عبدالمؤمن بن علي بن عَلَوي، سلطان المغرب الذي يلقب بأمير المؤمنين، الكومي، النفيسي، المغربي.
ولد بأعمال تِلمِسان. وكان أبوه يصنع الفخار.
قيل: إنه قال: أعني عبدالمؤمن: إنما نحن من قيس بن غيلان بن مُضر بن نزار، ولكومية علينا حق الولادة، والمنشأ فيهم، وهم أخوالي.
وكان الخطباء إذا دَعَوا له بعد بن تومرت، قالوا: قسيمُهُ في النسب الكريم، وكان مولده سنة سبع وثمانين وأربع مائة وصفه الذهبي فقال: (وكان أبيض جميلاً، ذا جسم عَمَمٍ، تعلوه حمرة، أسود الشعر، معتدل القامة، جهوريّ الصوت، فصيحاً جَزْل المنطق، لايراه أحد إلا أحبه بديهة، وكان في كبره شيخاً وقوراً، أبيض الشعر، كثَّ اللحية، واضح بياض الاسنان، وكان عظيم الهامة، طويل القعدة، شَثْن الكفِّ، أشهل العين.
أ- لقاءه بمحمد بن تومرت :
عندما رجع ابن تومرت إلى إفريقية هو ورفيقه الشيخ عمر الهنتاني صادف عبدالمؤمن، فحدَّثه ووانسه، وقال: إلى أين تسافر؟ قال: أطلب العلم. قال: قد وجدت طلبتك. ففقهه، وصحبه، وأحبه، وأفضى إليه بأسراره لما رأى فيه من سمات النُّبل وكان بن تومرت يمدحه بهذه الأبيات:
تكاملت فيك أوصاف خُصِصت بها
فكلنا بك مسرور ومغتبـــــــطُ
السن ضاحكة والكف مانحة
والنفس واسعة والوجه منسبط
وكان بن تومرت يقول لأصحابه: صاحبكم هذا غلاّب الدول لقد كان بن تومرت يعمل على أن يكون عبدالمؤمن صورة حقيقية له ولذلك أعده الإعداد اللازم للقيادة والزعامة والرياسة وعلمه ودربه وأمر أتباعه بإطاعة عبدالمؤمن في كل مايقول وأن يقتدوا به في كل ما يفعله وكان عبدالمؤمن له من الاستعداد الفطري بحيث يستطيع أن يتقن كل مايقال له من تعليم وتدريب، فعرف كيف ينهض وينظم الدولة ويسير بها خطوات ناجحة لكي تتبوأ دولة الموحدين الزعامة والسياسة في عالم المغرب والأندلس.
ب- بيعته:
بايع أصحاب ابن تومرت المقربين عبدالمؤمن بن علي في شهر رمضان 524هـ وقد أطلق المؤرخون على هذه البيعة الخاصة، لأن موت ابن تومرت ظل في طي الخفاء أكثر من سنتين ثم بايع الموحدون عبدالمؤمن البيعة العامة قيل في 20 ربيع الأول سنة 526هـ وقيل 527هـ وذلك بجامع تينملل. وقد اختار الموحدون عبدالمؤمن لزعامتهم لما عرفوه من اختصاص بن تومرت له وتقريبه إليه وإطرائه لصفاته وتقديمه إياه في الصلاة إلى مالمسوه من فضله وعلمه ودينه وقوة عزيمته وحسن سياسته ورجاحة عقله وشجاعته. وقد ذكر الذهبي خطبة ابن تومرت قبل وفاته اشار فيها إلى توليه عبدالمؤمن من بعده: (استدعى ابن تومرت قبل موته الرجال المسمين بالجماعة وأهل الخمسين والثلاة عمر أرتاج، وعمر إينتي، وعبدالله بن سليمان، فحمد الله، ثم قال: إن الله - سبحانه، وله الحمد - منّ عليكم أيتها الطائفة بتأييده، وخصّكم بحقيقة توحيده، وقيض لكم من ألفاكُم ضُلالاً لاتهتدون، وعُمياً لاتبصرون قد فشت فيكم البدع، واستهوتكم الأباطيل، فهداكم الله به ونصركم، وجمعكم بعد الفرقة، ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين، وسيُورثُكم أرضهم وديارهم، ذلك بما كسبت أيديهم، فجددوا لله خالص نياتكم، وأرُوُه من الشكر قولاً وفعلاً مما يزكي به سعيكم واحذروا الفرقة وكونوا يداً واحدة على عدوكم، فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس وأسرعوا إلى طاعتكم، وإن لم تفعلوا شملكم الذُّلُ، واحتقرتكم العامة وعليكم بمزج الرأفة بالغلظة، واللين بالعنف، وقد اخترنا لكم رجُلاً منكم، وجعلناه أميراً بعد أن بلوناه، فرأيناه ثبتاً في دينه، متبصراً في أمره، وهو هذا - وأشار إلى عبدالمؤمن - فاسمعوا له وأطيعوه ما أطاع ربه فإن بدّل ففي الموحدين بركة وخير، والأمر أمرُ الله يقلِّده من يشاء. فبايع القوم عبدالمؤمن، ودعا لهم ابن تومرت).
كما أن هناك سبباً آخر جعل زعماء الموحدين يبايعون عبدالمؤمن ألا وهو أن عبدالمؤمن، كومي وليس من المصامدة وهذا يجعل حداً لتطلع زعماء القبائل إلى هذه الخلافة، وبالتالي ستقضي على الخلافات التي كان وقعها محتملاً بين قبائل المصامدة في سبيل الزعامة.
وما أن أعلنت طبقة الجماعة، وفاة ابن تومرت وبيعتها لعبدالمؤمن بن علي حتى قامت بقية الطبقات له بالبيعة ولم يكن له من خلافة الموحدين إلا الاسم، أما الإدارة الفعلية والإشراف الكامل، فقد كانت للطبقات المختلفة حسب اختصاص كل منها ولذلك لم يستطيع بادئ الأمر، أن يستبد بأمر من الأمور ولا أن يبت في حكم من الأحكام إلا بموافقة ذوي الشأن وكان الموحدون الأولون يدركون ذلك ويحرصون عليه، فهم لم يتركوا لعبدالمؤمن العنان لأن يستبد بهم، ولا أتاحوا له الفرصة لأن ينفرد في قرارات الحكم بل نجدهم يناقشون وينتقدون اعمال عبدالمؤمن ويتجرؤون عليه وقد وصل الحال ببعضهم أن قتل أخا عبدالمؤمن، لمّا جاء لزيارة أخيه الخليفة وجلس في المكان المخصص له. فما كان منه إلا أن غضب لنفسه واعتبر ذلك إهانة له، فثار بأخي عبدالمؤمن الخليفة وقتله. ولما غضب عبدالمؤمن وأراد الاقتصاص من قاتل أخيه، وقف الموحدون في وجهه ومنعوه من ذلك. ويروي البيذق هذا الحادث ضمن أخبار سنة ستة وثلاثين وخمسمائة (536هـ) فيقول: "وفيها جاء ابراهيم إلى الخليفة أمير المؤمنين بالتوحيد وأعطاه الخليفة الخيل والعبيد والخباء. وأنزله في موضع محمد بن أبي بكر بن بيكيت. فتغابر ابراهيم أخو الخليفة مع محمد بن أبي بكر بن بيكيت. فقتله محمد بن أبي بكر ابن بيكيت. فقام له أبو حفص وأبو الحسن يوكوت بن واكاك وقالا له: ألم يقل المهدي: بأن الجماعة وصبيانهم عبيدهم كل من في الدنيا. فصمت عند ذلك الخليفة..).
