على عكس يهود شرق أوربا الذين كانوا مُنبتِّيالصلة بأوربا(.
4 ـ وصل المهاجرون الألمان والاقتصاد الأمريكي في حاجة ماسةإلى خبراتهم كرأسماليين ومموِّلين، على عكس يهود شرق أوربا الذين وصلوا والاقتصادالأمريكي في حاجة إلى أيد عاملة.
ويُلاحَظ أن الرأسماليين الأمريكييناليهود (من أصل ألماني) اتجهوا نحو المصارف والاستثمارات العقارية. وأنهم، مع عدمسيطرتهم على قطاع البنوك والمال، احتلوا مكانة مميَّزة في مجال النشاط المصرفيالاستثماري. وقد لعبت المؤسسات المالية المملوكة لعائلات يهودية ذات أصول ألمانية،مثل عائلات سليجمان ولويب وووربورج وجولدمان وليمان وسبير، دوراً حيوياً في عمليةالتراكم الرأسمالي والنمو الصناعي في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرنالتاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتحقَّق ذلك بفضل علاقاتهم المالية المتشعبةالمتداخلة في أوربا، وهو ما أتاح لهم قدراً كبيراً من التنسيق فيما بينهم ومقدرةعلى توفير رأس المال بكميات أكبر وبشكل أسرع نسبياً من المؤسسات المصرفية الأمريكيةالمماثلة.
ثم اتجه الرأسماليون الأمريكيون اليهود نحو الصناعات الخفيفةومتاجر التجزئة ذات الأقسام المتعددة. وكانت من الأنشطة الاقتصادية الجديدة التيتميَّزت بهامشيتها وبقدر كبير من المخاطرة. ونجح اليهود في دخول هذه المجالاتوحققوا فيها نجاحاً ومكانة بارزة بفضل ميراثهم الاقتصادي كجماعات وظيفية ذات خبراتتجارية ومالية واسعة. وبالإضافة إلى ذلك، لم تكن كثير من الأنشطة الاقتصادية الأخرىفي الاقتصـاد الأمريكي (مثل الصـناعات الثقيلة) متاحة أمامـهم بالقدر الكافي. وتُعَدُّ عائلات جمبل وروزنوالد وستراوس من العائلات الأمريكية اليهودية التي حققتنجاحاً كبيراً في مجال متاجر التجزئة ذات الأقسام المتعددة. ومع وصول المهاجرين منشرق أوربا، ازدهرت صناعة الملابس الجاهزة التي كان يحتكرها الرأسماليون من أعضاءالجماعة اليهودية من أمثال ليفي شتراوس الذي تُعَدُّ شركته، التي أسسها في النصفالثاني من القرن التاسع عشر، أكبر شركة للملابس الجاهزة في العالم في وقتنا الحاضر. واحتلت جماهير المهاجرين من يهود اليديشية المواقع الدنيا في السلم الاجتماعيوالطبقي الأمريكي في بداية الأمر، وانضم الجزء الأكبر منهم إلى الطبقات العاملة. إلا أن كثيراً منهم سرعان ما بدأوا يخطون خطوات سريعة في مجال التجارة والأعمالوبدأوا في اقتحام الأنشطة الاقتصادية الجديدة ذات الطابع التجاري أو الصناعيالخفيف، التي بدأ ظهورها في أوائل القرن العشرين، محققين فيها نجاحاً ملموساً بفضلخبراتهم الاقتصادية والتجارية السابقة. وقد برز الرأسماليون الأمريكيون اليهود خلالالثلاثينيات في قطاع النشر الصحفي والإعلام، وفي مجال الراديو والسينما.
واحتل الرأسماليون الأمريكيون اليهود مكانة مهمة أيضاً في صناعة مستحضراتالتجميل. فأسس ماكس فاكتور في أوائل القرن العشرين شركة لمستحضرات التجميل أصبحت منأكبر الشركات في العالم في هذا المجال. كما تُعَدُّ هيلينا روبنشتاين من أبرزالشخصيات التي عملت في هذه الصناعة. وتُعَدُّ شركة استي لودر ثالث أكبر شركة عاملةفي مجال مستحضرات التجميل في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر.
وفي القرنالعشرين، اتجه نشاط الرأسماليين من أعضاء الجماعات اليهودية، نحو البورصة والعقاراتوصناعات الترفيه، إلى جانب الأنشطة سالفة الذكر. ففي عام 1936، كان اليهود متركزينفي البورصة وأعمال السمسرة، وكان 16 % من سماسرة الأسواق المالية يهوداً. ولكنهم لميسيطروا على البنوك أو يُمثَّلوا في الصناعة الثقيلة إلا بدرجة صغيرة (حيث إن سابعأكبر شركة صلب، لا غير، كان يمتلكها يهودي). كما لم يسيطروا على أيٍّ من شركاتالسيارات، ولم يوجد أي رأسمالي يهودي في شركات حيوية، مثل شركات الفحم أو المطاط أوالكيماويات. إلا أن البعض منهم احتل مكانة مهمة في قطاع التعدين مثل عائلة لويسونوعائلة جوجنهايم التي أسَّست واحدة من أكبر الشركات المنتجة للمعادن في العالم.
