[frame="1 10"]ومن أعمال عبدالمؤمن: مسح جميع أراضي مملكته، وحصل من الولاة على بيانات دقيقة عن سكان كل ولاية، وعن خواصها وثروتها وغلاّتّها. وكان يرمي من ذلك إلى تقرير الضرائب من ناحية، وأن تتخذ هذه البيانات أساساً لتقرير عدد الجند وأنواعه من ناحية أخرى، فسكان الثغور في المغرب والأندلس يقدمون البحارة والسفن، والمناطق الصحراوية والفنية بالخيل تقدم الفرسان ودواب الحمل والجمال، وعلى الولايات الأخرى في المدن الداخلية مثلاً - تقديم الجند المشاة والسلاح، كل بنسبة سكانها.
وكان عبدالمؤمن يحتفظ بالسلاح بكميات وافرة، وبمقادير جيدة في المخازن المعدة له. وأنشأ مصانع السلاح في كثير من قواعد مملكته تعطي القسيَّ والنُّشَّاب والخوذات والدروع والسهام.. وآلات الرمي والمنجنيقات التي تستخدم في الحصار وعزم عبدالمؤمن على تغيير نظام الطبقات ولذلك قام بحركة واسعة للقضاء على كل العناصر الغير موالية له وتخلص من كل العناصر التي لم يكن ولاؤها له غير مؤكد. ومشاغبتها عليه محتمل وقوعه وخافه الموحدون خوفاً عظيماً وأرعبت النفوس منه وساعدته الظروف على تحقيق أهدافه الشخصية وطموحه الذاتي، فمن هذه الظروف أن طبقة الجماعة قد تناقص عددها تناقصاً كبيراً. فقد قتل خمسة أفراد من أعضاء هذه الطبقة في موقعة البحيرة سنة 524هـ التي هزم فيها الموحدون من قبل القوات
المرابطية. وهؤلاء هم: أبو محمد عبدالله بن محسن الوانشريشي وسليمان بن مخلوف الحضرمي، وأبو عمران موسى بن تماري الكدميوي وأبو يحيى ابن بيكيت وأبو عبدالله بن سليمان. أما أبو حفص عمر بن علي آصناك، فقد توفي سنة 536هـ وقتل عبدالله يعلي بن ملوية سنة 527هـ بعد أن خرج على الخليفة عبدالمؤمن. إذ أنه حقد على الموحدين بيعتهم له أما أبو الحسن بن واكاك، فقد قتله طلحة غلام أبي اسحاق أمير المسلمين المرابطي سنة 541هـ.
وإذن فقد توفي في طبقة الجماعة، المكونة من عشرة أشخاص، ثمانية أفراد، ولم يعد باقياً على قيد الحياة منهم إلا ابو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي وعبدالمؤمن بن علي وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لطبقة الجماعة، فإنه من المؤكد أن الكثيرين من أعضاء طبقتي أهل خمسين وأهل سبعين، وغيرها من الطبقات قد تناقص بسبب الحروب المستمرة التي خاضها الموحدون. ولذلك أتيحت وفاة الكثيرين من أعضاء طبقات الموحدين، فرصة طيبة لعبدالمؤمن بن علي لأن يجري تعديلاً في نظام الطبقات وبعد أن تخلص من أكثر من (32080) شرع لتنفيذ المخطط الهادف لتغيير نظام الطبقات فأصدر أوامره لجميع الموحدين من المصامدة وغيرهم بالحضور إلى حضرته في مراكش فحضروا والرعب يملأ جوانحهم والخوف يملأ قلوبهم، خوفاً ورهبة مما يخبئه لهم الخليفة. لقد رسم عبدالمؤمن خطته في اناة وروية، ونفذها على خطوات وعلى مهل وفي غير استعجال، حتى اذا ما استوفى ربط الحلقات واحكامها، جاءت نتيجة خطته محققة لما وضعها من أجله. وهي أن يكون له في الدولة كل شيء ولايكون للموحدين أي شيء. هكذا أصبح عبدالمؤمن خليفة الموحدين اسماً وفعلاً.