لقد أسرّها عبدالمؤمن في نفسه وشرع في أخذ الخطوات التي آلت للقضاء على نظام الطبقات الذي وضعه ابن تومرت ووضع نظاماً جديداً يكرّس الولاء لشخصه وأسرته وسنرى ذلك بإذن الله ويبدو أن عبدالمؤمن لايعتقد اعتقاداً راسخاً في عصمة ابن تومرت ومهديته وإلا فكيف يتجرأ على نسف ماوضعه بن تومرت بعد أن مهد لذلك وجعل الزمن جزءً من هدفه.
لقد كان الظلم في تعاليم بن تومرت واضحاً هذا خليفة الموحدين يقتل أخاه ويمنع الأخذ بالقصاص من القاتل بحجة أن القاتل من أهل الجماعة وكل من في الأرض عبيد لهم، لاشك أن ذلك الحدث أثر في عبدالمؤمن بن علي.
ثانياً: قتال عبدالمؤمن للمرابطين وتوحيد المغرب:
في ظروف حالكة منذرة بالفتنة تولى عبدالمؤمن بن علي قيادة الموحدين وكانت مهمته عسيرة وصعبة، فقد كان عليه أن يعيد الثقة الى نفوس الموحدين وأن يعيد تنظيم صفوفهم تمهيداً للمعركة المقبلة الفاصلة، ولهذا السبب شغل طوال الشهور الأولى من خلافته في رأب الصدع، وتأليف القلوب وتعبئتها لمدافعة المرابطين، فلما تم له ذلك اعتزم مواصلة الجهاد ضد المرابطين، فكانت أولى غزواته كخليفة على حد مارواه ابن أبي زرع موجهة إلى مدينة مراكش فقد هاجمها أياماً ثم ارتحل عنها، غير أن ابن القطان وابن خلدون يتفقان على أن أول غزواته هي غزوته لتادلة في وادي درعة، وفيها خرج عبدالمؤمن من تينملل في شهر ربيع الأول سنة 526هـ في جيش ضخم قوامه ثلاثون ألف مقاتل، فسار أولاً نحو حصن تازا جورت وكانت تدافع عنه حامية مرابطية بقيادة يدر بن ولكوط وقيل يحيى بن مريم الزرجاني، فتمكن عبدالمؤمن من اقتحام الحصن وقتل واليه وقتل معه نحو عشرين ألفاً من المرابطين، وهو رقم مبالغ فيه فليس من المعقول أن يضم أحد الحصون المرابطية عدداً من المدافعين يتجاوز العشرين ألف مقاتل، وهذا الرقم من الصعب تصديقه اذا أخذنا بالاعتبار كثرة عدد القلاع والحصون المرابطية في المغرب فضلاً عن انشغالهم بالجهاد ضد النصارى في الأندلس. رحل عبدالمؤمن عن تازجورت بعد أن سبى ميمونة بنت ينتان بن عمر أرملة والي الحصن المذكور وصحبها معه إلى تينملل، حيث ظلت أسيرة لديه حتى أفتديت فيما بعد، بمن كان في تلمسان من أسرى الموحدين، ثم سار عبدالمؤمن الى درعة واستولى عليها، كما استولى في نفس العام - 526هـ على حصن هزرجة، فقد اقتحمه وأحرقه وقتل معظم حاميته، ومنها سار الى بلدة جثجال وأضرم فيها النيران وقتل أهلها، ثم سار إلى بلدة أجلاحال، وكان أهلها قد قتلوا أحد أصحاب ابن تومرت وامرأته في يوم العيد، فجمع عبدالمؤمن أهلها وقتل منهم مايزيد على ثلاثمائة رجل، وفي نفس العام استولى الموحدون على حصن جلاوة افتتحه الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي أحد أصحاب ابن تومرت العشرة ومعه بعض وجوه الموحدين، وكان أهل الحصن قد جرحوا ابن تومرت في احدى غزواته، فدخله الموحدون عنوة وقتلوا كل من فيه، وفي هذا العام أيضاً افتتح الموحدون حصن تاسيغيموث أمنع حصون المرابطين وكان قد تولى بناءه ميمون بن ياسين، كما كانت تقوم على حراسته حامية، من هزرجة قوامها مائتي وخمسمائة راجل، فلما يئس الموحدون من فتحه لمناعته لجأوا الى الحيلة فداخلوا بعض أفراده من حامية الحصن وتواطئوا معهم على فتحه، فأقتحموه ليلاً، وقتلوا أبو بكر بن واصول اللمطي واليه المرابطي ومن معه من المرابطين، ونقلوا أبواب الحصن الحديدية الى تينملل
حيث ركبت على باب الفخارينعاد عبدالمؤمن الى تينملل، وكانت قد وقعت خلال غيبته حادثة خطيرة، ان دلت على شيء فانما تدل على أن الطموح الى الرئاسة كان مايزال يضطرم في نفوس بعض منافسي عبدالمؤمن وأن الرغبة في القيادة والتطلع إلى الزعامة كانت لاتزال تلح في نفوس أقرب المقربين إلى عبدالمؤمن وأعني بهم أصحاب ابن تومرت العشرة وتتلخص هذه الحادثة في اقدام عبدالله بن ملوية أحد أصحاب بن تومرت العشرة، على شق عصا الطاعة على عبدالمؤمن بن علي أثناء غيابه عن تينملل غازياً، واعلانه الطاعة لأمير المسلمين علي بن يوسف الذي لم يتردد في اعلان رضاه عن ابن ملوية، ووضع تحت تصرفه قوة عسكرية مرابطية لمهاجمة تينملل، فسار ابن ملوية بتلك القوة الى موضع يسمى تامد غوست قاعدة قبيلة جنفيسة بهدف استمالتها الى جانبه ثم يزحف بقواته المجتمعة الى تينملل، غير أن عبدالله بن وسيدرن أحد زعماء جنفيسة المقيمين في تينملل جمع شيوخ جنفيسة وأعلنوا تمسكهم بالعهد الذي قطعوه لابن تومرت، ونعوا إلى ابن ملوية تلك الخيانة وفي الحال قام أبو سعيد يخلف بن الحسن آتيكي أحد أهل خمسين ومعه غلامه، وسارا الى محلة ابن ملوية وقتلاه، وحملا جثته الى تينملل حيث صلبت، ولما عاد عبدالمؤمن وعلم بما حدث شكر لجنفيسة اخلاصها وقسم الغنائم عليها.
