صفحة 5 من 5 الأولىالأولى 12345
النتائج 41 إلى 46 من 46
 
  1. #41
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    الأوضاع المالية


    يقول الدكتور ألفرد. ج. بتلر عن الحكم الروماني في مصر: "إن حكومة مصر الرومية لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية، أو ترقية حال الناس والعلو بهم في الحياة، أو تهذيب نفوسهم، أو إصلاح أمور أرزاقهم، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم".
    هذه هي أوضاع مصر المالية في ظل الحكم الروماني، ولكن ماذا عن وضع مصر المالي في عهد عمرو بن العاص t؟

    نحب أن نقرر -بادئ الأمر- أن المسلمين لم يأتوا إلى مصر لابتزاز أموال أهلها، ولا لاستنزاف ثرواتهم، وقد اتضح منذ المفاوضات المبكرة مع المقوقس أنهم ليسوا طلاب دنيا، ولا راغبي مال، وإنما هم أهل دعوة ورسالة سامية، وقد كانت هذه المعاني سياسة ثابتة في عهد عمر بن الخطاب t الذي كان يميل إلى فتح البلدان صلحًا إذا أمكن تجنب فتحها عنوة، فقد ذكَّر عمرو جنده بما أوصى به عمر من التريث وقبول الصلح، وتقديم ذلك على القتل والفتح العمد، وكذلك بعد أن تسور الزبير حصن بابليون، وفتح بابه بالقوة، قال لعمرو: اقسم مصر، فقد فتحت بغير عهد. فرفض عمرو، فلما ألح الزبير على عمرو أن يقسمها كما قسم الرسولخيبر، سأل عَمْرو عُمَر، فقال: أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.

    بل إنه عَامَلَ الإسكندرية -على الرغم من أنها فتحت عنوة- معاملة ما فتح صلحًا، وقد اتضح من خلال بنود الاتفاقات المعاهدات التي عقدها المسلمون مع أهل البلاد أنهم يَعِدُون بانتهاج سياسة عادلة، ويحفظون ممتلكات الناس، ويرعون حرمتهم، ولذلك فإنه لا غرو أن يسأل عمرو -بناء على طلب عمر- بنيامين النصيحة الخالصة لمعرفة أحسن السبل التي تدار بها شئون مصر الاقتصادية ويحقق الرخاء والاستقرار لأهلها، فقد كتب عمرو متسائلاً: من أين تأتي عمارة مصر وخرابها؟

    فقال بنيامين: "تأتي عمارتها وخرابها من وجوه خمسة: أن يستخرج خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من زروعهم، ويرفع خراجها في إبان واحد عند فراغ أهلها من عصر كرومهم، وتحفر في كل سنة خُلُجها، وتسد ترعها وجسورها، ولا يُقْبَلُ مَحْلُ أهلها (يريد البغي)، فإذا فعل هذا عمرت، وإن عمل فيها بخلافه خربت".
    ولعل ما ورد في نص الصلح الرسمي الذي عقد بين المسلمين والمقوقس بعد فتح الحصن، ما يبين لنا بوضوح ملامح السياسة المالية للمسلمين في مصر.


    الأوضاع الاقتصادية

    - الزراعة

    تعتمد مصر منذ القدم على حرفة الزراعة اعتمادًا أساسيًّا، وقد كان المسلمون يعرفون خيرات مصر الوفيرة، فقد أُثِرَ عن عمرو بن العاص (رضي الله عنه) قوله: "ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة". وأثر عن ابنه عبد الله قوله: "من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثله، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها، وتخرج ثمارها".
    وقد اشتهرت مصر بزراعة الكثير من المحاصيل الزراعية مثل: القمح والخضروات والفاكهة والكتان، وإلى جانب الاهتمام بالزراعة كان
    الاهتمام بنظم الري، فقد أقام المصريون والمسلمون السدود والجسور، وحفروا الترع والخلجان، وقاسوا مياه فيضان النيل وبنوا القناطر.

    ومعلوم أن المسلمين مُنِعُوا في عهد عمر بن الخطاب t من مزاولة الأنشطة الاقتصادية عامة، خاصة الزراعة حتى لا ينشغل الجند عن واجبهم الأول الجهاد في سبيل الله، وكان في مقابل ذلك يكفل لهم عمر (رضي الله عنه) معاشهم ومعاش أولادهم وذويهم، إلى جانب ما يحصلون عليه من غنائم حربية، وكان لا يسمح لهم بالخروج إلى الريف ومخالطة الناس إلا في وقت الربيع يرعون خيولهم ودوابهم، ثم يعودون إلى أماكن سُكناهم ثانية.

