والنظام العالمي الجديد هو تصعيد لعمليات العلمنة، ومحاولة لإعادة صياغة العالم بأسره حتى يصبح جزءاً من الآلة التي ستستمر في الدوران إلى أن ترتطم بحائط كوني (مثل الإيدز وثقوب الأوزون والفشل الذريع في التخلص من النفايات النووية وغير النووية). ويمكننا الآن الحديث عن «الاستهلاكية العالمية» وعن «الإمبريالية النفسية» (أي الإمبريالية التي تعتبر النفس البشرية هي الحيز الذي تتحرك فيه وتهزمه وتحوسله) بدلاً من «الاشتراكية العالمية» أو «الرأسمالية العالمية» أو «الإمبريالية العالمية»، وخـصوصاً بعد سـقوط النظام الاشتراكي والنظرية الماركسية، والذي حدث هو التلاقي «كونفرجانس convergence» بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وهو تلاق توقعه كثير من علماء الاجتماع منذ زمن. ويُلاحَظ أن الولايات المتحدة لم تَعُد المركز ولا القوة الوحيدة في العالم، إذ ظهرت قوى أخرى (النمور الآسيوية ـ تعاظم نفوذ أوربا).
وتاريخ الإمبريالية يشبه من بعض النواحي تاريخ الدولة القومية العلمانية. فالدولة المركزية القومية، في مرحلتها المطلقة (التقشفية التراكمية)، كانت تُرغم الشعوب على أن تكون مادة ومصدراً للطاقة. وقد تغيَّر الأمر في مرحلتها الديموقراطية حين ارتضت الشعوب الغربية أن تصبح منتجة ومستهلكة وحسب واستبطنت المنظومة المعرفية والأخلاقية التي كانت تقاومها. ويحاول النظام العالمي الجديد (هذا التعبير الجديد عن الظاهرة الاستعمارية الغربية أو النظام العالمي القديم) أن يجعل شعوب العالم تستبطن رؤيتها لذاتها كمستهلكين ومنتجين وحسب، أي مادة استعمالية، وتدخل القفص الحديدي راضية قانعة. ولذا فهو يلجأ للإغواء والقمع بدلاً من المواجهة الصريحة والقمع المباشر.
وقد قبلت كثير من نخب العالم الثالث هذا الإغواء وبدأت تثرثر هي الأخرى عن النظام العالمي الجديد (ولكن بدأت قطاعات أخرى تدرك تماماً خطورة هذا الاتجاه نحو العولمة). مصر وإسرائيل تُوقعان اتفاقية كامب ديفيد، والنخبة الحاكمة الفلسطينية وإسرائيل تُوقعان اتفاقية أوسلو، ومع هذا تتصاعد أشـكال مختلفة من المقاومة الفلسـطينية.
المفضلات