أما الخطوة الثالثة له فكانت أيضاً خطوة رائعة!.. بل في غاية الروعة!!..
فبعد الاستقرار "الداخلي" في مصر حرص قطز على الاستقرار "الخارجي" مع جيران مصر من المسلمين..
فالعلاقات ـ كما فصلنا قبل ذلك ـ كانت متوترة جداً جداً مع إمارات الشام الأيوبية، وقد فكروا أكثر من مرة في غزو مصر، ونقضوا الحلف الذي كان بين مصر والشام أيام الصالح أيوب، واستقطبوا المماليك البحرية عندهم عندما فروا من مصر، وهم يتربصون بمصر الدوائر في كل يوم، بل إن الناصر يوسف الأيوبي أمير دمشق وحلب كان قد طلب من التتار بعد
سقوط بغداد أن يعاونوه في غزو مصر!!..
مع كل هذه الخلفيات المعقدة للعلاقة بين مصر والإمارات الأيوبية إلا أن قطز سعى لإذابة الخلافات التي بينه وبين أمراء الشام، وكان يسعى إلى الوحدة مع الشام، أو على الأقل تحييد أمراء الشام، فيخلوا بينه وبين التتار دون أن يطعنوه في ظهره كما اعتادوا أن يفعلوا..
ووجد قطز رحمه الله أن رأس هؤلاء والمقَدَّم عليهم هو الناصر يوسف الأيوبي صاحب إمارتي حلب ودمشق، وهو أكبرهم، ويحكم أعظم مدينتين في الشام، وكان قطز يعلم تمام العلم كراهية الناصر يوسف له، ويعلم بأنه طلب من التتار أن يساعدوه في حربه.. ومع كل هذا فقد أرسل له قطز رحمه الله رسالة تفيض رقة وعذوبة، وكأنه يخاطب أقرب المقربين إليه... (وأورد هذه الرسالة المقريزي في السلوك (...
وكانت هذه الرسالة قبل قدوم التتار إلى حلب، واحتمال التعاون بين التتار والناصر يوسف قائم، فأراد قطز أن يوحد بينه وبين الناصر يوسف ـ على ما به من عيوب وخطايا ـ بدلاً من أن يضطر قطز إلى مواجهة جيش الشام من المسلمين، ولكن قطز كان يعلم أن أعظم أهداف الناصر هو البقاء على كرسي الحكم، ولن يضحي به مهما كانت الظروف، لذلك فإن قطز أرسل له رسالة عجيبة فعلاً!..
لقد أرسل له يعرض عليه الوحدة ، على أن يكون الناصر يوسف الأيوبي هو ملك مصر والشام!!!.. لقد عرض عليه أن يكون هو - أي قطز - تابعاً للناصر يوسف، مع أن موقف قطز العسكري الآن أفضل بكثير من موقف الناصر يوسف، ومع أن مصر كدولة أقوى بكثير من مدينتي حلب ودمشق!!..
لقد قال له قطز رحمه الله في رسالته أنه لا ينازع الملك الناصر في الملك ولا يقاومه، وأنه ـ أي قطز ـ نائب عن الناصر في ديار مصر، وأن الناصر متى جاء إلى مصر أجلسه فوراً على كرسي الحكم فيها!!!..
هذه أمور لا يتخيلها إنسان بموازين السياسة المادية، ولا يمكن أن تُفهم إلا إذا أدخلت في حساباتك البعد الإيماني الأخلاقي ـ لا السياسي فقط ـ عند قطز..
ثم إن قطز رحمه الله علم أن الناصر يوسف قد يتشكك في أمر الوحدة الكاملة، أو في أمر القدوم إلى مصر، فعرض عليه أن يقوم (أي: قطز) بإمداده بالمساعدة لحرب التتار، فتتحقق المصلحة المشتركة في هزيمة التتار، وإن لم تتحقق الوحدة الكاملة بين مصر والشام..
قال قطز في أدب جمّ، وخلق رفيع: "وإن اخترتَني خَدَمْتُكَ، وإن اخترتَ قَدِمْتُ وَمَنْ معي من العَسْكر نجدةً لك على القادم عليك، فإن كنت لا تَأْمَن حُضوري سَيَّرْتُ لك العساكر صُحْبَةَ من تختاره..!!
فهو يعطي الناصر يوسف صلاحيات اختيار قائد الجيش المصري الذي يذهب لنجدته في الشام!!..
لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، فماذا كانت النتيجة؟!