ولما أن أصبحت الحال تلك، وأحضر الموحدين إلى حاضرة مراكش، أعلن فيهم تغيير نظامهم الطبقي وأعلن عليهم النظام الجديد وحدد فيه مكان كل منهم وتغيرت الطبقات من أربعة عشرة طبقة إلى ثلاث طبقات: (فالطبقة الأولى: هم السابقون الأولون الذين بايعوا بن تومرت، وصحبوه وغزوا معه وصلوا خلفه، والذين شاهدوا البحيرة وباءوا بفضلها واشتملوا بردة شرفها وارتقوا إلى ذروة الحظوة بها، وشهد لهم بالفضل الذي لايوازي والرتبة التي لا تعادل. ويتلو هذه الطبقة: من آمن بهذا الأمر ودخل في هذا الحزب وانضوى إلى هذا الشعب من بعد البحيرة إلى فتح وهران. والطبقة الثانية من فتح وهران إلى هلم جرا. من النظر إلى التنظيم الجديد لطبقات الموحدين، يتبين أن عبدالمؤمن ألغى طبقة الجماعة الغاء نهائياً، وهي الطبقة التي كان لها الحق الأول في إدارة شئون الموحدين ومراقبة الخليفة. هذا بالإضافة إلى أنه ألغى طبقتي أهل خمسين وأهل سبعين وهما الطبقتان التاليتان لطبقة الجماعة في النفوذ والسيطرة. وهكذا أزاح عبدالمؤمن من أمامه الطبقات ذات الشأن في نظام ابن تومرت. بل إن عبدالمؤمن ألغى الطبقات الأربعة عشر، وجمعها كلها في طبقة واحدة، وهي الطبقة الأولى في نظامه. وهو قد ذهب إلى مدى أبعد، إذ جعل في هذه الطبقات كل من رأى بن تومرت وبايعه وصلى خلفه واشترك معه في حروبه. ليس هذا فقط، بل وكل من اشترك في غزوة البحيرة التي هزم فيها الموحدون عند أحواز مراكش من قبل المرابطين، يوم الثاني عشر من جمادي الثانية من سنة خمسمائة وأربعة وعشرين هجرية الموافق الثالث عشر من مايو سنة 1130م.
ومعنى هذا أن عبدالمؤمن حطم نفوذ الطبقات المتنفذة الأولى في نظام بن تومرت ثم انه ساوى بين أعضاء الطبقات الأخرى والطبقات الثلاثة الأولى، وجعل مكانة الجميع على قدم المساواة. وهذه المساواة بين أفراد الطبقات أتاحت لأفراد الطبقات الاحدى عشر الأخيرة في النظام الملغي، كسباً معنوياً كبيراً وفائدة مادية جليلة. وبهذا استطاع أن يكسب ود واخلاص وتأييد أفراد هؤلاء الجماعة لاتاحته لهم هذه الفرصة الذهبية. كما وأن التنظيم الجديد أتاح للكثيرين ممن كانوا خارج الطبقات الموحدية، فرصة الانتماء للنظام الموحدي واكتسابهم شرف الانضواء تحت رايته.
أما الطبقة الثانية، فهي تشمل كل الذين دخلوا في حركة الموحدين، منذ موقعة البحيرة سنة 524هـ وحتى فتح وهران سنة 538هـ وهذا يعني أن النظام الجديد أتاح الفرصة للجماعات والقبائل المختلفة التي دخلت في طاعة الموحدين بعد سنة 524هـ وحتى سنة 538هـ. سواءً كانت هذه الطاعة قد جاءت طواعية واختياراً أو اجباراً وقسراً بحد السيف. وهكذا استطاع عبدالمؤمن بحركة بارعة أن يستل الضغينة من نفوس الذين فرضت عليهم طاعة الموحدين بعد عام البحيرة وحتى فتح وهران. وذلك بمساواتهم بغيرهم من الموحدين الأولين، وادراجهم في الطبقة الثانية من النظام الجديد. وهذا بطبيعة الحال أدى إلى انتشار الرضى بينهم واطمئنانهم إلى مستقبلهم الذي يبشر به انضواؤهم في النظام الطبقي للموحدين. وهي إلى جانب الكسب المعنوي والسياسي، قد أتيحت لهم فرصة الاستفادة المادية إلى أبعد مدى.
وهذه الطبقة سوف تنظر بعين الرضى والتأييد للخليفة عبدالمؤمن بن علي، الذي أقدم بشجاعة فائقة على تغيير النظام القديم، وأتاح لأفرادها شرف الانتماء إلى النظام الموحدي، بل وفي الطبقة الثانية منه، وبهذا استطاع عبدالمؤمن أن يجعل أفراد هذه الطبقة من المخلصين له والمؤيدين لسياسته والدافعين لأعدائه.
والطبقة الثالثة، تضم من دخل حركة الموحدين منذ فتح وهران سنة 538هـ وإلى أي زمن تلا ذلك، فاتحاً الباب لكل من يطيع الموحدين لأن ينتظم في سلك الطبقة الثالثة.
