الجماعـات الوظيفية اليهـودية في العـالم الغــربي
Jewish Functional Groups in the Western World
عرفت جميع المجتمعات البشرية تقريباً ظاهرة الجماعات الوظيفية (فهي تعبير عن شيء أساسي في النفس البشرية)، ومع هذا نميل إلى القول بأنها ظاهرة أخذت شكلاً أكثر حدة في الحضارة الغربية منها في الحضارة الإسلامية. وإذا نظرنا إلى وضع الجماعات اليهودية في الحضارة الإسـلامية، بالمقـارنة بالحـضارة المسـيحية الغربية، فإننا نجد أن عملية الحوسلة بالنسبة لهم لم تتم على نفس المستوى ولا بنفس الحدة، وأن تركيبتهم الطبقية والمهنية لم تكن تختلف كثيراً عن تركيبة بقية أعضاء المجتمع. كما يمكن أن نضرب مثلاً بأقباط مصر، فرغم أنهم يشكلون الأقلية العددية الهامة الوحيدة في المجتمع المصري (فالنوبيون وسكان الصحراء لا يشكلون قوى اجتماعية أو بشرية مهمة) إلا أننا نجد أن خطابهم الحضاري لا يختلف عن الخطاب الحضاري للمسلمين، كما أنهم لا يختلفون عنهم لا في الزي ولا في اللغة ولا في العادات أو التقاليد ولا في الانتماءات الطبقية أو في التَوزُّع الوظيفي أو السكاني. ومما لا شك فيه أن بعض قطاعات من أقباط مصر تمت حوسلتها في وظائف بعينها (مثل الربا في بعض قرى مصر، أو جمع القمامة لارتباط ذلك بتربية الخنازير)، إلا أن الحوسلة لم تكن كاملة أو جوهرية بل ظلت هامشية،وظل أقباط مصر جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم لا يمكن التعرف عليهم إلا من خلال أسـمائهم المتـميِّزة في بعض الأحيان.
وقد قام المجتمع الغربي بحوسلة اليهود داخله تماماً على هيئة جماعة وظيفية مالية حتى ارتبط اسم اليهود بدور المرابي والتاجر الطفيلي والذي اضطلع به اليهود وحدهم تقريباً. وقد أصبحت كلمة «تاجر» أو كلمة «مرابي» مرادفة لكلمة «يهودي»، وأصبح يُطلَق على هذه الوظائف اسم «الوظائف اليهودية» حتى أن الصينيون حينما يضطلعون بدور التاجر والمرابي في جنوب شرق آسيا يُطلَق عليهم «يهود جنوب شرق آسيا»، وحينما يضطلع الهنود بنفس الدور في أفريقيا (ومن بينهم مسلمون) يُسمون «يهود أفريقيا»، فكأن هناك مفهوماً كامناً لفكرة «اليهودي الوظيفي» أي الإنسان الوظيفي الذي يضطلع بالوظائف التي يُقال لها يهودية، وكل من يضطلع بها يصبح يهودياً (بالمعنى الوظيفي).
ومع هذا، ينبغي الإشارة إلى أن هناك جماعات من اليونانيين والأرمن كانت تقوم بهذه الوظائف في بعض الدول الغربية (في بولندا وفي بعض دول أوربا الشرقية الأخرى). كما أنهم لعبوا نفس الدور في الدولة العثمانية. ولذا، كانت تُطلَق كلمة «يوناني» أو «أرمني» على كل من يعمل في هذه الوظائف، سواء كان يونانياً أو أرمنياً أو لم يكن.
ويبدو أن نموذج اليهود كجماعة وظيفية مُتجذِّر تماماً في الوجدان الغربي، ولذا حينما طُرحت المسألة اليهودية في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر كان الحل هو تأسيس الدولة الصهيونية الوظيفية، وهو إعادة إنتاج الجماعات اليهودية على هيئة دولة وظيفية بدلاً من جماعات وظيفية، كما أن النظام العالمي الجديد، وهو ثمرة من ثمرات الحضارة الغربية، يميل إلى تحويل كل البشر إلى عناصر وظيفية.
عــلاقة الجـــماعات اليهـودية بالصناعــــة
Relationship between Jewish Communities and Industry
يستطيع القارئ أن يرجع للباب المعنون «التحديث والمسألة اليهودية» (المجلد الثالث)، وذلك للإحاطة بجذور علاقة أعضاء الجماعات اليهودية (كجماعات وظيفية) بالصناعة في الحضارة الغربية. وتتناول المداخل الخاصة بالتراث اليهودي (الموروث الاقتصادي) في الباب المعنون «ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية» (المجلد الثالث) والمداخل الخاصة بتاريخ الجماعات اليهودية في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة (المجلد الرابع) تَطوُّر علاقة أعضاء الجماعة اليهودية بالصناعة وأثر الميراث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية على وضعهم الاقتصادي والمهني في الوقت الحالي.