وقد بيَّن أحد الكُتَّاب أن الرأسماليين الأمريكيين اليهود يتواجدون في تلكالصناعات التي يلتقي فيها الصانع بالتاجر، وأن هذا التواجد استمرار لتقاليد الحرفيالتاجر. ووضعهم هذا يجعلهم جزءاً لا يتجزأ من الهرم الإنتاجي الأمريكي لا أداةيهودية مستقلة له. فهو من ناحية يعتمد على الصناعات الثقيلة التي يمتلكهاالبروتستانت أساساً، وهو يبيع لسوق أمريكي تتحكم فيه طموحات وأحلام الإنسانالاستهلاكي الأمريكي.
وفي عام 1985 كان يوجد 114 يهودياً من بين أكثر400شخص ثراءً في أمريكا، أي أن أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون داخل هذه الفئة نسبة 24ـ 26%. ورغم أنهم يشكلون 54.2% فقط من السكان، فإنهم يحصلون على 5% من الدخل القومي،كما يشكلون 7% من الطبقة الوسطى الأمريكية. وهناك 900 ألف أسرة يهودية تنتمي إلىالطبقة الوسطى أو إلى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى من حوالي مليوني أسرةيهودية، وذلك مقابل 13,5 مليون أسرة أمريكية تنتمي إلى الطبقة نفسها من حوالي 53مليون أسرة أمريكية. ومتوسط الدخل السنوي لليهودي الأمريكي هو 23,300 دولار مقابل 21,300 دولار للأبيسكوبليان (وهم المسيحيون الأنجليكيون الذين يُعَدُّون أكثر طبقاتالمجتمع ثراءً) و14 ألف دولار للمعمدانيين البروتستانت (أفقر البروتستانت). ويُلاحَظ أننا اسـتبعدنا السـود والبورتوريكيين لأن معـظم هـؤلاء تحت خط الفقر. وجاء في إحصاءات عام 1982/1983 أن هناك 900 ألف يهـودي تحت مسـتوى خـط الفـقر. وقـدظل اليهود، برغم كل ثرائهم، خارج نطاق ملكية الصناعات الثقيلة.
ولكنالثراء لا يَصلُح معياراً للاستقلال أو الهيمنة، فهو ثراء قد حققه أعضاء الجماعةاليهودية داخل المجتمع الأمريكي ومن خلال آليات الحراك والتراكم المتاحة للجميع. وقد حققوا ما حققوه من بروز وثراء غير عادي لعدة أسباب، من بينها خبراتهم التجاريةالسابقة، وتزايُد معدل علمنتهم قياساً إلى بقية أعضاء الجماعات الدينية، وارتفاعمستواهم التعليمي عن بقية جماعات المهاجرين. ومما يؤكد أن الثراء لا يصلح مؤشراًعلى الهيمنة أن الصناعات الثقيلة لا تزال في يد المسيحيين البروتستانت أساساً. وقدذكرت مجلة فوربيس ، في عددها لعام 1985، أسماء أغنى أربعمائة أمريكي في الولاياتالمتحدة، فكان منهم مائة وأحد عشر يهودياً. وتركزت أغلبيتهم الساحقة في العقاراتوالسمسرة والمضاربات والملاهي والبورصة والإعلام (أي حوالي 27%)، بينما لم يكن لهموجود في صناعات حيوية، مثل تكرير البترول، سوى بضعة أفراد من عائلات بلاوستين وماكسفيشر وأرماند هامر الملقب بملك البترول.
ولعل أهم يهودي في إحدى الصناعاتالثقيلة هو إدجار برونفمان الذي اشترى أسهم شركة دي بونت للكيماويات، كما اشترى آخرمن عائلة كراون أسهم شركة جنرال ديناميكس، وهي شركة لتصنيع عتاد الحرب. ويمكنالإشارة هنا إلى أن بعض الرأسماليين الأمريكيين اليهود احتلوا مراكز اقتصاديةومالية مهمة في الدولة والحكومة الأمريكية، وبخاصة خلال فترات الحربين العالميتينوفيما بعدهما، بفضل خبراتهم التجارية والمالية المهمة. وتميَّزت أغلبية هذه المراكزبطابعها الاستشاري ولكنها لم تنطو على قوة سياسية حقيقية. ومن بين هؤلاء، برناردباروخ الذي عمل مستشاراً لعدة رؤساء أمريكيين، وأيوجين ماير، وبعض أفراد عائلتيووربورج ومورجنتاو.
