أما الطريق الثاني فهو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها نعيش على الأرض..
إنه يرتفع بنفوس الناس من مطامع الناس المادية البحتة إلى آفاق عالية جداً جداً.. إنه يربط كل عمل يعملونه بإرضاء الله عز وجل، وبنصرة الدين..
إذا عظم كل واحد منا أمر الإسلام في قلبه فإنه سيستصغر أي تضحية في سبيل نصرة هذا الدين..هذه من أبلغ وسائل التحميس والتحفيز.. أن تعظم الغاية والهدف إلى أقصى درجة.. فيصبح جهادُك واستعدادُك وحركتك نوعًا من العبادة لله رب العالمين..
لم يحفزهم قطز بدنيا، ولم يحفزهم لاتباع شخص معين، ولم يحفزهم بقومية مصرية أو غيرها، ولم يحفزهم بقومية عربية أو بغيرها، ولم يحفزهم حتى بحب البقاء في هذه الحياة، والدفاع عن النفس ضد الموت.. بل إنه حفزهم بالحرص على الموت!!..
وشتان بين من يجاهد وهو حريص على أن يموت، ومن يجاهد وهو حريص على أن لا يموت!!.. شتان فعلاً..
لقد قال لهم قطز في صراحة:
"يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين (عن القتال)"..
كلام في منتهى الدقة، وفي منتهى الروعة..
القضية بوضوح قضية إيمان..
إذا علمت أن الله مراقب لك وخالفت، فإن وبال ذلك عليك..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُكره منافقاً على الخروج معه للقتال.. بل كان يترك الأمر على السعة، بل إنه إذا تخلف المسلمون المؤمنون )كما حدث في غزوة تبوك من بعض المؤمنين) فإنه لا يكرههم، بل كان إذا ذُكر له رجل تخلف قال: "دعوه، فإن يكن فيه خير سيُلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه"..
وهكذا فعل قطز رحمه الله..
من أراد أن يخرج للجهاد في سبيل الله فليفعل، ومن أراد النكوص على عقبيه، والركون إلى الدنيا فليعلم أن الله مطلع عليه، وليعلم أن حرمات المسلمين والمسلمات التي تُنتهك في رقبته..
ولا يخفي علينا الإشارة المهمة التي ذكرها قطز من أن هؤلاء الأمراء والوزراء قد عاشوا سنوات يأكلون من بيت مال المسلمين، بل ويكثرون من الأكل والجمع حتى فقدت وظائفهم كل معنى، ولم يبق لها إلا معنى واحد هو استغلال المنصب لأقصى درجة لزيادة الثروة، من الحلال وغير الحلال على السواء، وما عاد الوزير يعتقد أنه موظف عند الشعب وليس سيداً عليهم، وأنه كما أن له حقوقاً فإن عليه واجبات، وأنه مسئول ومحاسب من الله ومن شعبه على كل خطوة، وعلى كل درهم أو دينار.. لقد كانت هذه الكلمات من قطز تهدف إلى إيقاظ الضمير، وإلى إحياء الأمانة، وكشفت هذه الكلمات الوزراء أمام أنفسهم.. لقد كان قطز يرى بوضوح ما بداخل كل وزير!!
ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول:
"يا أمراء المسلمين، من للإسلام إن لم نكن نحن"..
كلمة رائعة.. كلمة هائلة!!..
كلمة تصلح أن تكون منهجاً للحياة..
إذا قالها كل مسلم فلن تسقط أبداً أمة الإسلام..
أحياناً ينتظر المسلم أن يأتي النصر من مسلمين آخرين.. ينتظر أن يتحرك للإسلام فلان أو غيره، ولكنه قليلاً ما يفكر هو في التحرك.. بل كثيراً ما يقوم بعملية نقد وتحليل وتعليق على أفعال وأقوال العاملين للإسلام، أما هو فلا يتحرك!
أحياناً ينتظر المسلم أن يخرج صلاح أو خالد أو قطز أو القعقاع من بيت جاره، أو من بلد آخر، ولا يفترض أن يخرج هؤلاء من بيته هو شخصياً..
لماذا لا تكون أنت صلاح الدين الأيوبي؟
لماذا لا تكون أنت يوسف بن تاشفين؟
لماذا لا تكون أنت
نور الدين محمود الشهيد؟
لماذا؟
من للإسلام إن لم نكن نحن؟
ووقعت الكلمة في قلوب الأمراء.. فضجوا جميعاً بالبكاء!!..
لقد خشعت القلوب.. ومن خشع قلبه فيرجى منه الخير كله..
وقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، فقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن، وهكذا نجح قطز رحمه الله في خطوة هي من أصعب خطوات حياته، وهي في ذات الوقت من أعظم خطوات حياته..
إذن مصر تعلن الحرب على التتار!!..
قرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقاً.. وهو قرار لا ينفع أن يرجع عنه القائد أو الجيش أو الشعب، وقطز رحمه الله يعلم أن قلوب الأمراء وافقت تحت تأثير القدوة، وتحت تأثير التذكير بالله، وبالواجب نحو الإسلام، لكن من الممكن لهذه القلوب أن تتردد وأن تخاف، ولذلك فقد أراد قطز أن يفعل أمراً يقطع به خط الرجعة تماماً على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقى أمامهم غير الخيار العسكري فقط!..
ماذا قرر قطز؟!
لقد قرر قطز بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرسل الأربعة الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وأن يعلّق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة، وذلك حتى يراها أكبر عدد من الشعب، وهو يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردّ العنيف سيكون إعلاناً للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا قد يؤثر سلباً على التتار، فيلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد، ويبقى الهدف الأكبر لقتل الرسل الأربعة هو قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية، والاستعداد الكامل الجادّ للجهاد، فبعد قتل الرسل الأربعة لن يقبل التتار باستسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون..
كان هذا هو اجتهاد قطز رحمه الله والأمراء..
ومع ذلك فلنا وقفة مع هذا الحدث..
المفضلات