الرأسـمالية والاشـتراكية والجماعــات اليهوديــة
Capitalism, Socialism, and Jewish Communities
يستطيع القارئ أن يعود للباب المعنون «الرأسمالية والجماعات اليهودية» و«الاشتراكية والجماعات اليهودية» (المجلد الثالث) ليدرس كيف أثَّر تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية على علاقتهم بالرأسمالية وتَطوُّرها والاشتراكية وتَطوُّرها وفي موقف المفكرين الرأسماليين والاشتراكيين منهم.
تحوُّل أعضـاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية: تاريخ
Transformation of Jewish Communities into Functional Groups: History
يبدو أن العبرانيين،منذ بداية ظهورهم في التاريخ، كانوا يشكلون جماعة وظيفية. فقد كانوا بدواً رُحَّلاً تجندهم المجتمعات المختلفة للاضطلاع ببعض الوظائف التي يأنف أعضاء الأغلبية عن القيام بها. وكلمة «خابيرو»، التي يُقال إنها أصل كلمة «عبري»، تعني العبد الذي أصبح كذلك بمحض اختياره (أي مرتزق). ثم أخذ العبرانيون يستقرون تدريجياً منذ عصر القضاة وحتى عصر المملكة العبرانية المتحدة، حيث أصبحوا شعباً رعوياً تشتغل بعض قطاعاته في الزراعة والحرف البـدائية، ولم يعـملوا بالتجـارة على نطـاق واسـع. وفي هذه الفترة بدأ يعمل بعض العبرانيين جنوداً مرتزقة. وقد استمر العبرانيون في العمل بالزراعة بعد التهجير البابلي، وإن بدأت تظهر بينهم قطاعات من الأثرياء الذين بدأوا يعملون في التجارة وأعمال الصيرفة، كما تزايد عدد اليهود المرتزقة وبدأت بعض الجماعات اليهودية تتحول إلى جماعات وظيفية استيطانية وقتالية وتجارية. ومع ظهور التجمعات اليهودية المختلفة خارج فلسطين، بدأ أعضاء الجماعات اليهودية يبتعدون عن الزراعة ويعملون في التجارة والحرف المختلفة. ويمكن القول بأن أول دياسبورا يهودية حقيقية هي الجمـاعة العبرانية الاستـيطانية القتالية التي وطَّنها فراعنة مصر في جزيرة إلفنتاين، لحماية حدود مصر الجنوبية، وهو تقليد استمر بعد ذلك في مصر البطلمية وفي سوريا السلوقية.
ويُلاحَظ أن الجماعات اليهودية بدأت تتحول بالتدريج إلى جماعات وظيفية. ولكن، مع حلول العصور الوسطى في العالم الغربي، ابتداءً من القرن التاسع الميلادي على وجه الخصوص، تسارعت هذه العملية وتبلورت حيث ملأ اليهود الفراغات بين طبقة النبلاء وطبقة الفلاحين وأصبحوا أقنان بلاط، أي جماعة وظيفية مالية تابعة للبلاط الملكي تضطلع بدور التجارة والربا وجمع الضرائب، وكلها مسميات مختلفة للجماعة الوظيفية التي تُستخدَم كأداة نافعة. ونظراً لوجود جماعات يهودية في العالمين الإسلامي والمسيحي، فقد استفاد أعضاؤها من شبكة الاتصالات الدولية وأصبحوا يشكلون ما يشبه الجماعة الوظيفية المالية على المستوى الدولي، واشتغلوا بالتجارة الدولية (مثل تجارة الفراء والمنسوجات والتوابل والرقيق) وأعمال الصيرفة. وبدأ تَركُّزهم في الحرف التي تتطلب مهارة فنية فائقة مثل صناعة الزجاج والصباغة أو ترتبط بسلع معينة مثل الذهب ودبغ الجلود والخمور (وهي عادةً سلع نادرة أو نفيسة أو غير عادية وذات طابع استهلاكي) أو بالحرَف التي يمكن لصاحبها أن يحمل أدواته ورأسماله معه (السجاد - الجواهر - أدوات إنتاج خاصة).
