الباب الثانى: العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاءالجماعات اليهودية
الحلولية والتوحيد والعلمنة: حالة اليهودية (أطروحة ماكس فيبر وبيتر برجر(
Pantheism, Monotheism, and Secularism: Judaism as a Case Study-Max Weber's and Peter Berger's Theses
من القضايا الأساسية التي أُثيرت في علم الاجتماعالغربي قضية علاقة التوحيد والتجاوز بالعلمنة، إذ يذهب بعض المفكرين إلى أن التوحيدهو الذي يؤدي إلى العلمنة عَبْر مرحلتين:
1 ـ مرحلة ترشيد العبادة وحياةالمؤمن والعالم بأسره في إطار التوحيد والمطلق المتجاوز.
2 ـ يعقب هذامرحلة أخرى يَضْمُر فيها المطلق تدريجياً (وتحل المرجعية الكامنة محل المرجعيةالمتجاوزة) إلى أن يختفي الإله تماماً. حينئذ يتم ترشيد حياة الإنسان والعالم بأسرهفي إطار الواحدية المادية.
وهي إشكالية قد تبدو غريبة بعض الشيء، ولكنهاإشكالية مهمة للغاية يمكن فهمها حين تُفهم حلقات المتتالية التي يطرحها دعاة هذاالنموذج التفسيري. ونحن نطرح تصوُّراً مغايراً ومتتالية مختلفة تستند إلى تعريفناللعلمانية (الشاملة) باعتبارها منظومة كامنة في الحلولية الكمونية وليس في التوحيد. فنحن نرى - كما أسلفنا - أنه لا يوجد فرق جوهري بين الحلولية الكمونية الروحيةوالحلولية الكمونية المادية، وأن وحدة الوجود الروحية هي في أساسها وحدة الوجودالمادية، أي العلمانية الشاملة.
ولنبدأ بتعريف العلمانية (الشاملة) بأنهارؤية واحدية تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية؛ تَرُدّ الكون بأسره إلى مبدأواحد كامن فيه. ومن ثم فهي لا تفرِّق بين الإنسان والطبيعة بل تراهما مادة واحدة (نسبية) لا قداسة لها، خاضعة لقانون طبيعي واحد، ومن ثم يمكن إخضاعها للمقاييسالكمية الرياضية دون الرجوع إلى أية قيم مطلقة (معرفية كانت أو أخلاقية) بهدف زيادةالتحكم فيها وتوظيفها، أي أنها رؤية تستبعد الإنسان المركب الرباني وتستبعد أيضاًمقدرته على تجاوز ذاته الطبيعية والطبيعة/المادة ليحل محله الإنسان الطبيعي المادي.
وقد أشرنا إلى أن الترشيد هو إعادة صياغة الواقع والذات في ضوء « نموذج ما ». وقد يكون هذا النموذج دينياً (الإله المتجاوز)، ولكن يمكن أيضاً أن يكون مادياًكمونياً متمركزاً حول الإنسان وعقله أو متمركزاً حول الطبيعة/المادة. وما يهمنا فيسياق هذا المدخل هو النموذج الثاني، والأكثر شيوعاً في العصر الحديث، وهو النموذجالواحدي المادي الذي يجعل الطبيعة/المادة (لا عقل الإنسان) هي موضع الكمون. والترشيد العلماني هو ترشيد مادي يأخذ شكل تبنِّي الأساليب العلمية الموضوعيةوالبيروقراطية اللاشخصية في عملية تفسير الواقع وإدارة المجتمع وإعادة صياغته ورفضالالتفات إلى التقاليد والأعراف الأخلاقية والموروثة وكل المطلقات المتجاوزةوالثنائيات، وهي عملية شاملة تُخضع كل شيء لقانون الأرقام والعقل. والترشيد، بهذاالمعنى، هو عملية تجريد للعالم في إطار النموذج الواحدي الكموني المادي بحيثيُستبعَد كل ما لا يتطابق مع هذا النموذج، أي كل ما هو متجاوز لعالمالطبيعة/المادة. والعلمنة أيضاً عملية تطبيع، أي إدراك الإنسان باعتباره ظاهرةطبيعية وجزءاً عضوياً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة، وعلى أساس أن ما يسري عليها يسريعليه، أي أن العلمنة هي عملية نزع القداسة عن الكون ورؤيته في إطار قانون مادي واحدكامن فيه، ومن ثم فهي عملية ترشيد وتجريد وتطبيع. ويُشكِّل هذا التعريف إطارمناقشتنا لآراء عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر وآراء عالم الاجتماع الأمريكيبيتر برجر في موضوع علاقة التوحيد بالترشيد ومن ثم العلمنة، وتطبيق هذا على حالةاليهودية.