ويبدو أن عبدالله بن ملوية لم يكن متطلعاً للزعامة وإنما أراد الرجوع إلى الحق والتوبة وخصوصاً وهو أحد العشرة الذين يعرفون الكثير من كذب وباطل وظلم وجور مارسه ابن تومرت بدون مسوغ شرعي ولذلك أعلن طاعته لأمير المسلمين علي بن يوسف.
وفي عام 526هـ حدث أمراً عظيماً يحمل في طياته مغزى عظيماً ومبشراً بقرب أفول عهد المرابطين، فقد انضم القائد المرابطي المشهور الفلاكي ومعه طائفة من جنده الى الموحدين، وكان الفلاكي من أهل اشبيلية وكان في بداية أمره شقياً وقاطع طريق، ثم تاب فعفا عنه والي اشبيلية، وقدمه على الرماة والرجالة، ثم انتقل الى خدمة أمير المسلمين علي بن يوسف، الذي قدمه على فرقة من جند المرابطين ووجهه الى السوس لمدافعة الموحدين، فجد في محاربتهم وأظهر بطولة وشجاعة نادرتين، ثم لم تلبث العلاقات بينه وبين أمير المسلمين أن ساءت فانضم الى الموحدين، وأخذ يهاجم الحصون المرابطية الواقعة في منطقة السوس، ويفعل بها مثلما كان يفعل في الحصون الموحدية من قبل، وظل في خدمة الموحدين الى أن ارتد بعد ذلك عن الطاعة وعاد إلى طاعة المرابطين وفي عام 528هـ قتل قائد المرابطين ابراهيم بن يوسف بن تاشفين واستطاع الموحدون فتح مدينة تارودنت أعظم معاقل المرابطين في بلاد السوس.
وفي عام 529هـ سار عبدالمؤمن لغزو بني بيغز وظل عبدالمؤمن يحاصرهم نحو أربعين يوماً، فلما يئس من اخضاعهم رفع الحصار وعاد الى تينملل واستمر الصراع من عام 531هـ، 532هـ وفي هذا العام 532هـ تحرك عبدالمؤمن من تينملل الى جبل غياثة، فعسكر بجرائده على مقربة من المقرمدة عند وادي أبي حلوا، كما انضمت اليه قوة عسكرية يتولى قيادتها عبدالله بن يحيى بن أبي بكر بن تيفلويت، فعسكرت بالقرب من محلة سير، وفي نفس الوقت حشدت زناتة الموالية للمرابطين خمسة آلاف فارس يتقدمهم يحيى بن فانو غير أن زيري بن ماخوخ أحد شيوخ زناتة لم يلبث أن أعلن انضمامه إلى الموحدين، وراسل عبدالمؤمن بن علي وطلب منه عسكراً لمهاجمة عسكر المغرب الذي يقوده عبدالله بن يحيى بن أبي بكر، فأمده بقوة موحدية، أغار بها على محلات عسكر المغرب، وألحق بهم خسائر فادحة. وفي نفس الوقت توفي القائد يحيى بن فانو قائد العسكر الزناتي الموالي للمرابطين، فأسند الأمير سير القيادة الى القوة الزناتية لمحمد بن يحيى ابن القائد المتوفي، الذي واصل سيره بقوات أبيه حتى نزل على مقربة من وجده. وكانت الأنباء قد وصلت إلى سير بن علي بأن عبدالمؤمن يريد بلاد غماره، فوضع له سير ألفي فارس في طريقه ليمنعه من تحقيق هدفه، واستمرت هذه القوات المرابطية مايقرب من الشهرين تتناوب حراسة الطريق ومراقبة تحركات عبدالمؤمن. وفي أثناء ذلك راسل زيري بن ماخوخ ذويه من زناتة واتفق معهم على أن يخذلوا المرابطين في المعركة المقبلة بين المرابطين والموحدين فأرسل عبدالمؤمن سرية من جنده مع زيري بن ماخوخ، خرجت من جبل غياثة الى محلة زناتة، وهاجمتها، ونشبت بين الفريقين معركة انهزمت فيها زناتة.
وفي عام 533هـ تحرك عبدالمؤمن بن علي من تينملل، ونزل في بلد ملول من منانة في أراضي حاحة، فزحف اليه الامير تاشفين بن علي بن يوسف ولي عهد المرابطين من مراكش ومعه الروبرتير قائد فرقة الجند للمرابطين، ونزل تاشفين بقواته في تاحكوط في حاحة، وكان علي بن يوسف قد قتل عدداً من أعيان قبيلة منانة، وكان ذلك سبباً في دخولها في طاعة الموحدين ولكنها ارتدت عن الطاعة ثلاث مرات، فأقام عبدالمؤمن في بني ملول شهراً وثلاثة أيام، وهو يشن عليهم الغارات، ثم تركهم وسار بعد ذلك الى قبيلة بني وجدزران ثم الى بني سوار من منانة الجبل، وكان أبو بكر بن علي بن يوسف قد قتل أشياخهم وأعيانهم لدخولهم في طاعة الموحدين ثم سار عبدالمؤمن الى أجر فرجان، فتبعه تاشفين بن علي في قواته وسد عليه الطريق، فنشبت في أجر فرجان معركة عنيفة بين الفريقين، هزم فيها تاشفين، وتكررت هزيمته ثلاث مرات الى أن فر بنفسه الى جهة الميزتانوت، فاستولى الموحدون على أسلابه من السلاح والثياب والدواب والعبيد وفي هذه اللحظات وصلت قوة مرابطية من مراكش مدداً لتاشفين ولكنها وصلت بعد فوات الأوان أي بعد هزيمة تاشفين، فطمعوا في انتزاع الغنائم من الموحدين، فلما علم عبدالمؤمن بذلك لجأ إلى الحيلة فأمر برصد الكمائن في مضايق الجبل وقدم الغنائم بين يديه اجتذاباً للقوة المرابطية التي كانت من قبيلة جزولة وأمر الكمائن بالاندفاع نحوهم اذا ماسمعوا قرع الطبول. نجحت خطة عبدالمؤمن بن علي نجاحاً تجاوز كل تقدير في الحسبان، فقد هاجمت جزولة ساقة الغنيمة وقتلت بعض حراسها، فلما توسطوا مواضع الكمائن، دقت الطبول فجأة، فاندفعت الكمائن صوب جزولة فأبادوهم عن آخرهم واستولوا على أسلحتهم ودوابهم وما إن تم لعبدالمؤمن ذلك حتى تراجع صوب بلاد جنفيسة.
وفي عام 534هـ ، خرج الأمير تاشفين بجيش ضخم من لمتونة وزناتة لقتال الموحدين وانضمت اليه فرقة بقيادة الروبرتير، وتمكن المرابطون من حصارهم في موقع يقال له تيزعور مايقرب من شهرين، وشددوا عليهم الحصار وقطعوا عنهم الميرة حتى اضطر الموحدون الى أكل حيواناتهم، ثم نشبت بين الفريقين معركة عنيفة رجحت في بدايتها كفة المرابطين ولكنها انتهت بهزيمتهم وانسحاب تاشفين الى مراكش حاملاً معه الروبرتير جريحاً.