ويُلاحَظ أن ظاهرة تَحوُّل اليهود إلى جماعة وظيفية لم تكن مقصورة على العالم الغربي وإنما امتدت لتشمل العالم الإسلامي، ولكن لم يكن اليهود هم الجماعة الوظيفية الوسيطة الوحيدة فيه. كما كان ثمة تَنوُّع في حرف ووظائف أعضاء الجماعات اليهودية ونشاطهم الاقتصادي في العالم الإسلامي، حتى أن هرمهم الاقتصادي والحرَفي كان لا يختلف أحياناً عن الهرم الاقتصادي والحرَفي في المجتمع ككل. ومن جهة أخرى، كان لأوضاع أعضاء الجماعات اليهودية، في الصين والهند وإثيوبيا، خصوصيتها المختلفة النابعة من الخصوصيات والحركيات المختلفة للمجتمعات التي يوجدون فيها. ولذا، فنحن لا نقترح نمطاً يهودياً عاماً وعالمياً، وإنما نقترح نمطاً خاصاً مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية داخل الحضارة الغربية.
لقد بدأ انسحاب أعضاء الجماعات اليهودية التدريجي من التجارة (الدولية والمحلية) في الغرب، حتى تخصصوا في الإقراض الربوي في الفترة بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين. وبدأوا يعملون أيضاً ملتزمي ضرائب في أوربا الشرقية، حتى أصبحت هذه هي إحدى الوظائف الأساسية ليهود بولندا وليتوانيا، خصوصاً في أوكرانيا في القرن السادس عشر الميلادي (يهود الأرندا)، إذ قاموا بتمثيل النبلاء في إقطاعياتهم داخل إطار نظام الأرندا والإقطاع الاستيطاني. ولكن هذا النظام نفسه فتح لهم مجالات جديدة في الاستثمار والعمل، فظهرت طائفة من الحرَفييِّن اليهود يعملون في قطع الأخشاب وتقطير الخمور والصباغة ودبغ الجلود. وبرز في وسط أوربا يهود البلاط الذين كانوا عادةً من كبار المموِّلين وذوي الخبرة الإدارية والاتصالات الدولية والمعرفة بالشئون الاقتصادية، ولذا كانوا في منزلة وزراء اقتصاد وخارجية ومخابرات لأمراء الإمارات الألمانية وغيرها من دول وسط أوربا التي كانت ترغب في تنمية نفسها اقتصادياً. ويُلاحَظ أن الإقراض الربوي الذي كان يقوم به أعضاء الجماعات الوظيفية اليهودية قد تدهور، فبدلاً من إقراض كبار النبلاء والكنيسة، أصبح إقراض الفلاحين والحرَفييِّن نظير رهن أشياء مثل الملابس المستعملة والمجوهرات. ومن هنا، بدأ الحرفيون يعملون في حرف رتق الملابس والخياطة والصباغة. ومع القرن الثامن عشر الميلادي، صار معظم أعضاء الجماعات اليهودية في شرقي أوربا بورجوازيين صغاراً: بقالين وباعة جوالين وبائعي ثياب قديمة وخياطين. كما كان من الوظائف الأخرى المهمة لأعضاء الجماعات اليهودية قيامهم بعمليات الاستيطان والريادة. ولكن الاضطلاع بهذه الوظيفة كان يعني، ابتداءً من القرن السابع عشر، الخروج من المجتمع الغربي والاستقرار في مجتمعات جديدة في إطار الاستعمار الاستيطاني الغربي.
ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعات اليهودية، بوظائفهم هذه، كانوا دائماً أصحاب أعمال مستقلين، وكان مستواهم المعيشي أحسن حالاً من الفلاحين والأرقاء المسيحيين. وكان أعضاء الجماعات اليهودية بمهنهم المختلفة (بوصفهم تجاراً دوليين ومرابين) يعملون في مهن غير منتجة، فهي مهن لا تهدف إلى إعادة صياغة المادة وإنما هي وظائف إدارية وعملها شكل من أشكال المضاربات، ومن هنا يجري وصف أعضاء الجماعات اليهودية داخل التشـكيل الحضاري الغربي بالهامشـية والطفيلية.