ويمكن اعتبـار كثير من الرأسـماليين من أعضـاء الجماعاتاليهودية، وخصوصاً الأمريكيين منهم، ممثلين لما يمكن تسميته «صهاينة الدياسبورا» أو «الصهاينة التوطينيين». وتعود صهيونية هؤلاء إلى عام 1882 حين تعثَّر التحديث فيروسيا القيصرية (وبولندا)، تدفَّق إلى الولايات المتحدة الآلاف من يهود اليديشية،وهي الكثافة البشرية ذات الطابع الحضاري السلافي الفاقع، اليهودي الأرثوذكسيالواضح، الظاهر التدنِّي طبقياً. ولم تُقابَل هذه الهجرة بكثير من الترحاب من جانبأعضاء البورجوازية من اليهود الأمريكيين ذوي الأصول الألمانية الذين حققوا قدراًكبيراً من النجاح ونجحوا في الاندماج في المجتمع وتبنوا صيغة مخففة من اليهودية هياليهودية الإصلاحية، ذلك أن هذه الكثافة البشرية هددت مواقعهم الطبقية ومكانتهمالاجتماعية. فهم «يهود»، شأنهم في هذا شأن يهود اليديشية، ولكنهم من أصول ألمانية «رفيعة»، ولذا يكنون الاحتقار الألماني التقليدي للعناصر السلافية «المتخلفة». ولذا، تحرك يهود أمريكا المندمجون، لإنشاء مؤسسات هدفها أمركة هؤلاء المهاجرينالجدد وسرعة استيعابهم في المجتمع الأمريكي، وكذلك لغوث ومساعدة يهود اليديشية فيأوطانهم الأصلية بهدف الحد من هجرتهم إلى الولايات المتحدة (تُوصَف هذه المؤسساتبأنها مؤسسات خيرية هدفها إنقاذ اليهود). وامتداداً لهذا القلق ساهم الرأسماليون منأعضاء الجماعات اليهودية في دعم الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين، ثم قدمواالتأييد السياسي والدعم المالي للكيان الصهيوني بعد تأسيسه. وهو موقف ينبع فيالمقام الأول من انتمائهم لأوطانهم أو لهويتهم الأمريكية، ولا يختلف موقفهم عنغيرهم من الرأسماليين الغربيين أو الأمريكيين الذين يرون ترادف مصالح بلادهم معمصالح إسرائيل التي يعتبرونها قاعدة للمصالح الرأسمالية والإمبريالية في الشرقالعربي.
ولذا، يكون الحديث عن «رأسمالية يهودية»، لا عن رأسماليين من أعضاءالجماعات اليهودية، حديثاً مضللاً يخلع الاستقلالية على ظاهرة تابعـة. وربما، لو أنهـناك رأسـمالية يهودية، لتبعها المشروع الصهيوني، وقامت هي بتمويله لصالحها. ولكنالمشروع الصهيوني كان دائماً، منذ وعد بلفور إلى الاتفاق الإستراتيجي بين الولاياتالمتحدة والدولة الصهيونية، يبحث عن راعٍ غربي يوفر له الأمن والدعم والتمويل،ويحوِّل الرأسماليين من اليهود داخل التشكيلات الرأسمالية القومية المختلفـة إلىأداة للضغط يسـتخدمها لصالحه. ولكن العكس أيضاً صحيح، إذ أن الدول الغربية تستخدمهؤلاء الرأسماليين أداة للضغط على الدولة الصهيونية أحياناً.
ومن القضاياالتي ينبغي إثارتها، مدى اشتراك الرأسماليين من أعضـاء الجماعـات اليهودية فيالنشـاطات التجارية والمالية غير المشروعة، مثل التهرب من الضرائب ومراكمة الثرواتمن خلال الغش التجاري. ولكن لا توجد دراسة إحصائية مقارنة دقيقة تثبت أن معدل الغشوالتهريب بين الرأسماليين الأمريكيين اليهود يفوق المعدل القومي، كما لا توجددراسات توضح ما إذا كانت يهودية الرأسمالي هي التي تفسر الجرائم التي ارتكبها أم أنمن الأجدى تفسيرها على أساس عدم انتماء الرأسمالي عضو الجماعة اليهودية كعنصر مهاجرلم يتحدد انتماؤه بعد. ومن ثم، لابد أن نقارن نسبة هذه الجرائم بين الرأسمالييناليهود وغيرهم من الرأسماليين من أعضاء الجماعات المهاجرة الأخرى.
أما فيمايتصل بالمهنيين ورجال السياسة من الأمريكيين اليهود، فهم عادةً من أبناء الجيلالثالث الذين وُلدوا في الولايات المتحدة وتلقوا تعليماً جامعياً ونسوا الوطنالقديم تماماً (إلا كذكريات رومانسية) وأصبحوا جزءاً من المؤسسة الأمريكية الثقافيةوالسياسية ولا يمكن الحديث عن أية خصوصية مميِّزة لهم.
المفضلات