وفي عام 535هـ (1140-1141م) ، خرج الجيش المرابطي من مراكش بقيادة الروبرتير، فاشتبك مع الموحدين بقيادة الخليفة عبدالمؤمن بن علي في مكان يسمى امسيميصي يقع في أرض كدميوه شمال تينملل وقيل ان اللقاء حدث بجبل خدميره، ولايذكر البيذق، نشوب معركة بين الجانبين وانما يؤكد ان كل فريق عاد إلى بلاده، بينما يؤكد ابن عذارى حدوث قتال بين قوتي المرابطين والموحدين، وأن المعركة انتهت بهزيمة المرابطين وعودة الروبرتير جريحاً الى مراكش. ثم عاد الروبرتير الى الخروج بقوات لمتونة، واشتبكت قواته مع قوات عبدالمؤمن بموضع يسمى اكظرور، فهزم المرابطون، وارتد الروبرتير في فلوله جريحاً إلى مراكش، وعاد عبدالمؤمن الى تينملل.
واصل عبدالمؤمن بن علي صراعه ضد المرابطين، فخرج في قواته نفس العام - 535هـ - وحاصر حصن تينلين، وكان يدافع عنه واليه المرابطي يركين ابن وبدرن، واستمر يحاصر الحصن ثلاثة أيام، اضطر بعدها إلى فك الحصار والاتجاه نحو بلاد السوس، وذلك عندما علم بتحرك قوات المرابطين بقيادة الروبرتير صوب تينلين، ومع ذلك فقد تمكن عبدالمؤمن من فتح بعض حصون المرابطين في السوس من بينها ايرمناد، وتاسلولت وتيونوين وايجلي وغيرهم وفي نفس الوقت هاجم الروبرتير محلة تيغيغايين الموحدية، وسبى نساءها وأخذهن معه إلى مراكش. أما عبدالمؤمن فقد عاد من غزوته في أرض السوس وكان من جملة سباياه فيها " تما كونت " ابنة ينتان بن عمر أحد وزراء علي بن يوسف، التي رجته أن يعفو عنها ويطلق سراحها، وذكرته بشفاعة أبيها ينتان بن عمر في ابن تومرت، عندما كان ماراً بمراكش، وحاول الفقهاء تحريض امير المسلمين على التنكيل به، فلم يتردد عبدالمؤمن في قبول رجائها وأمر على الفور باطلاق سراح جميع النساء وأرسلهن إلى مراكش معززات مكرمات، فأعجب علي بن يوسف بصنيع عبدالمؤمن وأمر بدوره باطلاق سراح سبايا تيغيغايين وأرسلهن آمنات مكرمات الى تينملل رأى عبدالمؤمن بعد تلك الانتصارات التي أحرزها الموحدين على المرابطين أن ينقل مسرح الصراع الى قلب دولة المرابطين مستهدفاً القضاء عليها واسقاطها، وشرع في تنفيذ تلك الخطة في بداية 535هـ ويورد البيذق وكان شاهداً عياناً لاحداث هذه الفترة وصفاً دقيقاً لحملة عبدالمؤمن الكبرى ضد المرابطين فيذكر أنه خرج من تينملل في حشود ضخمة متجهاً نحو الشمال الشرقي، فنزل بموضع يسمى وانزال ثم زحف الى أشبار وتقع جنوب شرقي مراكش ثم غادرها الى تاساوات فدمنات بعد أن بلغه خروج تاشفين بن علي في أثره وأنه نزل بأشبار وتابع سيره نحو دمنات مروراً ببلدة يمللو القريبة منها، ثم تابع الموحدون زحفهم نحو " واويزغت " دون أن يشتبكوا مع المرابطين في معركة حاسمة باستثناء موقعة محلية حدثت في تيزي ودارت فيها الدائرة على المرابطين. ثم تقدم الموحدون الى "داي" فولى حاكمها المرابطي علي بن ساقطر الادبار وأرغم أهلها على بذل الطاعة للموحدين وواصل الموحدون زحفهم صوب "تازاكارت" ولم تلبث هذه البلدة أن سقطت في أيديهم وتبعتها قلعة واوما، ثم آزرو التي تقاعس حاكمها في الدفاع عنها، فدخلها الموحدون، واتخذها عبدالمؤمن قاعدة لقيادته، وجه منها عدداً من الحملات لاخضاع المناطق المجاورة، وفي نفس الوقت أرسل بعض أشياخ الموحدين الى تينملل يبشرون أهلها بانتصارات عبدالمؤمن. وهكذا دخل أهل فازاز جميعاً في طاعة الموحدين وأقام عبدالمؤمن فترة في أزرو حيث تزوج من احدى نسائها. واصل عبدالمؤمن زحفه، فخرج من أزرو حيث اعترضته قوة مرابطية على طريق مكناسة، ففتك بها وأباد معظمها، واستولى على كميات كبيرة من المؤن والعتاد، ثم هاجم قواعد المرابطين في غريس الواقعة جنوبي آزرو، وتمكن من بسط نفوذه على جميع المناطق الواقعة جنوبي آزرو، وعندئذ اتجه نحو سلجماسة، فبادر واليها أبو بكر بن صارة بالدخول في طاعة الموحدين.