وقد بدأ هذا الوضع في التغير بعد الثورة التجارية وظهور المركنتالية ونظام الاتجار والإقراض اللذين يشكلان قلب النظام الاقتصادي الجديد. وداخل هذا الإطار الجديد، تغيَّر البناء الوظيفي لأعضاء الجماعات اليهودية. وحينما دخل يهود المارانو الاقتصاد الغربي في القرن السابع عشر الميلادي، لم يكونوا التجار أو الممولين الوحيدين، كما لم يقفوا على هامشه، وإنما أصبحوا مموِّلين داخل اقتصـاد تجاري مالي نشـط له مشروع استعماري استيطاني عالمي، فأصبحـوا جزءاً منه واسـتثمروا في شركاته الاستيطانية المختلفة. وظهر يهود البلاط الذين أداروا ميزانيات كثير من الدول الملكية والإمارات المطلقة، خصوصاً في وسط أوربا، وساهموا في تحديثها. ومع القرن التاسع عشر الميلادي وتَصاعُد الثورة الصناعية، بدأ تحديث البناء الوظيفي لليهود في أرجاء العالم الغربي غربه ووسطه وشرقه. وقد تم دمـج أعضـاء الجماعات اليهـودية مهنياً ووظيفياً في غرب أوربـا بسرعة. ولكن عملية الدمج في شرق أوربا ووسطها استغرقت وقتاً أطول بسبب تَعثُّر التحديث، ولأن محاولة تحديث البناء الوظيفي كانت تتم بقرارات قانونية ودون إتاحة فرص أخرى حقيقية للعمل. وفي إحصاء عام 1897 في روسيا، حيث كان يعيش أغلبية يهود العالم، نجد أن اليهود كانوا موزَّعين وظيفياً علي النحو التالي:
3.55% - يعملون بالزراعة.
38.65% - في التجارة.
33.45% - في الصناعة و الصناعات اليهودية.
3.98% - في النقل.
11.76% - في الأشغال العامة والمهن الحرة.
6.61% - في الأعمال المنزلية.
لقد كان أعضاء الجماعات اليهودية في الأساس جماعة الوسطاء والحرَفييِّن ولم يكن بينهم عمال أو فلاحون، وهذا ما أسماه بوروخوف الهرم الوظيفي المقلوب. ولم يكن الوضع مختلفاً في الإمبراطورية النمساوية التي كانت تضم جماعة يهودية كبيرة.
وبالنسبة لروسيا السوفيتية، ونظراً لتأميم التجارة، فقد تغيَّر الوضع الوظيفي عام 1930 كليةً، فنجد أن 42% من اليهود كانوا يعملون في مهن إنتاجية: في الصنـاعـة 21.5%، وفي الحرَف اليدويـة 14.3% وفي الزراعـة 7.1%. ومع هذا، تَركَّز عدد كبير منهم (نحو 37.2%) في الأعمال الكتابية، ونحو 12.1% في المهن الحرة. ولعد أن هاجر اليهود إلى العالم الجديد، خصوصاً الولايات المتحدة، تغيَّر وضعهم. فنجد أنه ـ حسب إحصاء عام 1900 ـ كان 59.6% منهم عمالاً وفي صناعة الملابس على وجه الخصوص. ولم يكن يعمل في التجارة سوى 20.6% حسب الإحصاء نفسه. وقد تَحوَّل كثير من يهود الولايات المتحدة في الثلاثينيات إلى التجارة فبلغت نسبة العاملين بها نحو 50%، في حين بلغت نسبتهم في الصناعة نحو 28%، وفي المهن الحرة نحو 10%. ومع السبعينيات، تَركَّز معظم اليهود في المهن الحرة.
ويمكن القول بأن النمط الأساسي للحراك الوظيفي للمهاجرين اليهود كان يأخذ الشكل التالي: يصل المهاجر فيصبح عاملاً أو رأسمالياً صغيراً. ولكن العمال بوسعهم (بسبب خلفيتهم الثقافية والاجتماعية) الانسلاخ عن الطبقة العاملة أو مساعدة أولادهم على تَلقَّي التعليم، وهو ما يجعلهم يحققون حراكاً اجتماعياً وينسلخون عن الطبقة العاملة ويتحوَّلون إلى مهنيين. أما الرأسمالي الصغير، فيتحوَّل إما إلى رأسمالي كبير أو إلى مهني. ومن ثم، نجد أن غالبية يهود الولايات المتحدة (وغيرها من الدول الاستيطانية) من المهنيين.
