بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الفاضل أبا جاسم ، السلام عليكم
تقول :
بالنسبة لدي فما عندي مشكلة إن أحب أن يرد عليك أخي الفلسطيني فهو فيما أعلم على معتقد السلف في الصفات ، و لكن أنا كنت أعني جواب سؤاله تحديداً و الذي يتعلق بتوضيح منهجك في هذه المسألة فهل أنت أشعري أم لا ؟؟؟ هذا هو السؤال و لا يحتاج منك هذا التكلف لتعلم أنه ينوب عني أو لا .
أنت لم تعترض على أن يكمل الأخ الفلسطيني النقاش معي ، و لذلك قلت لك ما قلت تلقائيا ، لا تكلفا كما تظن ، لأن ما اشترطته أنا يبدو معقولا ، و حينها أستطيع أن أجيبه عن سؤاله ، و إذا كان مذهبي في مسألة الصفات يهمك ، فأنا على مذهب أهل السنة و الجماعة في هذا الأمر من أشعرية و ماتريدية ، و هو ما عليه السواد الأعظم من الأمة الإسلامية سلفها و خلفها .
تقول نقلا عن الإمام أبي نصر السجزي :
ال رحمه الله تعالى (( اعلموا ـ أرشدنا الله وإياكم ـ أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والصالحي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالاً منهم في الباطن في أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات .واحتجوا بقول العرب : " أرى في نفسك كلاما ، وفي وجهك كلاما " فألجأهم الضيق مما يدخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا : الأخرس متكلم وكذلك الساكت والنائم ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليس بأضداد الكلام وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه .
وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا : الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة .
وقالت العرب : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى فالاسم مثل : زيد وعمرو وحامد والفعل مثل : جاء وذهب وقام وقعد والحرف الذي يجئ لمعنى مثل : هل وبل وما شاكل ذلك .
فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفاً وصوتاً فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه ، ولا يحتجون بالأخبار الوارد في ذلك زعماً منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما وألزمتهم المعتزلة أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت ويدخله التعاقب والتأليف وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله لأن ذات الله سبحانه لا توصف بالاجتماع والافتراق والكل والبعض والحركة والسكون وحكمة الصفة الذاتية حكم الذات .
قالوا : فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله سبحانه خلق له أحدثه وأضافه إلى نفسه كما تقول :عبد الله ، وخلق الله وفعل الله .
فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة المسلم والكافر وقالوا للمعتزلة : الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام وإنما يسمى ذلك كلاماً على المجاز لكونه حكاية أوعبارة عنه وحقيقة الكلام : معنى قائم بذات المتكلم .
فمنهم من اقتصر على هذا القدر ، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه ما ينافي السكوت والخرس والآفات المانعة من الكلام ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله سبحانه تجسيم وإثبات اللغة فيه تشبيه .
وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل :
إن البيان من الفؤاد وإنما ,,, جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فغيروه وقالوا :إن الكلام من الفؤاد وإنما ،،، جعل اللسان على الكلام دليلا
وزعموا أن لهم حجة على مقالتهم في قول الله سبحانه وتعالى {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } وفي قوله عز وجل { فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال : أنتم شر مكانا } .
إن طرح مثل هذه الأمور المشكلة المتعلقة بالصفات في أيام المعتزلة له أسبابه و دوافعه التاريخية للرد على خصومهم من الجهمية و المرجئة و من أصحاب الملل الأخرى الذين اختلطوا بالمسلمين و سعوا إلى التغرير بغلمانهم و بسطائهم ، لذلك انبرى المعتزلة للرد عليهم بأسلحتهم العقلية ، ثم جاء الأشاعرة و الماتريدية من بعدهم ، فأسقطوا بالدليل ما كان يروّج له المعتزلة من قول بخلق القرآن الذي جعلوه مذهب الدولة ، ، فكان مذهبهم وسطيا بين النقل و العقل ، بين كون كلام الله معنى قائما بذاته أزليا و كون اللفظ المعبر عنه مخلوقا .