    وقد ذكر ابن عبد الحكم: أن شريك بن سُمَيّ الغطفي عمل بالزراعة رغم نهي الخليفة عمر عن ذلك، فأرسله عمرو إلى المدينة
    فتعهد أمامه ألا يعود مرة أخرى؛ فعفا عنه عمرو t، ورده إلى مصر ثانية.

    ومما يشهد بالخير للمسلمين من فاتحي مصر أنهم لم يصادروا أراضي القبط الزراعية، ولم يستولوا عليها لأنفسهم، وكان من أكبر مظاهر اهتمام المسلمين بالزراعة حرصهم على قياس مياه النيل، ومعرفة مدى ارتفاع الفيضان أو انخفاضه في كل عام؛ لما لذلك من أثر كبير في الزراعة وأسعار المحاصيل وحياة الناس، فبنى عمرو بن العاص t مقياسًا للنيل بأسوان، وآخر في دَنْدَرة في ولايته الأولى، وسينشئ مقياسًا ثالثًا في أَنْصِنا في ولايته الثانية والأخيرة على مصر.


    - الصناعة

    مما لا جدال فيه أن اشتهار مصر بزراعة القطن والكتان ساعد على ازدهار صناعة المنسوجات القطنية والكتانية بها، وحذق صناعها في عمل الثياب، كما كانت كسوة الكعبة المشرفة الثمينة تجلب من قباطي مصر المشهورة، وهناك عدة مدن مصرية بالدلتا مشهورة بالغزل والنسيج مثل تِنِّيس ودمياط والإسكندرية.

    وعرفت مصر بصناعة الورق عند الفتح الإسلامي، وكان ورق البردي معروفًا بمصر، ومستخدمًا في الكتابة، وموجودًا بكثرة في الدلتا والفيوم، ويغلب على الظن أن المسلمين استخدموه، وطوعوه لمتطلبات حياتهم.



    - التجارة

    من الطبيعي أن تزدهر التجارة المصرية تبعًا لانتعاش الزراعة والصناعة، ولا شك أن موقع مصر الممتاز بين الشرق والغرب ووجود نهر النيل وإسهامه في نقل السلع والبضائع جعل لمصر أهمية تجارية، بالإضافة إلى سواحلها الممتدة على البحرين الأحمر والأبيض، وقد حظيت الفسطاط العاصمة والإسكندرية بأهمية تجارية كبرى، وساعد حفر خليج أمير المؤمنين في الربط بين بحر القلزم (الأحمر) ونهر النيل، فربط مصر بشبه الجزيرة العربية، ووصل القمح بسهولة إلى الحجاز عند القحط ووقوع المجاعات، كما قدمت تجارة وسلع آسيا، وشرق أفريقيا من توابل ودهون وعطور ولؤلؤ وجواهر غيرها، وعن طريق خليج الإسكندرية تأتي تجارة البحر الأبيض من أخشاب ومعادن كالحديد والنحاس وغيرها، وأخيرًا فقد وجدت في مصر أسواق كثيرة لتصريف السلع ومختلف الحرف.


    - الوضع الثقافي

    دخل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصر على رأس الجيش الذي فتحها، وكان على رأس الجيش كما نعلم عمرو بن العاص، وابنه عبد الله، والزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعقبة بن عامر الجهني، وغيرهم كثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم وحصرهم.

    ولا شك أن هؤلاء الصحابة البررة كانوا لا يتطلعون إلى التنعم بغنى مصر وثرائها، والتقلب في نعائمها، وإنما كانت لهم أهداف أغلى وأسمى من ذلك كله، ألا وهي تبليغ دعوة الإسلام نقية خالصة إلى العالمين، ومن هنا ندرك عظم الدور الحضاري الذي لعبوه، والذي يتمثل في تعليم المصريين الكتاب والسنة.

    فقد اهتم عمرو بن العاص t بإنشاء المسجد الجامع في الفسطاط، وقد ضَمَّتْ أَرْوِقَتُهُ هؤلاء الصحابة الأعلام يتلون كتاب الله، ويُقرِئُونه الناس، ويروون حديث رسول اللهويشرحونه، ويبصرون الناس بفقه الإسلام وأحكامه.