وفي أوائل عام 536هـ قامت سرية موحدية على رأسها عبدالرحمن بن زكو بمهاجمة مدينة صفروي واقتحمتها، وتابع ابن زكو زحفه الى الشمال الشرقي نحو الفلاج الواقعة شمال شرقي صفروي. وفي هذا الاثناء غادر تاشفين بن علي مدينة فاس الى جبل العرض فعسكر به، ثم بعث الروبرتير في قوة الى الفلاج لاستنقاذها، فخرج اليه الموحدون بقيادة يحيى آغوال، فنشبت بينهما معركة عنيفة هزم فيها الموحدون وقتل قائدهم يحيى، واحتز رأسه وأرسل إلى فاس ثم تقدم الموحدون نحو أرض غياثة الواقعة شرقي فاس، وضربوا محلتهم على سفح جبل عفرا، بينما عسكر المرابطون في موضع يسمى النواظر يقع على مقربة من جبل عفرا. ولم يمض وقت قصير حتى حل فصل الشتاء وكان شتاءاً قاسياً تعرضت فيه المنطقة خلال أسابيع لعواصف عاتية وسيول مدمرة اكتسحت السهول والقرى والوديان وقاسى بسببها العسكران أيما عناء وشدة، إلا أن وقعها على المرابطين كان أشد وأنكى، حيث تساقطت الخيام، وعامت أوتادها لرخاوة الارض، وغرقت الدور وهلك عدد كبير من عسكر المرابطين بسبب البرد القارس وقلة الأقوات والوقود في كل من المعسكرين وبلغ سعر الشعير في معسكر الموحدين وفقا لقول البيذق ثلاثة دنانير للسطل، وبلغ الحطب عند تاشفين ديناراً للرطل. ومع حلول فصل الربيع استأنف الموحدون زحفهم فكان أول موضع قصده عبدالمؤمن هو قلعة الولجة من حصون المنطقة المعروفة باسم لكاي وتقع الى الشمال الشرقي من فاس. وفي نفس الوقت تقدم تاشفين بن علي ومعه الروبرتير في أثر الموحدين، فاضطر الموحدون الى ترك أرض لكاي الى أرض بني غمارة من بطون صنهاجة، وكانوا قد أظهروا ولاءهم للموحدين ودخلوا في طاعتهم. وعندئذ سار تاشفين والروبرتير إلى أرض بني تاودا ونزلوا بها، وأصبح العسكران كفرسي رهان، كلما تقدم الموحدون سار وراءهم المرابطون، ثم خرج الروبرتير واشتبك مع الموحدين في معركة عنيفة في موضع يقال له "تازغدرا" أسفرت عن قتل عدد من القوتين، ارتد الروبرتير على أثرها الى بني تاودا بينما سار الموحدون الى "تاغزوت" ومنها الى بني مزكلدة، ثم الى ايلانة ثم إلى ايجن. وفي ايجن مرض الشيخ أبو حفص عمر بن علي أزناج أحد جماعة العشرة، فلما شعر بدنو أجله وعظ أشياخ الموحدين ونصحهم بالتزام الصبر والتمسك والاخلاص لمبادئ ابن تومرت، وطاعة عبدالمؤمن، ثم توفي في مساء نفس اليوم ودفن في موضع يسمى "بجدار نمضى" ، ثم واصل الموحدون سيرهم في الريف، مروراً بتا مقريت ووادي لو أرض بني سعيد. ومن وراءهم الروبرتير يتعقبهم الى أن وصل إلى مدينة تطوان، في الوقت الذي وصلت قوات الموحدين الى قلعة باديس المطلة على البحر المتوسط، ومكنت نفوذها في تلك النواحي، وواصلت من هنالك تقدمها الى ثغر المزمة ومنها الى جبل تمسامان، حيث وجه عبدالمؤمن قائده عبدالرحمن بن زكو في قوة من الموحدين لغزو مليلة، فاقتحمه وظفر بغنائم وفيرة ثم رحل الموحدون الى ندرومه من بلاد كوميه، قبيلة عبدالمؤمن ومنها واصلوا تقدمهم شرقا إلى تاجرا مسقط رأس عبدالمؤمن وفي هذه البلدة وجه عبدالمؤمن ثلاث حملات الأولى بقيادة عبدالرحمن بن زكو، وجهتها ثغر وهران، تمكنت من اقتحامه والاستيلاء عليه، والثانية بقيادة الشيخ أبي ابراهيم اسماعيل، وكانت وجهتها قبائل بني وانوان، والثالثة بقيادة يوسف بن واندوين وسارت الى جبل مديونة من أحواز تلمسان، فخرج اليها المرابطون من تلمسان بقيادة أبي بكر بن الجوهر، ومحمد بن يحيى بن فانو، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة في وادي الزينون، انهزم فيها المرابطون وقتل القائدان ابن الجوهر وابن فانو، وهكذا واصل الموحدون سلسلة انتصاراتهم، على قوى المرابطين وان كانت كلفتهم كثيراً طوال حياة أمير المسلمين علي بن يوسف لمحبة الناس له وعظم هيبته في نفوس المرابطين، ثم جاءت وفاته سنة 537هـ بداية لنهاية دولة المرابطين ، وتولى الحكم بعده تاشفين الذي كان متفرغاً في حياة والده لقتال الموحدين، لذلك خف الضغط على الموحدين لانشغال تاشفين عنهم بعض الوقت بشئون الحكم الداخلية وبالمحافظة على هيبة المرابطين في الأندلس ومما زاد الأمر سوءاً أن النورمان أدركوا حرج الدولة المرابطية في ذلك الوقت، وداهموا سبتة بأسطول يتألف من نحو مائة وخمسين سفينة حربية في عام (538هـ) فتصدى لهم الأسطول المرابطي بقيادة علي بن ميمون وأنزل بهم هزيمة نكراء.
وفي هذا الوقت أيضاً حدث خلاف بين لمتونة ومسوفة من قبائل المرابطين فانضمت مسوفة الى الموحدين. وفي عام 539هـ/ 1144م تمكن عبدالمؤمن بن علي من قتل القائد المرابطي الربرتير ودخل تلمسان وفي 27 رمضان من نفس العام قتل تاشفين ودخل الموحدون وهران، وفي 14 ذي القعدة 540هـ/ دخل الموحدون فاس، وفي 18 شوال تمكنوا من دخول مراكش.
وهكذا نجح الموحدون في إسقاط دولة المرابطين بعد سلسلة طويلة من الصراع المرير استخدم فيه الطرفان مختلف الخطط ضد بعضهما البعض.
ولكن خطط الموحدين كانت أحكم من خطط المرابطين، فقد اعتمد الموحدون أسلوب الحرب الطويلة مستخدمين أسلوب حرب العصابات فقضوا على اقتصاديات دولة المرابطين. كما شجع هذا الوضع الاسبان النصارى على تشديد الضغط على المرابطين لتحويل المعركة لصالحهم وقد صور صاحب الحلل الموشية ذلك بقوله: (وتأججت نار الفتنة بالمغرب، وبسبب هذه الفتنة اتصلت الحرب، وغلت الأسعار وتوالت الفتن، وعم الجدب وقلت المجابي وكثر على أهل الإسلام المحن بالعدوتين ووجه كثير من حماة الأندلس الى العدوة ونقل اليها كثير من أسلحتها وعددها فكان ذلك أعظم فساد حل بالأندلس واختل عليهم وألح النصارى بالضرب على جهات بلاد الأندلس حين علموا عجز الإمارة بالمغرب عن الدفاع لما فيه من الفتن حتى تغلبوا على كثير من بلادها، وكان الإسلام بها عزيزاً والكفر مقهوراً والجزية مرتفعة منذ ملكها يوسف بن تاشفين إلى زمان خروج المهدي فساءت الأحوال وكثرت الشدائد والأهوال).
وبعد دخول الموحدين مراكش اصبح عبدالمؤمن سيد المغرب الأقصى كله، فكان لابد من توطيد اركان دولته الجديدة في الأندلس والمغرب الأدنى والأوسط.
بعد أن احتل عبدالمؤمن بن علي مدينة فاس وحاصر مراكش تلقى من أهل سبتة بيعتهم له، فولى عليهم يوسف بن مخلوف الهنتاتي ولكن أهل سبتة انتقضوا على يوسف بن مخلوف وقتلوه هو ومن معه من الموحدين، وجاز القاضي عياض واليهم السابق الى يحيى بن علي بن غانية المسوفي والى الأندلس، فلقيه بالجزيرة الخضراء وطلب منه والياً على سبتة، فأرسل معه يحيى بن أبي بكر المعروف بالصحراوي، فقام بأمر سبتة وشكل حلفاً مع القبائل الخارجة عن الموحدين من أمثال برغواطة ودكالة، فاضطر عبدالمؤمن إلى قتال هؤلاء الخارجين عليه، فاستطاع أن ينكل فيهم بالقتل والأسر والسبي حتى انقادوا لطاعته، ثم عاد إلى مراكش وتقدم الصحراوي بطلب العفو عنه، فعفا عبدالمؤمن عنه، وراجع أهل سبتة طاعتهم، وكذلك أهل سلا الذين كانوا خرجوا عليه.