هذا في مسألة إثارة هذه المشكلة على أيدي الفرق الإسلامية ، أما ما أورده الإمام السجزي في عبارته الأخيرة عن الأشاعرة من أنهم لا يعتبرون السكوت و الخرس مناقضا للكلام ، و أن مقالتهم تلك تعد فضيحة ، فلا أعده فهما دقيقا لمسألة صفة الكلام عندهم ، ذلك أن الأشاعرة يستدلون بذلك على أن الكلام يمكن أن يكون نفسيا ، داخليا في البشر ، أي عبارة عن مدلولات ، فلما ينطقون يستخدمون الألفاظ المعبرة عن تلك المدلولات . و استدلوا على ذلك بأقوال العرب ، فالكلام أول أمره يكون فكرة في النفس ثم يتشكل عند النطق بالألفاظ . و استدلالهم بالأمثلة السابقة إنما هو لتقريب فكرة الكلام الذاتي إلى الفهم ، لا على أن ذلك هو صفة الكلام الإلهي ، لأن حقيقة الكلام الإلهي لا نعلمها ، و إنما ندرك لوازمها و أحكامها .
تقول :
الأصل عند التحقيق أن نرجح ما يوافق القواعد الحديثية لا ما يوافق ما يخدمنا عند الاحتجاج فقولك هناك رواية من طريق أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول لتصبح ( فينادى ) لا يخدمك في هذا المقام لأنك لم تقدم ما يدعم ترجيحها على رواية الكسر ( فينادي ) و قد رجّح الحافظ ابن حجر في الفتح الرواية بالكسر فقال رحمه الله تعالى (( يقول الله يا آدم في رواية التفسير يقول الله يوم القيامة يا آدم قوله فينادي بصوت ان الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار هذا آخر ما أورد منه من هذه الطريق وقد أخرجه بتمامه في تفسير سورة الحج بالسند المذكور هنا ووقع فينادي مضبوطا للأكثر بكسر الدال وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول ولا محذور في رواية الجمهور فان قرينة قوله ان الله يأمرك تدل ظاهرا على ان المنادي ملك يأمره الله بان ينادي بذلك ))
فتبّقى إذن الزعم بأن الملك هو من ينادي بصوت و هذا لا حجة فيه أيضاً لأنه لم يقم أي دليل يرجح قيام الملك بذلك و لا يوجد أي محذور في نسبة هذا لله سبحانه و تعالى بل إن السياق يقتضي هذا لأن المتكلم في بداية الحديث الله سبحانه و تعالى و الياء تعود عليه . هذا أولاً .
أما ثانياً فبداية الحديث تدل على أن المتكلم هو الله عز و جل فآدم لما أجاب قال لبيك و سعديك فهل يقول عليه السلام لبيك و سعديك للملك ؟؟؟
ثالثاً : لنفرض أن المنادي في هذا الحديث الملك فهل تظن أن هذا ينفي وجود أحاديث غيره تدل على الصوت ؟؟؟ فقد روى البخاري حديثاً معلقاً في الصحيح و وصله في خلق أفعال العباد فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
(( يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب أنا الملك الديّان ))
فهل يقول المَلَك أنا المَلِك الديّان ؟؟؟؟
علاوةً على هذا فقد جاءت آيات كثيرة تدل على أن الله ينادي عباده كما نادى آدم و حواء في الجنة و النداء كما هو معلوم ببداهة العقول لا يكون إلا بصوت و لكن من ينكره وقع في المحذور فقام بتشبيه الله بمخلوقاته فحاول الفرار من هذا إلى التنزيه بظنه و الذي هو في حقيقته تعطيل محض.
قال المفسر الإمام أبوعبدالله القرطبي المتوفى سنة671هـ صاحب «جامع أحكام القرآن» و«شرح الأسماء الحسنى» في « التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة » (ص239) طبعة دار الكتاب العربي ما نصّه :
(( فصل: قوله في الحديث -أي حديث عبد الله بن أنيس سمعت رسول الله يقول « يحشر الله العباد .... فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد ومن قرُب، أنا الملك، أنا الديان، ....» الخ الحديث-: فيناديهم بصوت .
استدل به من قال بالحرف والصوت ، وأن الله يتكلم بذلك ، تعالى الله عما يقوله المجسمون والجاحدون علوًا كبيرًا. وإنما يحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل : نادى الأمير وبلغني نداء الأمير. كما : {ونادى فرعون في قومه} وإنما المراد نادى المنادي عن أمره وأصدر نداءه عن إذنه. وهو كقولهم أيضًا: قتل الأمير فلانًا، وضرب فلانا. وليس المراد توليه لهذه الأفعال وتصديه لهذه الأعمال ، ولكن المقصود صدورها عن أمره، وقد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد : ألا إن فلان ... ابن فلان كما تقدم.