    لقد استوطن كثير من الصحابة أرض مصر الطيبة، وانقطعوا لتعليم الناس أمور دينهم، يخالطون الناس ويخالطونهم؛ ليضربوا لهم أروع الأمثلة على أخلاق الإسلام وحسن معاملاته، وحقيقة تعاليمه ومبادئه، فيرى الناس عمليًّا ما يسمعونه من مواعظ وتوجيهات نظرية، فيكون لذلك أكبر الأثر في نشر الإسلام ولغته عن طريق العلم الصحيح، والقدوة الحقة.

    وممن أسهم بدور فعال في إثراء الحركة العلمية في مصر في تلك الفترة الصحابي الجليل الفقيه المقرئ المفسر المجاهد عقبة بن عامر الجهني (ت 58هـ/ 677م) الذي أثرى الحياة الفكرية في مصر، وروى عنه المصريون كثيرًا من أحاديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تغلب عليها المسحة الفقهية مما جعلهم يعدونه مفتي مصر آنذاك.

    لم تزدهر الحركة العلمية في مصر في عهد عمرو بن العاص فحسب، وإنما استمر ازدهارها وإيناعها، وآتت أكلها كذلك في عهد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، الذي كثرت فيه الفتوحات الخارجية، ووفد إلى مصر الكثير من الصحابة والتابعين، الذين مروا بها، وهم في طريقهم إلى المغرب للجهاد في سبيل الله، وكانوا ينتهزون الفرصة فيروون على مسامع الناس في مصر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك أثناء رباطهم بالإسكندرية وأثناء الفتوح بالمغرب، وكذلك عند عودتهم منها إلى مصر، ومنها إلى الجزيرة العربية، ويذكر السيوطي أن حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما دخل مصر في خلافة عثمان بن عفان t، وروى المصريون عنه أحاديث بها، كما أنه شارك في فتح المغرب.


    إبطال العادات السيئة بمصر في عهد عمرو بن العاص

    لما فتحت مصر أتى أهلُها إلى عمرو بن العاص حين دخل بَئُونة من أشهر القبط، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سُنَّةً لا يجري إلا بها.
    فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إذا دخلت ثنتا عشرة ليلة من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أباها، وحملنا عليها من
    الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل.

    قال لهم: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله.
    فأقام أهل مصر شهر بَئُونة، وأَبِيب، ومِسْرَى لا يجري قليلاً ولا كثيرًا حتى همَّوا بالجلاء عنها، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص كتب إلى عمر
    بذلك، فكتب إليه عمر: "إنك قد أصبت؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله".
    وكتب بطاقة داخل كتابه، وكتب إلى عمرو: "إني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي، فألقها في النيل".

    فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص، أخذ البطاقة فإذا فيها: "من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قِبَلَََك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك"، فألقى البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج؛ لأنه لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، فقطع الله تلك السُّنَّةَ السُّوء عن أهل مصر إلى اليوم.





  2. #42
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    فتح حصن بابليون


    كان الروم قد خندقوا خندقًا حول حصن بابليون، وجعلوا للخندق أبوابًا لخروجهم ودخولهم، ونثروا سكك الحديد بأفنية الأبواب.لم يذكر الرواة أماكن تلك المخارج، ولكنا نرى أنه من المنطق أن تكون تجاه أبواب الحصن، كما أن استعمال صيغة الجمع (أبوابًا) تعني أنها لم تكن تقل عن ثلاثة. ونعلم أنه كان للحصن باب في الجدار الشمالي أمام الجهة التي أقيم بها بعد ذلك جامع عمرو بن العاص، وباب في المدخل الجنوبي الذي نشأ أمامه بعد ذلك السوق الكبير، وفى ذلك المكان كان النيل يصل إلى جدار الحصن حيث الآن الكنيسة المعلقة، كما كان هناك باب في الجدار الشرقي الذي كان ينفذ منه درب الحجر.

    أبطأ الفتح أمام حصن حصين يلوذ به الروم ولا يخرجون منه إلا إذا أرادوا، ثم يعودون إليه منهزمين فيعتصمون به. ثم ماذا؟ في عديد من الروايات عن رواة ثقات، قال الزبير بن العوام: "إني أهب نفسي لله، فأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين". ووضع سُلَّمًا من الخشب إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام، وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعًا. كان الزبير فدائيًّا شجاعًا لا يدري ما سوف يلقى فوق السور من قوات الروم، وكان في نحو الخمسين من عمره.