لقد مرت الأيام، وسقطت حلب، وهُدّدت دمشق، وفرّ الناصر فراره المخزي إلى فلسطين، وعند فلسطين حدث الذي كان لابد أن يحدث منذ زمن.. لقد خرج جيش الناصر عن طوعه، وآثر الانضمام إلى جيش مصر حيث القائد المحنك المسلم المخلص "قطز"، وحيث القضية الواضحة والهدف الثابت، وحيث الجهاد في سبيل الله, لا في سبيل الكرسيّ..
وعلى قدر نجاح القائد الفذ قطز فإن الناصر يوسف قد فشل في كل امتحاناته.. لقد فشل أمام التتار، وفشل أمام قطز، وفشل أمام جيشه، وفشل أمام شعبه، والآن اتجه جيشه إلى مصر، بينما فرّ هو وحيداً إلى حصن الكرك بالأردن، ثم لم يطمئن هناك فترك الحصن، واتجه إلى الصحراء عند بعض الأعراب..!
مصير الناصر يوسف
عندما وصل الناصر يوسف إلى المكان الذي اختفى فيه في الصحراء في منطقة تسمى "الجفر" في جنوب الأردن إذا بالمجموعة التترية التي أرسلها هولاكو للقبض عليه تلقاه في ذلك المكان، فأمسكوا به ذليلاً هو وابنه (العزيز!!)، واقتادوهما إلى هولاكو، ولكن هولاكو كان قد غادر حلب إلى تبريز في فارس كما وضحنا سابقاً، فتوجهوا به إلى هولاكو في تبريز، وهناك بعد أن استقبل هولاكو الناصر فكر في أن يبقيه على قيد الحياة ليستعمله في قيادة الشام بعد ذلك لطول خبرته، ولخسة نفسه، فلم يقتله بل رده مع جنده إلى الشام، وفي الطريق التقى الناصر يوسف ببعض التتار الفارين من الشام بعد هزيمة عين جالوت كما سيأتي فرأوا الناصر فقتلوه!..
لقد كانت هذه نهايات ذليلة جداً لأمراء كان من الممكن أن يرتفعوا فوق الأعناق، ويُخَلدوا في التاريخ، لو رفعوا راية الجهاد بصدق، ولكنهم آثروا الذل على العزة، وفضلوا الحياة التعيسة الضنك على الموت الشريف في سبيل الله..
وهكذا ازداد قطز رحمه الله قوة بانضمام جيش الناصر الشامي له، وبقتل الناصر الذي كان يمثل حجر عثرة في طريق المسلمين..
ولم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير "المنصور" صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر..
أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، ولا ننسى أنه حاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقباً للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.. ولا يجب أن يغيب عنا في ذلك الموقف عظمة قطز الذي تناسى محاولات المغيث عمر لاحتلال مصر، ولم يجعل هذه الخلفية الكئيبة سبباً للفرقة بين المسلمين..
وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!..
وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) "حسن بن عبد العزيز" صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!..
وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة.. فقد تحالف مع أمير حماة "المنصور".. وانضم إليه أيضاً جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك.. وهذه النتائج تعتبر نتائج هامة جداً ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهماً، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تماماً..
ونعود لنرتب الأوراق مع قطز رحمه الله:
ـ أولاً: الوضع الداخلي مستقر، والحكومة الجديدة تدين بالولاء التام لقطز..
ـ ثانيا: المهمة الأولى للدولة في تلك الآونة واضحة ومعلنة، وهي إعداد جيش قوي لمقابلة التتار في معركة فاصلة )وضوح الهدف(..
ـ ثالثاً: العفو عن المماليك البحرية أشاع جواً من الهدوء النفسي والراحة القلبية عند عموم شعب مصر وليس عند المماليك البحرية فقط، فمن المؤكد أن جو المشاحنات يترك آثاره السلبية ليس على القادة والجيش فقط وإنما على الشعب كله، ولا شك أيضاً أن الجيش المصري قد ازداد قوة باتحاد طرفيه الكبار المماليك البحرية والمماليك المعزية..
ـ رابعاً: انضم إلى جيش مصر الكثير من الجنود الشاميين.. وهؤلاء هم معظم جيش الناصر يوسف صاحب دمشق وحلب، وجيش حماة وعلى رأسه المنصور أمير حماة..
كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة 658 هجرية، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جداً من الحدود المصرية (أقل من خمسة وثلاثين كيلومترًا .. )
أنا ألقى التتار بنفسي..!
لقد سلك قطز طريقين من أعظم طرق التربية، ومن أبلغ وسائل التحميس والتحفيز على عمل قد يستصعبه كثير من الناس..
أما الطريق الأول فهو طريق "التربية بالقدوة"..
لقد قال لهم قطز في شجاعة وعزم: " أنا ألقي التتار بنفسي"..
قطز الذي يجلس على عرش الدولة العظيمة مصر سيخرج بنفسه للقاء التتار!..