يذهب ماكس فيبر إلى أن اليهودية، بوصفها ديانة توحيدية، قامتبدور أساسي في عملية الترشيد. فديانات الشرق الأقصى الحلولية الكمونية تهدف إلى أنيصبح المؤمن في حالة اتزان مع نفسه ومع الطبيعة ومع الخالق. وهي تختزل المسافة بينالإنسان من جهة والإله والطبيعة من جهة أخرى، فهي ديانات ترى الإله حالاًّ فيالطبيعة والإنسان كامناً فيهما. أما الديانات التوحيدية فهي تخلق مسافة بين الخالقوالمخلوق إذ أن الخالق متجاوز للطبيعة والإنسان منزَّه عنهما، ولذا لم يَعُد هدفالمؤمن هو توازن علاقته مع نفسه ومع الدنيا وعالم الطبيعة وإنما التحكم فيها. ويرىفيبر أن هذه المحاولة للتحكم في الذات والعالم، باسم مَثَل أعلى موحَّد، هي خطوةأولى نحو الترشيد. واليهودية، باعتبارها أولى الديانات التوحيدية، لعبت (حسب تصوره) دوراً حاسماً في هذا المضمار، فهو يرى مثلاً أن السحر يعوق التقدم وترشيد الحياةالاجتماعية والاقتصادية. واليهود هم أول من تحرروا من نير السحر، فقد أسقطوا الآلهةالمختلفة وحولوها إلى شياطين لا قداسة لها. ويعود هذا إلى تبنِّي اليهودية لما سماهفيبر «الروح الشعبية أو الجماهيرية» التي تتلخص رؤيتها فيما يلي:
1 ـ صاغتالروح الشعبية فكرة العدالة الإلهية (بالإنجليزية: ثيوديسي theodicy) وهي قضيةلماذا خلق الإله العادل الشر. والرد اليهودي على هذه القضية رد عقلاني، فالإله كيانعقلاني رشيد، ويأتي بأفعال ذات دوافع عقلانية مفهومة للإنسان، والإنسان كيان حرمسئول عما يقترفه من آثام وعما يأتيه من أفعال خيِّرة.
2 ـ حارب المدافعونعن الرؤية الشعبية ضد فكرة أن قرارات الخالق نهائية ولا يمكن تغييرها، وطرحوا بدلاًمن ذلك فكرة أن الإنسان، من خلال طاعة الخالق وتنفيذ وصاياه، يمكنه أن يحوز الرضافيكافئه ويرفع عنه العذاب. ولكن الإنسان، داخل هذا الإطار الأخلاقي، لا يتسمبالخيلاء أو الثقة بالنفس، وهو ما يسميه فيبر «سيكولوجيا الفرسان»، فخالق الجماهيريتطلب الطاعة والتواضع والثقة فيه.
3 ـ تنظر الروح الشعبية إلى المبادئالأخلاقية باعتبارها نسقاً من الأخلاقيات العملية المرتبطة بالحياة واحتياجاتها.
4 ـ ولذا،فإنها تخلو من أية عناصر سحرية، فالإنسان الذي لا يطيـع الخالقسـيُنزل به العقـاب،ولا يمكن لأية صيغ سحرية أن تنقذه منه.
وحسب تصوُّرفيبر، كانت السمتان الثالثة والرابعة هما الإضافة الإبداعية للتراث اليهودي الدينيالتوحيدي التي لم تظهر في الديانة المصرية أو البابلية (وهو رأي غريب بعض الشيءيغرق في التعميمات الكاسحة، ولكننا لن نناقشه حتى نستمر في عرض أطروحة فيبر). وقدساهمت طبيعة المجتمع العبراني في تطوير السمات الأربعة السابقة كلها (التي يمكن أننسميها «توحيدية» باعتبار أنها تؤكد مسئولية الإنسان الأخلاقية وحريته وعدم جدوىاللجوء للسحر والقرابين) لأنه كان مجتمعاً بدائياً مقسماً إلى قبائل تدخل في علاقةمتكافئة فيما بينها في زمن الحرب، علاقة تستند إلى عقد أو ميثاق أو عهد (بالعبرية: بريت) يُعقَد بين القبائل من جهة ويهوه (إله الحرب) من جهة أخرى. وقد ظهرت يسرائيلباعتبارها «شعب إله الحرب» (وهذا هو المعنى الحقيقي لكلمة «يسرائيل» حسب تصورفيبر). ولم يكن هناك إطار ثابت يضم كل هذه القبائل، وإنما كانت هذه القبائل تدخل فيعلاقة مؤقتة تحت قيادة كاريزمية يُطلَق عليها اسم «القضاة»، وهم « أنبياء حروب » على حد قول فيبر. وكان الجميع متساوين داخل هذا الإطار، فكلهم يضطلعون بالوظائفنفسها ويؤدون الواجبات نفسها ويتمتعون بالحقوق نفسها. وقد كان هذا ممكناً لأنالتكنولوجيا العسكرية كانت بدائية جداً، إذ كانت الحروب تتم إما على الأقدام وإماعلى ظهور البغال. وكان على الجميع أن يتحملوا الأعباء نفسها ويتجشموا المصاعبنفسها، ومن ثم ظهرت فكرة العهد التي ظلت شائعة في صفوف الجماهير اليهودية بكل ماتنطوي عليه من عقلانية وأخلاقية ومساواة بين أعضاء المجتمع العبراني، إذ كان المذنبيُطرَد من حظيرة الدين أو يُرجَم بالحجارة، الأمر الذي يعني استبعاد السحر كوسيلةللتقرب من الخالق.
ثم ظهر النظام الملكي العبراني وغيَّر هذا الوضعتماماً، فقد أعاد صياغة البناء الطبقي للمجتمع وشكل حرساً ملكياً خاصاً وجيشاًنظامياً وإدارة مركزية يتبعها نظام كهنوتي تابع للبلاط الملكي.
المفضلات