    وما دام جدار الحصن كان يرتفع حوالي 18 مترًا، فلا بد أن السلم لا يقل عن عشرين مترًا حتى نتصور إمكان استناده مائلاً على جدار الحصن، فهو سلم كبير غير عادي، استغرق بعض الوقت في صناعته، ربما أيامًا، كذلك لا بد أنه كان ثقيلاً، استلزم حمله على أكتاف عديد من الرجال الأشداء، وعبور الخندق به في صمت تام إلى جدار الحصن حتى لا ينتبه الروم، ولا بد أيضًا أنه كان قد تمَّ صنعه في الخلف على مسافة من الحصن، وربما كان ذلك في موقع بني بَلِيّ (250 مترًا أو يزيد)، فهم الذين تسلق رجال منهم الحصن مع الزبير (بنو حرام). وقد صعد مع الزبير إلى أعلى الحصن محمد بن مسلمة الأنصاري، ومالك بن أبي سلسلة، ورجال من بني حرام.

    وبطبيعة الحال كان ذلك في غفلة من أهل الحصن، فلا نذهب إلى أنه حدث نهارًا، وإنما يتحتم أنه كان ليلاً، ويدعم ذلك أنه كان يوم الجمعة 29 من ذي الحجة20هـ / 7 ديسمبر 641م بما يعني عدم وجود هلال يكشف بسطوعه عملية الاقتراب والتسلق، فضلاً عن أن الفصل شتاء بارد ينشد جنود الروم الدفء فيه، خاصة وأنه قد مضى على وقوف المسلمين أمام الحصن سبعة أشهر، اعتادوا على عدم حدوث شيء من هذا القبيل ولم يخطر لهم على بال، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه سيفه والمسلمون يرددون تكبيره، وقد تسلقوا على السلم حتى نهاهم عمرو خوفًا من أن ينكسر، ثم انحدر الزبير ومن معه إلى داخل الحصن، والأرجح أنهم نزلوا على سلالم البرج، وأصاب الرعب أهل الحصن فهربوا من أمامهم، وعمد الزبير إلى باب الحصن المغلق من الداخل ففتحه واقتحمه المسلمون من الخارج.


    سقوط حصن بابليون وطلب الروم للصلح

    كان الحصن في قلب مصر، وكان أحصن ما بيد الروم في مواجهة جيش المسلمين، فلما سقط بدا واضحًا حرج موقف الروم أمام عملية الفتح.
    نعم ما زال أمام المسلمين أن يعبروا مجاريَ مائية خاصة نهر النيل، ولكن أيضًا صار مألوفًا لديهم أن يجدوا حلاًّ أمام كل عقدة.

    صار المسلمون وقد أحدق بهم الماء من كل جهة واتجاه، لا يقدرون أن ينفذوا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه:
    "ألم أعلمكم هذا وأخافه عليكم؟! ما تنظرون؟ فوالله لتجيبنهم إلى ما أرادوا طوعًا، أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منه كرهًا، فأطيعوني من قبل أن تندموا".

    فلما رأوا منهم ما رأوا وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية ورضوا بذلك على صلح يكون بينهم يعرفونه، وأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: "إني لم أزل حريصًا على إجابتك إلى خصلة من تلك الخصال التي أرسلت إليَّ بها، فأبى ذلك عليَّ من حضرني من الروم والقبط، فلم يكن لي أن افْتَاتَ عليهم في أموالهم وقد عرفوا نصحي لهم وحبي صلاحهم، ورجعوا إلى قولي، فأعطني أمانًا أجتمع أنا وأنت في نفر من أصحابي وأنت في نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تمَّ ذلك لنا جميعًا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه".

    فاستشار عمرو أصحابه في ذلك فقالوا: "لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير الأرض كلها لنا فيئًا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه". قال عمرو: "قد علمتم ما عهد إليَّ أمير المؤمنين في عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إليَّ فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم، مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم".
    فجنح المسلمون إلى الصلح كما عاهدهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وتمَّ عقد الصلح بين المسلمين والرومان، ونذكره كما أورده الطبري:

    "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لُصوتُهم (جمع لِصْت، وهو اللص)، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رُفِعَ عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايتهم إذا انتهى رُفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألا يُغْزَوا ولا يُمْنَعُوا من تجارة صادرة ولا واردة".