وبعد هذه المعارك الطاحنة في المغرب الأقصى واستتاب الأمر لعبدالمؤمن وجه نظره الى الأندلس وكانت كثير من مدنها قد استغلت الصراع بين المرابطين والموحدين فأعلنت ثوراتها وانفصالها عن المرابطين وزادت عنفاً هذه الثورات بعد وفاة تاشفين بن علي في عام 539هـ وكان علي بن عيسى بن ميمون من بين هؤلاء الثوار، فاستقل بقادس ودخل في طاعة الموحدين، وخطب أول خطبة لهم في قادس سنة 540هـ كذلك قام أحمد بن قيس الصوفي الثائر في مرتلة، فلما استولى أبو محمد سدراي على مرتلة أجاز ابن قيس إلى عبدالمؤمن بمراكش عام 541هـ ورغبه في احتلال الأندلس وضمها إلى دولة الموحدين فسير عبدالمؤمن معه جيشاً بقيادة براز بن محمد المسوفي، في شعبان 541هـ، ثم أمده بجيش آخر بقيادة موسى بن سعيد وجيش آخر بقيادة عمر بن صالح الصنهاجي. فلما عبروا الزقاق ونزلوا بالأندلس، هاجموا أبا القمر بن عزوز بشريش ورندة، فدخل في طاعة الموحدين، ثم قصدوا لبلة وأخضعوا يوسف بن أحمد البطروجي، ثم مضوا إلى مرتلة، فدخلوها وافتتحوا بعد ذلك شلب، وقصدوا باجة وبطليوس، فدخل أبو محمد سدراي ابن وزير في طاعتهم، كما انضوت اشبيلية في سنة 541هـ تحت لوائهم بعد ان اقتحموها براً وبحراً، ثم دخلوا مالقة في هذه السنة. غير أن يوسف البطروجي لم يلبث ان نكث بطاعته للموحدين، وحول الدعوة عنهم، كما ارتد عن طاعتهم ابن قيس في شلب، وعلي بن عيسى بن ميمون في قادس، ومحمد بن علي بن الحجام في بطليوس، بينما بقى أبو القمر بن عزوز على طاعتهم في شريش ورندة.
اضطرت أحداث الأندلس عبدالمؤمن إلى إرسال جيش إليها يقوده يوسف بن سليمان، فنزل يوسف باشبيلية التي اتخذها الموحدون حاضرة لهم في الأندلس، وتمكن يوسف من بسط نفوذ الموحدين على بطليوس وشنتمرية وقادس وشلب ولبلة، ثم دخلت قرطبة وجيان في طاعة الموحدين سنة 543هـ ولم تبدأ سنة 545هـ حتى كان رؤساء الأندلس الذين كانوا قد أعلنوا ثوراتهم على المرابطين، واستقلوا بمدنهم، قد بايعوا عبدالمؤمن بن علي وأعلنوا الدخول في طاعته وبذلك فرض الموحدون طاعتهم على قادس واشبيلية، وقرطبة، ومالقة، والجزيرة، ولبلة، وشلب، وشريش، ومرتلة، فحاولوا استرجاع المرية في عام 546هـ وحاصروها، إلا أنهم فشلوا في اقتحامها وتخليصها من العدو بسبب حصانة أسوارها وإن كانوا قد نجحوا في اقتحام المرسى وحرق السفن والأجفان الراسية به، ووصلوا إلى المسجد الجامع.
وفي سنة 549هـ تغلب الموحدون على غرناطة بعد أن خرج عنها ميمون بن بدر اللمتوني، وتوطد نفوذهم في جنوب الأندلس. ثم تلقى السيد أبو سعيد عثمان بن عبدالمؤمن، والي الجزيرة ومالقة وغرناطة أمر أبيه بمحاصرة المرية براً وبحراً وتخليصها من النصارى، فتقدم أبو سعيد إلى المرية للجهاد بصحبة أخية أبي حفص، ونصب الموحدون المجانيق على القصبة بعد ان احتلوا المدينة وحاصروها حصاراً محكماً. وحاول الفونسو السابع الملقب بالسليطين أن ينقذ النصارى من هذا الحصار فأقبل إلى نصرتهم على رأس جيش من 12 ألف مقاتل، وانضم إليه حليفه ابن مردنيش في قوة من 6 آلاف مقاتل، اضطر السيد أبو سعيد عثمان الى استمداد الخليفة، فوجه إليه القائد الكاتب أبا جعفر بن عطية ومعه الأمير أبو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن، والى اشبيلية فازدادت قوة الموحدين بقدومه واضطر ابن مردنيش امام وخز الضمير ولوم النفس الشديد للرجوع من حيث أتى، إذ رأى "العار على نفسه في قتالهم مع كونهم يقاتلون النصارى فارتحل". وولى عسكر الفونسو الأدبار تاركين حامية قصبة المرية لمصيرها التعس، ومات الفونسو في طريقه إلى بياسة سنة 552هـ وخلا الجو للموحدين، فشددوا الحصار على القصبة، واستولوا عليها في سنة 552هـ وهكذا استرد الموحدون المرية، وقد تهدمت أبنيتها، وتغيرت محاسنها.
وفي سنة 555هـ أمر عبدالمؤمن ولده أبا سعيد عثمان ببناء جبل الفتح وتحصينه، فتم بناؤه على يدى الحاج يعيش المهندس، وعلى أثر ذلك جاز عبدالمؤمن من طنجة إلى الأندلس، فنزل بجبل الفتح وأقام شهرين أشرف خلالهما على أحوال الأندلس، ووفد إليه قوادها وأشياخها لتحيته ثم أمر بغزو غرب الأندلس، فسير الشيخ أبا محمد عبدالله بن أبي حفص من قرطبة، ففتح حصن أطرافكمش من أحواز بطليوس، واستولى الموحدون على بطليوس وباجة ويابرة وحصن القصر، ثم عاد عبدالمؤمن بعد ذلك إلى مراكش.