قطز الذي لم "يستمتع" أو "يستفد" بعد من كرسيه ومنصبه سيخرج للجهاد!..
قطز الشاب الذي ما زالت أمامه الحياة طويلة ـ كما يقولون ـ سيخرج للموت في سبيل الله!!..
لن يرسل جيشاً لمقابلة التتار ويبقى هو في قصره الآمن في القاهرة، بل سيتحمل مع شعبه ما يتحمل، وسيعاني مع جيشه ما يعاني.. ولو أرسل قطز جيشاً وبقي هو في القاهرة ما لامه أحد، فهو قائد المسلمين، والآمال معقودة عليه، ولو مات فقد ينفرط عقد الأمة، ولكن قطز لم يجد وسيلة أفضل من هذه الوسيلة لتحميس القلوب الخائفة، ولتثبيت الأفئدة المضطربة.. كما أنه يشتاق إلى الجهاد، ويشتاق إلى الشهادة، ويشتاق إلى الجنة..
وفي كل الأحوال هو لن يموت قبل الموعد الذي حدده الله له..
لقد فقه قطز عملياً ما أدركه كل المسلمين نظرياً.. وهو أنه "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها".. لكن مَن مِن المسلمين يعيش واقع حياته فعلاً بهذا المفهوم الذي عرفه نظرياً؟!
إن الناس تتصارع دائماً لأجل زيادة الرزق، وتتصارع دائماً لأجل زيادة العمر، لكن الذي لا يعرفه كثير من الناس أن الشجاعة لا تقلل أبداً من الأرزاق، ولا تقصر مطلقاً من الأعمار، وأن الجبن لا يكثر من المال المقسوم للإنسان، ولا يخلده في الحياة.
كما فقه قطز رحمه الله الحقيقة الرائعة وهي أن الحياة بعزة ولو ساعة، خير من البقاء أبد الدهر في ذل وهوان..
ماذا كان ردّ فعل الأمراء؟!
لا شك أن الأمراء والوزراء لما شاهدوا قطز رحمه الله بهذه الحمية تحمست قلوبهم..
هذه هي القدوة أيها المؤمنون..
"فعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل"..
إن القائد مهما قام بجولات بين جنوده وقواده وشعبه يحمسهم ويشجعهم، لكنهم يعلمون أنه عند الضوائق والشدائد لن يجدوه معهم، بل سيؤمن نفسه وأحبابه فقط، ويترك جنوده وشعبه لمصيرهم، فإن هذه الجولات وهذه الخطب لا تؤثر شيئاً في الناس..
وقدوتنا العظمى في القادة الذين يعيشون هموم شعبهم، ويشاركونهم في كل صغيرة وكبيرة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم..
روى البخارى عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: "لن تراعوا، لن تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة، عُري ما عليه سرج، في عنقه السيف، فقال: لقد وجدته بحراً"..
لقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلم صوتاً مفزعاً في الليل وهو في المدينة، فما أمر أحداً بالخروج للبحث عن مصدر الصوت، مع أنه قائد المدينة المنورة ورسول المسلمين، وكان خروجه سريعاً حتى إنه استعار فرساً من أبي طلحة ولم ينتظر وضع السرج عليه، ولكنه فقط أخذ سيفه، وركب الفرس، وانطلق يبحث عن مصدر الصوت.. ولما اطمأن أنه لا شيء يهدد المدينة عاد إليها وقد خرج الناس فزعين فإذا هو يطمئنهم: "لن تراعوا"، أي لن تفزعوا، ثم قال كلمة يثني فيها على الفرس الذي كان مشهوراً بالبطء، فقال: "لقد وجدته بحراً" أي سريعاً في الجري.. يقول ثابت أحد رواة الحديث كما جاء في سنن ابن ماجة: "كان فرساً لأبي طلحة رضي الله عنه يُبطأ (يُتَّهم بالبطء) فما سُبق بعد ذلك اليوم"..
والشاهد من الموقف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعيش هموم شعبه، ويفتديهم بروحه، ويضحي بنفسه من أجلهم، ولا يفعل مثلما يفعل كثير من الزعماء الذي يضحون بشعوبهم بكاملها من أجل أنفسهم..
يروي الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
"كنا إذا احمرَّ البأس (اشتدَّت الحرب)، ولقي القومُ القومَ، اتقينا (احتمينا) برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه"..
هذه هي "التربية بالقدوة"..
وهكذا فعل قطز رحمه الله مع الأمراء والقواد حين قال لهم: " أنا ألقي التتار بنفسي"..
كان هذا هو الطريق الأول الذي سلكه قطز رحمه الله في تحميس القوم.
المفضلات