    وشرط المقوقس للروم أن يخيّروا، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام على ذلك لازمًا له مفترضًا عليه فيمن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج، على أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلنه ما فعل، وإن قبل ذلك منه ورضيه جاز عليهم، وإلا كانوا جميعًا على ما كانوا عليه، وكتبوا بذلك كتابًا.





  3. #43
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    غضب قيصر الروم.. ودخول المقوقس في المعاهدة


    كتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بذلك، فجاءه من ملك الروم جوابه على ذلك يقبح رأيه وعجزه ويرد عليه ما فعل، ويقول: "إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفًا، وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا، فإن عندك بمصر من الروم بالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف معهم العدة والقوة، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت فعجزت عن قتالهم، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم على حال القبط أذلاء! ألا تقاتلهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظهر عليهم، فإنهم فيكم -على قدر كثرتكم وقوتكم، وعلى قدر قلتهم وضعفهم- كأكلة، فناهضهم القتال ولا يكون لك رأي غير ذلك". وكتب ملك الروم بمثل ذلك إلى جماعة الروم.

    قال المقوقس: والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل يتمنى ألا يرجع إلى أهله ولا بلده ولا ولده، ويرون أن لهم أجرًا عظيمًا فيمن قتلوا منا، ويقولون إنهم إن قُتِلُوا دخلوا الجنة، وليس لهم رغبة في الدنيا، ولا لذة إلا قدر بُلْغَة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء؟! وكيف صبرنا معهم؟! واعلموا -معشر الروم- والله أني لا أخرج مما دخلت فيه ولا صالحت العرب عليه، وأني لأعلم أنكم سترجعون غدًا إلى رأيي وقولي، وتتمنون أن لو كنتم أطعتموني، وذلك أني قد عاينت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه. ويحكم! أما يرضى أحدكم أن يكون آمنًا في دهره على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة؟!

    ثم أقبل المقوقس على عمرو بن العاص وقال له: إن الملك قد كره ما فعلتُ وعَجَّزني، وكتب إليّ وإلى جماعة الروم ألا نرضى بمصالحتك، وأمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه، وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تمَّ صلح القبط بينك وبينهم ولم يأتِ من قِبَلِهم نقض، وأنا مُتمّ لك على نفسي، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم، وأما الروم فأنا منهم براء. وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال".
    قال عمرو: "ما هن؟"
    قال: لا تنقض بالقبط وأدخلني معهم وألزمني ما لزمهم، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما عاهدتك عليه، فهم يتمون لك على ما تحب. وأما الثانية إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئًا وعبيدًا؛ فإنهم أهل ذلك لأني نصحتهم فاستغشوني، ونظرت لهم فاتهموني.

    وأما الثالثة أطلب إليك إن أنا مت أن تأمرهم يدفنونني في كنيسة أبي يُحَنَّس بالإسكندرية". فقال عمرو: "هذه أهونهن علينا".
    فأنعم له عمرو بن العاص بذلك، وأجابه إلى ما طلب على أن يضمنوا له الجسرين جميعًا، ويقيموا له الأضياف والأنزال
    والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية، ففعلوا.





  4. #44
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    فتح الإسكندرية
    الإسكندرية قبل الفتح الإسلامي




    كانت الإسكندرية عاصمة لمصر منذ أنشأها الإسكندر الأكبر في شتاء عام 331- 332 ق.م عند بلدة راكوتيس Rakotis التي يرجع تاريخها إلى 1500 ق.م، كما أضاف ضاحية نيوبوليس New Polis إلى غربها، وقد أقامها لتحل محل نوكراتيس naukratis كمركز للثقافة اليونانية في مصر، وفي العصر الروماني صارت المدينة الثانية بعد روما، وبقيت تحت سلطان الرومان أكثر من قرن من الزمان، ثم نما حجم الإسكندرية وأنشأ البطالمة فيها المتحف والمكتبة التي حوت 500.000 مجلدٍ، وفيها تمَّ ترجمة التوراة (العهد القديم Old testament) إلى اليونانية، وصارت الإسكندرية مركزًا للتجارة بين دول أوروبا والشرق، واستمر ذلك الحال حتى دُمِّرَ المتحف والمكتبة خلال الحرب الداخلية في القرن الثالث الميلادي، كما أحرق المسيحيون مكتبة فرعية عام 391م، وأنشأ أوكتافيوس مدينته المنافسة قريبًا من الرمل، وأخذت أهمية خاصة في عصرها المسيحي من ناحية الفكر اللاهوتي للحكومة، وفي عام 616 م استولى عليها الفرس من البيزنطيين، واستعادها البيزنطيون حتى فتحها المسلمون عام 21هـ/ 642م.