ثم أن عبدالمؤمن لما أن افتتح المغرب الأوسط وأدخله في دولة الموحدين، بعد أن قضى على امارة بني حماد فيه، قام بمحاربة قبائل بني هلال، الذي وقفوا في وجهه. وتمكن الموحدون من هزيمتهم في أكثر من موقعة وأرغموهم على الخضوع والطاعة. وبدلاً من أن يقوم عبدالمؤمن بالانتقام من هذه القبائل وزعمائها، نجده ينقل معه ألفاً من كل قبيلة منهم وينزلهم بالمغرب الأقصى كما قام في نفس الوقت برد الأموال والحرم التي غنمت من تلك القبائل ومنحهم جزيل العطاء. وعن هذه الأحداث يذكر البيذق قائلاً: "وأما ما كان من أمر غنائم العرب وسبيها، فترك منها أمير المؤمنين في فاس ومكناسة وفي سلا وحمل مع نفسه سلاطينهم إلى مراكش وعيالهم وهم: ديفل بن ميمون وحباس بن الرومية وابن الزحامس وابن زيان، وأبو قطران، وأبو عرفة، والقائد ابن معرف. فهؤلاء الملوك رد لهم الخليفة عيالهم وأعطاهم المال وصرفهم إلى بلادهم. فقالوا للخليفة تأمرنا بالرجوع إليك. فقال لهم الخليفة مجاوباً لهم نحن نصل إليكم وردهم كافة بنسائهم حملها لهم القبائل وكان ذلك في عام 547هـ".
هذا بالاضافة إلى أن الخليفة بعد غزوته للمغرب الأدنى، أحضر معه الكثير من قبائل العرب وأنزلهم بالمغرب الأقصى. وهو في الواقع قام بهذا العمل، ليبعد شر هذه القبائل عن افريقية والمغرب الأوسط ويجعلها في متناول يده، كما أنه كان يرمي إلى كسب ودها واستخلاص ولائها. كما وأن جلبه لتلك الآلاف منهم وانزالهم بالقرب منه، يخفي وراءه سياسته في أن يتقوى بهم ويجعلهم كعصبية له ضد ثورة المصامدة المحتملة.
وحرص على ملاطفة العرب واستمالتهم وحرضهم على قتال النصارى ودخول الأندلس معه فقال:
أقيموا إلى العلياء هوج الرّواحل
وقودوا إلى الهيجاء جُرْد الصواهلِ
وقوموا لنصر الدين قومة ثائرٍ
وشدوا على الأعداء شدة صائــــلِ
فما العُّز إلا ظهرُ اجرد سابح
وأبيض مأثور وليس سائــــــــــل
بني العمِّ من عليا هلال بن عامر
وما جمعت من باسل وابنِ باسل
تعالوا فقد شُدَّتْ إلى الغزو نَّيةٌ
عواقبـــــــــــها منصورة بالأوائلِ
هي الغروة الغراءُ والموعدُ الذي
تنجَّزَ من بعدِ المدى المتطـــــاولِ
بها نفتح الدنيا بها نبلغ المنى
بها نُنْصِفُ التَّحقيقَ من كلِّ باطلِ
فلا تتوانوا فالبدارُ غنيمةٌ
وللمُدْ لج السّاري صفاء المناهلِ
وكانت الشعراء تقصد عبدالمؤمن لمدحه، ولما قال فيه التِّفاسي قصيدته:
ماهزَّ عطفيه بين البيض والأسلِ
مثل الخليفة عبدالمؤمن بن علي
أشار إليه أن يقتصر على هذا المطلع، وأمر له بألف دينار ولما سار عبدالمؤمن بجيوشه ونزل جبل طارق، وسمّاه جبل الفتح، فأقام أشهراً، وبنى هناك قصوراً ومدينة، ووفد إليه كبراء الأندلس، وقام بعض الشعراء منشداً:
ماللعدى جُنَّةٌ أوقى من الهرب
أين المعزُّ وخيلُ الله في الطلب
وأين يذهب من في رأس شاهقة
وقد رمته سهامُ الله بالشُّهُــــ،ب
حدِّث عن الروم في أقطار أندلسٍ
والبحر قد ملأ البرَّينِ بالعَرَبِ
فأعجب بها عبدالمؤمن وقال: بمثل هذا يمدح الخلفاء وبعد أن أطمأن عبدالمؤمن إلى سلامة الخطوات التي اتخذها في سبيل أن تكون له السيادة الكاملة في الدولة، وضمن تحطم نفوذ الشخصيات البارزة في مجموعة الموحدين، وتأكد له ولاء أغلب الطبقات في النظام الجديد، وبعد أن ضمن حماية نفسه وأسرته بمجموع بني هلال وسليم التي أنزلها في أحواز أقدم على الخطوة الخطيرة التي مافتئ يستعد لها ويمهد الطريق أمامها ألا وهي جعل الحكم في دولة الموحدين في عقبه، وتوليه أحد أبنائه ولياً لعهده
يتبع[/frame]
المفضلات