ومثله ما جاء في حديث التنزيل مفسّرًا فيما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد قالا : قال رسول الله إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا يقول : هل من داعٍ يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ . صححه أبومحمد عبد الحق.
وكل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء فهذا التأويل فيه وأن ذلك من باب حذف المضاف . والدليل على ذلك ما ثبت من قدم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتاب الديانات.) انتهى كلام الإمام القرطبي .
و قال الإمام الكوثري -رحمه الله- في تعليقه على السيف الصقيل:
((إن كان يريد حديث جابر عن عبد الله بن أنيس: "يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب..." الحديث، فهو حديث ضعيف علقه البخاري بقول: ويذكر عن جابر، دلالة على أنه ليس من شرطه، ومداره على عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف باتفـــــــــــاق، وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد، وعنه قالوا إنه ممن لا يحتج به.
وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء فيه تبيين وجوه الضعف في الحديث المذكور.
وأما إن كان يريد حديث أبي سعيد الخدري: "يقول الله: يا آدم، يقول: لبيك وسعديك، فيُنادى بصوت: إن الله يأمرك.." الحديث، فلفظ ينادى فيه على صيغة المفعول جـــــــــــــــزمًا، بدليل: "إن الله يأمرك"، ولو كان على صيغة الفاعل لكان: "إني آمرك" كما لا يخفى.
على أن لفظ (صوت) انفرد به حفص بن غياث وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت، وسئل أحمد عن حفص هذا فقال: كان يخلط في حديثه، كما ذكره ابن الجوزي؛ فأين الحجة للناظم في مثله؟!
على أن الناظم نفسه خرج في حادي الأرواح -وفي هامشه إعلام الموقعين- (2-97) عن الدارقطني من حديث أبي موسى: "يبعث الله يوم القيامة مناديا بصوت يسمعه أولهم وآخرهم إن الله وعدهم..." الحديث، وهذا يعين أن الإسناد مجازي على تقدير ثبوت الحديثين.
فظهر بذلك أن الناظم متمسك في ذلك بالسراب، والمؤلف تساهل في الرد عليه، وفي (القواصم والعواصم) لابن العربي ما يقصم ظهر الناظم في (2 - 29) منه)). انظر مجموعة كتب العقيدة وعلم الكلام، للشيخ محمد زاهد الكوثري -رحمه الله-، ص462.
و زيادة على ذلك نقول :
لو افترضنا أنَّ المنادي هو الله تعالى، فإنَّ نداءه تعالى بصوت، والباء هنا للآليَّة، وآلة الشَّيء غير الشَّيء...
فعليه يقال إنَّه يجوز أن يكون هذا الصَّوت مخلوقاً، وهو ما به صارت الدَّلالة التي هي الكلام.
إذن: لا يفيد هذا الحديث كون كلامه تعالى هو عين الصَّوت.
وهنا أسألك: لو كان كلام الله تعالى هو عين الصَّوت فما معنى سماع النَّاس له؟
فإنَّ الصوت يحلُّ في آذان النَّاس، فهل يجوز حلول صفة الله تعالى في النَّاس؟
وإن لم يكن الصَّوت يحلُّ في آذان النَّاس فما الذي يحلُّ في آذانهم؟
أتمنى أن تجيبني عن هذا التساؤل .
وهذا كلُّه على تسليم الرِّواية بأنَّها "ينادي" بالكسر ، فلا يصحُّ لك الاستدلال بهذا الحديث الشَّريف على هذا المطلوب، لأنَّ فيه احتمالية ، فيسقط به الاستدلال رأساً، وقولك إنَّ الأكثر رووه بـ "ينادي" على الكسر ، فهذا لا يعني تضعيف "ينادى" بالفتح ، كيف وهي واردة ثابتة!
أما إيرادك :
يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب أنا الملك الديّان ))
فهل يقول المَلَك أنا المَلِك الديّان ؟؟؟؟
و أنا بدوري أسألك :
في الحديث القدسي الصحيح يقول المولى عز وجل مخاطباً أحد عباده (مرضتُ فلم تعدني و ......) ويسأل العبد (وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟) هل تعلم ماذا يجيب الله سبحانه وتعالى عبده؟
إذا عرفت الإجابة ستعرف أن التأويل منهج إسلامي وقرآني ونبوي، و أن ما ينطبق على هذا الحديث ، ينطبق على الحديث السابق الذي ذكرته و أن لا مفر من المجاز في القرآن و في الحديث .
يتبع ....
المفضلات