    الزحف إلى الإسكندرية.. ومعاونة الأقباط للمسلمين!
    بعد سقوط حصن بابليون في أيدي المسلمين أقاموا به، ثم كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستأمره في الزحف إلى الإسكندرية، فكتب إليه عمر يأمره بذلك. وقد استخلف عمرو بن العاص على ما فتح خارجةَ بن حذافة السهمي، وسار على رأس من معه.
    ثم حدث بعد ذلك أمران مهمان، وهما:
    - جاء إلى الروم إمدادات كثيرة.
    - أصبح للقبط موقفٌ واضح، ألا وهو تعاونهم مع المسلمين.

    خرج عمرو بن العاص y بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط، وقد أصلحوا لهم الطرق وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصار القبط لهم أعوانًا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمع بذلك الروم فاستعدوا واستجاشوا، وقدم عليهم مراكبَ كثيرة من أرض الروم فيها جموع كثيرة منهم بالعدة والسلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص y من بابليون متوجهًا إلى الإسكندرية، فلم يلقَ منهم أحدًا حتى بلغ تَرْنُوط، فلقي بها طائفة من الروم فقاتلوه قتالاً خفيفًا فهزمهم الله، ومضى عمرو بن العاص بمن معه حتى لَقِيَ جمع الروم بكَوْم شَرِيك، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين، وولَّى الروم مدبرين.

    وتجمع الروم والقبط دون الإسكندرية ببلدة كِرْيُون، وفيهم من أهل سَخا وبَلْهِيب والخَيْس وسُلْطَيْس وغيرهم، وهذا يخالف الروايات الصحيحة التي ذكرت أن القبط كانوا أعوانًا للمسلمين مثل رواية ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر وأخبارها"؛ ولذلك نذهب إلى أن أهل هذه القرى قام الروم بتجنيدهم وحشرهم ليقاتلوا معهم، وأثخن المسلمون الرومَ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وطاردوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها. وكانت عليهم حصون لا تُرَامُ؛ حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حُلْوَة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعَلُوفة.

    وقد ذكرنا من قبل أن فتح بابليون كان يوم الجمعة 29 من ذي الحجة 20هـ / 7 ديسمبر641م؛ وتقول الروايات: إن عمرو بن العاص y ظل أمام الإسكندرية مُحاصِرًا لها ثلاثة أشهر. وتعني هذه الروايات أن المسلمين قطعوا ما بين بابليون حتى الإسكندرية في ستة أشهر، ثم أقاموا أمامها ثلاثة أشهر، وعلى ذلك يكون وصول المسلمين إلى الإسكندرية كان نحو 19جمادى الآخرة21هـ / 23 مايو 642م، ويكون فتحها حدث نحو 19رمضان21هـ / 19أغسطس642م، وقد ذكر خليفة بن خياط في تاريخه أن فتحها كان سنة 21هـ على يد عمرو بن العاص y.

    إحكام الحصار على حصن كِرْيُون

    فر الرومان نحو الإسكندرية، وكان حصن كريون آخر سلسلة الحصون قبل الإسكندرية، وقد اعتصم به "تيودور" قائد الجيش البيزنطي مع حامية قوية، وبعد أن تمكن المسلمون من اقتحامه فَرَّ "تيودور" وبعض أفراد حاميته إلى الإسكندرية.

    وقد أدرك عمرو y فور وصوله إلى الإسكندرية ودراسته للوضع الميداني أن المدينة حصينة؛ إذ يحيط بها سوران محكمان، ولها عدة أبراج، ويحيط بها خندق يُمْلأُ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع، وتتألف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، ويوجد مجانيق فوق الأبراج، وقد بلغ عدد جنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جندي، ويحميها البحر من الناحية الشمالية، وهو تحت سيطرة الأسطول البيزنطي، الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد، وتحميها قريوط من الجنوب، ومن المتعذر اجتيازها، وتلفها ترعة الثعبان من الغرب، وبذلك لم يكن للمسلمين طريق إليها إلا من ناحية الشرق، وهو الطريق الذي يصلها بكريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية، ومع ذلك لم ييأس، ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر في النهاية، قضت بتشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها، ويدب اليأس في نفوسهم، فيضطرون للخروج للاصطدام بالمسلمين لتخفيف وطأة الحصار، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخروج من تحصيناتهم، ثم ينقض عليهم.