ومع هذا، ترك ميراث اليهود الاقتصادي، كجماعات وظيفية وسيطة وكمهاجرين، وكذلك الكفاءات التي اكتسبوها عبر تواريخهم بسبب وظيفيتهم هذه، أثرها في التركيب الوظيفي ليهود أمريكا، إذ أن هذه الخبرة التي حملوها معهم أينما هاجروا استمرت في تحديد نشاطاتهم الاقتصادية حتى بعد أن زالت الوظيفة. فيُلاحَظ مثلاً أن اشتغال يهود العالم الغربي بالربا وأعمال الرهونات، جعلهم يتخصصون في حياكة الملابس، ذلك لأن كثيراً من الأشياء المرهونة كانت ملابس قديمة. ولذا، يُلاحَظ أن يهود العالم الغربي يتخصصون في صناعة النسيج والملابس الجاهزة. وقد أدَّى بهم هذا إلى أن يحققوا ثروات أثناء الحروب، لأن القوات المحاربة، خصوصاً في العصر الحديث، تحتاج إلى زي رسمي. وقد حدث هذا في حروب عديدة من بينها الحرب الأمريكية الأهلية حيث حقق أثرياء اليهود أرباحاً هائلة بسبب تركزهم في صناعات النسيج.
وكذلك، فإن الميراث الاقتصادي لأعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (باعتبارهم جماعات وظيفية وسيطة تقف دائماً على الهامش) يجعلهم يتخصصون في الصناعات القريبة من المستهلك ويبتعدون عن الصناعات الثقيلة، إذ أن عضو الجماعة الوظيفية الوسيطة لا يحب الاستثمار في المنقولات الثابتة (مثل الأرض والصناعات الثقيلة) أو قد لا تُتاح له الفرصة أساساً في أحيان كثيرة. ولذا يفضل الاستثمار في الصناعات الخفيفة وفي المشاريع التجارية التي تتطلب قدراً عالياً من المهارة الإدارية، ومن هنا كان تخصصهم في التجارة وصناعة الأثاث والأحذية وقطاع الخدمات والطباق والكحول والسينما، وهي كلها صناعات قريبة من المستهلك، بعيدة عن الزراعة وعن الصناعات الثقيلة مثل المناجم (وجميعها صناعات مرتبطة بالأرض). كما يُلاحَظ أنهم يتركزون في تجارة التجزئة والأعمال العقارية ويعملون وكلاء مستشارين ووسطاء. كما أن تركزهم في المهن والمصارف هو أيضاً نتيجة هذا الميراث الاقتصادي. ويُقال إن هذا أيضاً يرجع إلى أن يهود العالم الغربي عنصر مهاجر، والعناصر المهاجرة تشغل دائماً المراحل العليا من الهرم الإنتاجي ولا تشغل قاعدته. ومن ثم، لا يوجد عمال أو فلاحون يهود، ونتج عن ذلك هامشية اليهود، أي أن نشاطاتهم الاقتصادية ليست في قلب العملية الإنتاجية. ولا يزال العدد الأكبر من يهود أمريكا اللاتينية يشتغلون بالأعمال التجارية.
ويمكن القول بأن الحل الاستعماري للمسألة اليهودية (والذي يقبله الصهاينة) ينبع من تعريف العالم الغربي للجماعة اليهودية كجماعة وظيفية استيطانية قتالية. فهي إذن مجموعة بشرية تُعرَّف من خلال وظيفتها، وهي مجموعة نبذتها الحضارة الغربية، ولكنها ستحل مسألتها عن طريق الاضطلاع بوظيفة الدفاع عن مصالح الحضارة الغربية بحيث يصبح الاستيطان والقتال هما وظيفة اليهود الأساسية.
ويُلاحظ أمنون روبنشتاين أنه، في عام 1945، كان نحو 24% فقط من اليهود المهاجرين إلى فلسطين يعملون في وظائف إنتاجية مثل الزراعة والصناعة والبناء والنقل، وهو ما يعكس هامشيتهم الاقتصادية وطفيليتهم. وبعد استيطانهم في فلسطين، أصبح 69% منهم يعمل في مجال الأعمال الإنتاجية. ولكن، بحلول عام 1975، انخفضت نسبة العاملين في القطاعات الإنتاجية إلى 23%، أي أن الدولة الصهيونية لم تنجح في تحقيق أحد أهدافها الأساسية المعلنة وهو تطبيع اليهود وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج. وقد أدَّى دخول العمالة العربية في الاقتصاد الإسرائيلي إلى حدوث نوع من المفارقة، إذ يقوم العرب بشغل قاعدة الهرم الإنتاجية تاركين قمته الإدارية لليهود. وقد ظهرت هامشية المُستوطَن الصهيوني مع اندلاع الانتفاضة وانسحاب العمالة العربية من قاعدة الهرم، الأمر الذي ترك أعمق الأثر في الاقتصاد الصهيوني.
المفضلات