رابعاً: فتح المغربيين الأدنى والأوسط:
تمت سيطرة الموحدين على الأندلس عام 556هـ وكانت أخبار المغرب الأوسط والأدنى تصل إلى خليفة الموحدين عبدالمؤمن من اختلاف الأمراء وتطاول العرب من بني سليم وهلال على إفريقية بالعبث والفساد، كما بلغه استيلاء النورمانديين على سواحل إفريقية، فزحف في سنة 546هـ من مراكش قاصداً مملكة يحيى بن عبدالعزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس الحمادي ببجاية، فدخل مدينة الجزائر على حين غفلة، فخرج إليه الأمير الحسن بن علي بن يحيى بن تميم، وكان قد انتقل إليها بعد سقوط المهدية في أيدي النورمان، فقدمه أهلها على أنفسهم، فلما علم بقدوم عبدالمؤمن بن علي خرج للقائه فتلقاه بحفاوة بالغة وصحبه في غزو إفريقية ثم سار عبدالمؤمن نحو بجاية، فأخرج يحيى بن العزيز أخاه سبع للقاء جيوش عبدالمؤمن، فانهزم هزيمة نكراء، ودخل الموحدون بجاية ولما رأى يحيى ألا طاقه له بمحاربة عبدالمؤمن، هرب في البحر إلى صقلية لقصد الانتقال منها إلى بغداد، وحمل معه ما استطاع من الذخائر والجواهر والذهب والأموال، ثم عدل عن ذلك ونزل في بونة على أخيه الحارث، ثم رحل عنه إلى قسنطينة، فنزل على أخيه الحسن. أما عبدالمؤمن فقد قصد بجيوشه قلعة بني حماد معقل الصنهاجيين الأعظم، وحرزهم الأمنع، واقتحمها عنوة، فخربها، وأضرم النار في مساكنها، وقتل جوش بن العزيز ولما استولى عبدالمؤمن على الجزائر وعلى بجاية والقلعة وأعمالها، استعمل عليها ابنه عبدالله، ورتب من الموحدين من يقوم بالدفاع عنها وكر عائداً إلى مراكش. وكان يحيى بن العزيز قد نزل عن قسنطينة لعبدالمؤمن على أن يؤمنه، فأمنه وأصحبه معه إلى مراكش في سنة 547هـ وأسكنه بها، ثم انتقل يحيى إلى سيلا سنة 558هـ فسكن قصر بن عشيرة إلى أن توفي في هذه السنة. أما الحسن بن علي فقد صحب عبدالمؤمن في غزواته الأولى إلى افريقية، كما صحبه في سنة 554 في غزوته الثانية، فحاصر معه المهدية، ثم دخلها وسكن بها ثمان سنوات إلى أن استدعاه أبو يعقوب يوسف بن عبدالمؤمن، فرحل بأهله إلى مراكش، وتوفي بتامسنا في سنة 563هـ. ثار عرب الأثيح ورياح وزغبة في سطيف على عبدالله بن عبدالمؤمن بن علي من أجل اعادة دولة بني حماد، فأرسل عبدالمؤمن بن علي إلى ابنه مدداً، والتقى عبدالله بن عبدالمؤمن بهم في سطيف، فانهزم العرب، وأعلنوا استسلامهم للموحدين، وقدم إليه وفد من كبرائهم طائعين، فأكرمهم، ووصلهم وأعادهم إلى إفريقية معززين. وكان لذلك أكبر الأثر في دخول العرب في طاعته، فاتخذ منهم جنداً وأقطع رؤساءهم بعض تلك البلاد ثم انه استنفرهم إلى الغزو بالأندلس، فاستجاب له منهم جمع عظيم. فلما اراد الجواز إلى الأندلس في سنة 555هـ أدخلهم بها، وجعل بعضهم في نواحي قرطبة، وبعضهم في إقليم إشبيلية، مما يلي شريش وأعمالها، وقد استكثر منهم أبو يعقوب يوسف وأبو يوسف يعقوب المنصور، ويذكر المراكشي أن بالجزيرة في أيامه من عرب زغبة ورياح وجشم وغيرهم نحو من 5 آلاف فارس سوى الرجالة.
وفي هذه الأثناء كان عبدالله بن عبدالمؤمن قد خرج في جيش كبير من المصامدة والعرب ونزل على مدينة تونس سنة 552هـ، فحاصرها، وأخذ في قطع أشجارها وتغوير مياهها، وكان قد استقل بها عبدالله بن خراسان، فخرج أهل تونس لمقاتلة الموحدين، وانضم إليهم محرز بن زياد أمير بني علي من بطون رياح هو وقومه من العرب فهزموا الموحدين
وتوفي عبدالله بن خراسان أثناء ذلك، فخلفه علي بن أحمد بن عبدالعزيز بن خراسان، وعاد عبدالله بفلول أصحابه إلى بجاية فكتب إلى أبيه بذلك. فخرج أبوه من مراكش في جيوش لاتحصى في 10 شوال سنة 553هـ بعد أن استخلف على مراكش أبا حفص بن يحيى، وترك معه ولده السيد أبا الحسن. ثم زحف إلى مدينة تونس ففتحها عنوة، ثم واصل زحفه إلى المهدية، وضرب عليها الحصار. وكانت الإمدادات تأتي حاميتها من صقلية، ولذلك طال الحصار إلى سبعة أشهر، ثم افتتحها عبدالمؤمن بعد أن أمن حاميتها على أن يخرجوا منها إلى صقلية، ودخلها في سنة 554هـ. وكان عبدالمؤمن أثناء حصاره للمهدية قد بعث ابنه عبدالله لمحاصرة قابس، فاستولى عليها من بني كامل من رياح، المتغلبين عليها، كما استولى على قفصة من بني الورد، وعلى طبرقة من مدالع بني علال، وجبل زغوان من بني حماد بن خليفة، وشقنبارية من بني عماد بن نصر الله الكلاعي، والأربس من بني فثانة العرب ويذكر المراكشي أنه افتتح طرابلس الغرب أيضاً، وافتتح بلاد الجريد كلها.
وعاد بعد ذلك إلى مراكش بعد أن أتم إخضاع إفريقية كلها وضمها إلى دولته، وأصبحت دولة الموحدين تمتد من طرابلس شرقاً إلى السوس الأقصى غرباً، لأول مرة في تاريخ المغرب منذ عصر الولاة.
خامساً: سياسته مع النصارى واليهود وتخريجه للساسة لضبط نظام الدولة:
أ- عندما استولى عبدالمؤمن على مراكش، قتل المقاتلة، وكفَّ عن الرعية، وأحضر اليهود والنصارى وقال: إن المهدي أمرني أن لا أُقرَّ الناس إلا على ملة الإسلام، وأنا مُخيركم بين ثلاثٍ، إما أن تُسلموا، وإما أن تلحقوا بدار الحرب، وإما القتل. فأسلمت طائفة ولحقت أخرى بدار الحرب، وخرَّب كنائسهم، وعملها مساجد، وألغى الجزية، فعل ذلك في جميع مدائنه، وانفق بيوت الأموال، وصلى فيها اقتداء بعليٍّ وليُري الناس أنه لايكنز المال، وأقام كثيراً من معالم الإسلام مع سياسة كاملة، ونادى: من ترك الصلاة ثلاثاً فاقتلوه، وأزال المنكر، وكان يؤمُّ بالناس، ويتلو في اليوم سبعا، ويلبس الصوف الفاخر، ويصوم الاثنين والخميس، ويقسم الفئ بالشرع فأحبوه، وكان يأخذ الحق إذا وجب على ولده، ولم يدع مشركاً في بلاده لا يهودياً ولا نصرانياً، فجميع رعيته مسلمون.
ورأى عبدالمؤمن أنه من الحزم والفطنة أن يضع للدولة نظماً موطدة الدعائم، فأطلق حرية العلوم والمعارف، وسارفي كل ذلك مع نهج الدين الحنيف، وبنى عدداً من المساجد والمدارس الفخمة التي غدت مراكز للعلوم والآداب، وقرنها بالخدمة العسكرية دوماً، مع التمرين على فنون الحرب، ذلك أن عبدالمؤمن كان يخشى أن يؤدي الانقطاع الى العلم والدرس إلى اضعاف الهمم، وفتور الحماسة الحربية لدى الموحدين.
كما أنشأ عبدالمؤمن مدرسة لتخريج رجال السياسة، وموظفي الحكومة، وقادة الجيش، وكان يجمعهم يوم الجمعة بعد الصلاة في قصره، ويمتحنهم فيما درسوا، ويوجه إليهم الاسئلة بنفسه تشجيعاً لهم على الاجتهاد، ولكي يجعل منهم رجالاً أكفاء قادرين على نفع البلاد في السلم والحرب.
وفي أيام أخرى كان يمتحن تدريباتهم العسكرية، فيختبرهم في الطعن بالحراب والرمي بالقوس والسهام والمبارزة وركوب الخيل، وفي السباحة والمعارك البحرية في بحيرة أعدّها ووضع فيها سفناً كبيرة وصغيرة ليتدرب الشباب على قتال البحر، وقيادة السفن، والوثب على سفن العدو، ويقدم للمهرة الممتازين الهدايا الثمينة بنفسه.
لقد استطاع عبدالمؤمن في نحو عشرين سنة أن ينشئ نظاماً جديداً للدولة، إذ لم يبقى من قدماء الموظفين المعارضين من يعمل على مناوأته. وكان أشد مايعنى به عبدالمؤمن - وهو من أعظم قادة عصره - تنظيم شؤون الحرب والجهاد التي بث فيها بجهوده ومتابعته، نهضة إحياء شاملة وإليك وصفاً لنظام سير الموحدين، وتقسيمات الجيش، كما كان عندما استولى على تونس والمهدية من النورمان الصقليين.
كان مسير الجيش بعد صلاة الصبح قبيل شروق الشمس، وكانت علامة
المسير ثلاثة قرعات من طبل ضخم دوره خمسة عشر ذراعاً، مدهون بلون الموحدين الأخضر، ومحلى بالذهب، وقد صُنع من خشب رنَّان، فكان يُسمع على مسيرة نصف يوم إذا ضُرب في مكان مرتفع في يوم ساكن لا ريح فيه، وكانت كل قبيلة تتبع علمها الخاص، وهو يحمل مطوياً أثناء السير، ولاينشر عندئذ سوى علم الطلائع، وقد كان مكوناً من اللونين الأبيض والأزرق، وعليه هلال مذهب، وتحمل الخيام والعتاد والمؤن على ظهور الجمال والدواب، هذا غير ما يتبع الجيش من قطعان عديدة من الثيران والأغنام تسير تحت إشراف الرعاة، وتُخَصصّ لغذاء الجند، وكان جيش عبدالمؤمن النظامي يتألف - فضلاً عن الفرسان - من سبعين ألفاً من المشاة، وكان ينقسم إلى أربعة جيوش، يفصل بعضها عن بعض أثناء السير مسيرة يوم، وذلك حتى لايقع نقص في الماء، أو ضيق في المكان، وإذا كان معظم الجند مثقلاً بالسلاح فقد كانت مسيرة اليوم قصيرة المدى، وكان يقطع خلالها عادة عدة أميال فقط، وكان يقتصر على السير منذ شروق الشمس إلى وقت الظهر، حتى يتسنى للجند أن يبدأوا السير في اليوم التالي بقوى مجددة، وترتب على هذا التمهل في مسير الجيش أن اقتفى عبدالمؤمن ستة أشهر ليقطع المسافة بين سلا وتونس، وهي مسافة كانت تقطعها فرقة الفرسان الخفيفة في نحو شهرين فقط. وكان عبدالمؤمن إذا ركب احتاط به الأشياخ والقادة، وأدوا معه الصلاة، ثم ينصرف بعد ذلك كل إلى مكانه، وإلى قيادة الجند التابعين له، وكان يتقدمه مائة شيخ وقائد، يمتطون جياداً مطهَّمة ويتقلدون أسلحة فاخرة، ويرتدون ثياباً فخمة، وكان يحمل أمامه مصحف الخليفة عثمان بن عفان الذي غنمه الموحدون من قرطبة، تبرُّكاً وتيمُّناً، وقد وضع في - صندوق - بديع الصنع، محلَّى بصفائح الذهب: مرصع بأروع اللآلئ والاحجار الكريمة، حتى إنه قيل بحق بأن كنوز الأمويين، وبني عباد ملوك اشبيلية، وبني هود ملوك سرقسطة، والمرابطين، قد اجتمعت فيها جميعاً وتكدَّست. وهذا الصندوق يحمل في هودج ثمين، وعلى جوانبه الأربعة أربعة أعلام، ويتبعه مباشرة أمير المؤمنين عبدالمؤمن، والى جانبه ولده وكاتب سره السيد أبو حفص والي تلمسان، وهو شقيق السيد أبي يعقوب يوسف، ويتبعه على قيد مسافة قصيرة الأمراء وأبناؤه الآخرون الذين يرافقون الجيش، ثم يتبعهم بنود القبائل وفق ترتيبها، وعدد من قارعي الطبول على خيول عالية، والنافخون في الأبواق والقرون وغيرهم من رجال الموسيقى العسكرية، ثم الولاة والقضاء والوزراء والكتاب، وبعد ذلك يأتي الجند متعاقبين في نظام محكم، فإذا حل الوقت الذي ينتظم فيه المعسكر، أفرد لكل قسم مكانه المعين ولاسمح لانسان أن يترك المعسكر دون اذن القائد المختص، ثم توزع الأقوات التي يحمل الجيش منها مقادير وافرة، على الجند بأنصبة متساوية، فلا يُقتّر على أحد منهم.
يستنتج من هذه النظم الصارمة، ومن المثابرة على التمارين الحربية، ومن دراسة حياة الموحدين:
1- ان عبدالمؤمن كان يعتني عناية خاصة باختيار مواقع القتال.
2- كان يتولى القيادة بنفسه في كل الأمور الحاسمة الهامة.
3- وكان يتبع نظاماً جديداً في منتهى البساطة، ولكنه جم الفوائد.
4- وأن قيمة الجيش ليست في عدده، إنما هي قبل كل شيء في مقدرته وكفاءته ومعنوياته وإيمانه، وكان عبدالمؤمن يرى أن القوة الرئيسية يجب أن تؤلف من جند من المشاة حسنة التدريب، حسنة التسليح، فهي العامل الحاسم في مصير المواقع وفي اقتحام المدن، مع وجود جيش ضخم من الفرسان لايستغني عنه في المعارك.
المفضلات