    ونتيجة لاشتداد الصراع في القسطنطينية بين أركان الحكم، انقطعت الإمدادات البيزنطية عن الإسكندرية، إذ لم يعد أحد منهم يفكر في الدفاع عنها، مما أَثَّرَ سلبًا على معنويات المدافعين عنها، فرأوا أنفسهم معزولين ولا سند لهم، ومما زاد من مخاوفهم ما كان يقوم به المسلمون من غارات على قرى الدلتا والساحل، فإذا سيطروا عليها فسوف يقطعون الميرة عنهم.

    رسالة أمير المؤمنين إلى عمرو

    وكان عمر بن الخطاب y في المدينة ينتظر أنباء فتح مصر، وهو أشد ما يكون استعجالاً لنبأ سقوط الإسكندرية في أيدي المسلمين، ولكن هذا النبأ أبطأ عنه أشهرًا، فذهب يبحث عن السبب، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يحتاج إليه من المساندة التي تكفل له النصر، وخشي أن تكون خيرات مصر قد غَرَّت المسلمين فتخاذلوا؛ فقال لأصحابه: "ما أبطَئُوا بفتحها إلا لما أحدثوا"، أي لما أحدثوا من ذنوب، وكتب إلى عمرو بن العاص:

    "أما بعد، فقد عجبتُ لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذاك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيَّرَهم ما غيَّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحُضَّهم على قتال عدوهم، وَرَغِّبْهم في الصبر والنية، وقَدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة، ووقت الإجابة، وليعجّ الناسُ إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم".





  5. #45
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    تحقيق النصر.. ونجاح الفتح

    وعندما أتى عَمرًا الكتابُ جمع الناس، وقرأ عليهم كتاب عمر، ثم دعا أولئك النفر، فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا
    ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل ويسألوه النصر؛ ففعلوا ففتح الله عليهم.

    ويقال: إن عمرو بن العاص استشار مَسْلَمَة بن مُخَلَّد في قتال الروم بالإسكندرية، فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب
    من أصحاب رسول الله، فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيك. قال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت.
    فدعا عمرو عبادةَ فأتاه وهو راكب فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك لا تنزل؛ فَنَاوِلْنِي سِنَانَ رُمحِك. فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له، وولاه قتال الروم، فتقدم عبادة مكانه، فقاتل الروم حتى فتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.

    يقول جنادة بن أبي أمية: دعاني عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية، وكان على قتالهم، فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن لهم بقتالهم، فسمعني فبعثني
    أحجز بينهم، فأتيتهم فحجزت بينهم، ثم رجعت إليه، فقال: أَقُتِلَ أَحَدٌ من الناس هنالك؟ قلت: لا. فقال: الحمد لله الذي لم يقتلْ أحدًا منهم عاصيًا.

    لقد عانت الإسكندرية من الحصار، وأَدَّى ذلك إلى هبوط معنويات الجند والقادة، خاصة بعد وفاة هرقل، فأسرع المقوقس بالسفر
    إلى مصر على رأس جنده لتسليم المدينة، ورافقه عدد من القساوسة، وبذلك فتح الله الإسكندرية على المسلمين.

    صورة رائعة من حضارة المسلمين في التعامل مع الأعداء

    تمَّ هذا الفتح عَنْوة، ولكن عمرًا جعل أهلها ذمة على أن يخرج مَن يخرج، ويقيم من يقيم باختيارهم، شأن المسلمين مع أهالي معظم البلاد التي فتحوها
    وإنما عامل عمرو المصريين معاملة من فُتِحَتْ بلادُهم صلحًا ليستجلب محبتهم، وتتألف الهدنة التي عقدها المقوقس مع عمرو بن العاص من أمرين:

    الأمر الأول: شروط تسليم مدينة الإسكندرية، ومنها:
    - أن يدفع أهل الإسكندرية الجزية المستحقة عليهم دينارين كل عام.
    - أن يحافظ المسلمون على الكنيسة المسيحية، فلا يتعرضون لها بسوء، ولا يتدخلون في شئونها.
    - أن يتمتع أهل الإسكندرية بالحريات الدينية.
    - أن تعقد هدنة مدتها 11 شهرًا، يبقى المسلمون في أثنائها عند مواقعهم الأولى.
    - أن يكف الروم عن القتال، وألا يحاولوا استرداد مصر، ولا تعود إليها قوة حربية.
    - أن ينسحب البيزنطيون، ويأخذون معهم أموالهم وأمتعتهم عن طريق البحر.

    وإذا تمَّ الانسحاب دخلت قوات المسلمين واحتلت المدينة.
    - أن يكون عند المسلمين من الروم 150 جنديًّا، و50 مدنيًّا رهينة؛ لتنفيذ المحافظة على الجالية اليهودية، وكان عددها عظيمًا.
    - أن يرحل جند الروم من الإسكندرية في البحر على أن يحملوا متاعهم وأموالهم، ومن أراد الرحيل برًّا فليدفع كل شهر جزءًا معلومًا من المال
    ما بقي في أرض مصر أثناء رحلته.

    الأمر الثاني
    أن المعاهدة القديمة التي عقدها المقوقس مع عمرو بن العاص y بحصن بابليون، ستطبق على القطر المصري كله، وتصبح معاهدة يدخل فيها جميع المصريين من حيث تأمين أهل مصر على أنفسهم ومِلَّتهم وأموالهم وكنائسهم وصُلُبِهم وبَرِّهم وبحرهم، بما يضمن منح المصريين حقوقهم وحرياتهم، وقد حمل "قيرس" شروط الصلح إلى "تيودور" وهو القائد الأعلى للجيش للموافقة عليها، وأُرسِلت إلى قنسطانز فأقرها، ولكن الروم بعد ذلك لم يحترموا هذه المعاهدة؛ فقد أرسل الإمبراطور جيشًا بقيادة "منويل"، فاحتلها وقتل حاميتها.

    وبالفعل تمَّ تنفيذ الاتفاق، وأخلى الروم الإسكندرية، ورحلوا عنها قبل حلول الموعد المحدد لانتهاء الهدنة بين الطرفين
    إذ تمَّ إخلاؤها بتاريخ السابع عشر من سبتمبر سنة 642م.

    تأمين حدود مصر

    لقد حرص عمرو بن العاص y على تأمين الإسكندرية من هجمات الأعداء المباغتة، فجعل نصف جنده معه بالفسطاط، وأمر النصف
    الآخر بالمرابطة بسواحل مصر، خاصة الإسكندرية، بحيث يتم ذلك بالتبادل صيفًا وشتاءً، مدة ستة أشهر لكل فريق مع توفير المساكن اللازمة للإقامة هناك.

    وبعد أن فرغ المسلمون من فتح مصر، رأى عمرو بن العاص y ضرورة تأمين حدودها من جهة الغرب، وبخاصة أن الروم قد أُجبِرُوا على الخروج منها، وهم يتحينون الفرصة لاستعادتها. ولما كانوا يبسطون نفوذهم وسلطانهم على المناطق التي تقع غرب مصر حتى المحيط الأطلنطي، كان لا بد من تأمين تلك الحدود؛ لذلك كان من الضروري استمرار الفتح غربًا لارتباط تلك المناطق الوثيق بمصر؛ فقد كانت أنطابُلُس (برقة) وطرابلس قد انفصلتا عن الإمبراطورية البيزنطية منذ عهد موريس 583- 602م، وكانتا شبه مستقلتين وتابعتين لمصر رسميًّا، وأيدتا "جريجوريوس" لدى انفصاله عن الإمبراطورية البيزنطية.





  6. #46
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    من موقع قصة الإسلام
    سلسلة فتح مصر بقلم د. راغب السرجاني
    أسأل الله أن يجعله في ميزان حسنات د/ راغب السرجاني





 

صفحة 5 من 5 الأولىالأولى 12345

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رسول الله في كتب السابقين !( فى كتب الهندوس) د . راغب السرجانى
    بواسطة عبدالرحمن السلفى في المنتدى البشارات الحق بمبعث سيد الخلق
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 2012-06-09, 02:30 PM
  2. قصة الحروب الصليبية مع د. راغب السرجاني
    بواسطة kholio5 في المنتدى ثمار النصرانية
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 2011-04-16, 01:17 PM
  3. عناية الاسلام بالنفس الانسانية : د. راغب السرجانى
    بواسطة بن الإسلام في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-01-19, 11:26 AM
  4. جميع مقالات الدكتور راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 95
    آخر مشاركة: 2010-10-31, 01:37 PM
  5. ظهور التتار / د/ راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 105
    آخر مشاركة: 2010-10-31, 04:57 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML