صفحة 7 من 11 الأولىالأولى ... 34567891011 الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 70 من 106
 
  1. #61
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    الشعب.. قبل المعركة

    إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش.. فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟.
    كيف كانت حالتهم النفسية ومعنوياتهم وتربوياتهم وأهدافهم؟
    هل كان الشعب مؤهلاً لمثل هذا الصدام المروع الذي سيحدث بعد أيام أو شهور مع أكبر وأقوى قوة على وجه الأرض على الإطلاق؟؟ هل يستطيع شعب مصر أن يقف في مواجهة تلك القوة العاتية التي أسقطت نصف العالم تحت سيطرتها؟!
    الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثر كثيراً على حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: "الجهاد في سبيل الله".. وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية.
    لكن الوضع الذي استلم فيه قطز حكم مصر كان وضعاً صعباً للغاية؛ فالفتن الدائرة على كرسي الحكم منذ عشر سنوات جعلت الحكام لا يلتفتون كثيراً إلى شعوبهم، إنما كان همّهم تثبيت دعائم ملكهم فقط، وكانت أحلام شعوبهم تأتي في مراتب متأخرة جداً في أولوياتهم.. ولذلك لم يكن المصريون في ذلك الوقت بالشعب الأمثل الذي يشتاق إلى مثل ذلك اليوم الذي يقابل فيه التتار، ولا يحلم بذلك اليوم الذي ينتصر فيه عليهم، بل على العكس، كان الشعب ـ كغيره من شعوب المسلمين ـ يخاف من التتار، ويصيبه الذعر الشديد، والهلع الكبير، عند سماع أخبار الجيوش التترية، وكلما اقترب التتار بصورة أكبر من مصر اضطربت الأفئدة, وتزعزعت النفوس..
    ولذلك كانت مهمة رفع الهمة عند هذا الشعب، ورفع روحه المعنوية، وتحميسُه على المقاومة.. كانت هذه المهمة من أصعب المهام التي واجهت قطز رحمه الله.. فالجيش غير المؤيد بشعبه جيش لا يقوى أبداً على الصمود..
    لابد من السند الشعبي للقائد والجيش، وإلا فالنصر مستحيل..
    كان لزاماً على قطز رحمه الله أن يوجه اهتماماً خاصاً لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء، والفداء للدين والحمية للإسلام..
    وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله عز وجل لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهّلتا نسبياً من مهمة قطز رحمه الله..
    أما القيمة الأولى التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين؛ فطوال أيام الأيوبيين في مصر، ومنذ أن رسّخ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله المذهب السني في مصر بعد قضائه على الدولة الفاطمية الفاسدة.. وقيمة العلماء مرتفعة في أعين الناس والحكام على السواء.. حتى إنه لما صعدت شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم، وقام العلماء بإنكار ذلك وكتابة الرسائل المعادية للملكة، وتحفيز الناس على رفض هذا الأمر، ما استطاعت شجرة الدرّ ولا أحد من أعوانها أن يوقفوا هذه الحركة الجريئة من العلماء، وما قُيدت حرية عالم أبداً، ولا غُيّب في ظلمات السجون، ولا مُنع من إعطاء الدروس والخطب!!.. ثم كان من جراء أسلوب الأيوبيين في تربية المماليك على الدين أساساً، ثم على الفروسية والقتال، أن احتاج الحكام إلى العلماء باستمرار.. كما أثرت هذه التربية الدينية في المماليك أنفسهم، فأصبحوا يعظمون العلم والعلماء، وإذا قام الرجل ليقول: قال الله عز وجل، وقال رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم استمع له الناس والحكام على السواء وأنصتوا..
    وشتان بين شعب ابتعد عن الدين ولكنه ما زال يقدره ويقدر العلماء، وشعب آخر تربى على اعتبار الدين من التقاليد القديمة التي قد تُعظم تعظيماً رمزياً كأي أثر تاريخي!!..
    لقد كان من المستحيل في مصر أيام الأيوبيين والمماليك أن يهزأ أحد بعالم دين، أو بشيخ في مسجد، أو بمأذون شرعي، أو بأي رجل حمل صبغة إسلامية.. كما كان من المستحيل على هذا الشعب أن يرفض أي مبدأ إسلامي أو قانون شرعي.. نعم قد يخالف الشعب أحياناً لضعف في الإرادة، أو لهوى في النفس، ولكنه يخالف وهو يعلم أنه يخالف، ولم يأت له أبداً من يقول له: إن المحرمات كالربا والخمور والرقص والملاهي والإباحية والولاء للنصارى... لم يأت له من يقول إن هذه المحرمات أصبحت حلالاً.. ولم يأت من يحرم عليه أمراً حلالاً كذلك، لا في شكل ولا في مضمون.. ولم توقف الحلقات في المساجد، ولم يمنع العلماء من صعود المنابر، ولم تُصادَر الكلمة، ولم تُقتَل النصيحة..
    لقد كان الشعب معظماً للدين.. وكان الشعب محباً للإسلام..
    ولهذه القيمة العالية للعلم والعلماء في مصر كانت مصر ملاذاً للعلماء الذين لا يجدون في بلادهم فرصة لتعليم الناس، أو يجدون مقاومة من حكامهم لسبب من الأسباب، ولهذا فزيادة على علماء مصر وعلماء الأزهر الشريف ـ والذي أصبح سنياً تماماً بعد ذهاب الدولة الفاطمية ـ جاء إلى مصر علماء أفاضل من بلاد إسلامية أخرى، ولا شك أن هؤلاء العلماء أضافوا إضافات جليلة لحركة العلم في مصر..
    وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ البار، والعالم الفذ، والإمام الجليل: "العز بن عبد السلام" رحمه الله، والملقب "بسلطان العلماء"..
    وهنا لابد لنا من وقفة مع هذا العالم الجليل..





  2. #62
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    سلطان العلماء!

    "العزّ بن عبد السلام" رحمه الله من أعظم علماء المسلمين على الإطلاق، وهو من مواليد دمشق سنة 577 هجرية، أي إنه عند ولاية قطز كان قد تجاوز الثمانين من عمره، والعزّ بن عبد السلام من العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وكان كثيراً ما يواجه السلاطين بأخطائهم، وينصحهم في الله دون خوف ولا وجل، ولذلك لقبه تلميذه الأول وعالم الإسلام المشهور "ابن دقيق العيد" رحمه الله بلقب "سلطان العلماء"، فقد جمع العزّ بن عبد السلام رحمه الله بين العلم والعمل، وبين الاتباع الشديد للسنة والاجتهاد الصحيح عند الحاجة، وبين الفتوى في الأمور العبادية والعقائدية والفتوى في الأمور السياسية والاجتماعية.. فكان بحق سلطاناً للعلماء، وقدوة للدعاة، وأسوة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر..
    وقد عاش حياته رحمه الله في دمشق إلى أن تولّى "الصالح إسماعيل الأيوبي" أمر دمشق وهو أخو الصالح أيوب الذي كان حاكماً لمصر، والذي تحدثنا كثيراً عنه وعن صلاحه وتقواه، لكن الصالح إسماعيل حاكم دمشق كان على شاكلة أخرى، فقد كان خائناً لدينه وشعبه، فتحالف مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين أيوب في مصر، وكان من شروط تحالفه مع الصليبيين أن يعطي لهم مدينتي صيدا والشقيف، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر، وبالطبع ثار العالم الجليل العز بن عبد السلام، ووقف يخطب على المنابر ينكر ذلك بشدة على الصالح إسماعيل، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكاً شخصياً حتى يتنازل عنها للصليبيين، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين، وخاصة أن المسلمين على يقين أن الصليبيين لا يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين.. وهكذا قال سلطان العلماء كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل.. فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء، ومنعه من الخطابة، ثم أمر باعتقاله وحبسه، وبقي العالم الجليل مدة في السجن، ثم أُخرج من سجنه ولكنه مُنع من الكلام والتدريس والخطابة، فرحل الإمام الجليل من دمشق إلى بيت المقدس ليجد فرصة ليعلم الناس هناك بدلاً من السكوت في دمشق، وأقام بها مدة، ولكنه فوجئ بالصالح إسماعيل يأتي إلى بيت المقدس ومعه ملوك الصليبيين وجيوشهم وهم يقصدون مصر لاحتلالها، وأرسل الصالح إسماعيل أحد أتباعه إلى الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، وكان متلطفاً له غاية التلطف، بل ووعده بالعودة إلى كل مناصبه بشرط أن يترضى الصالح إسماعيل، ويعتذر له، وبشرط ألا يتكلم في أمور السياسة، وإلا اعتقله..
    وذهب رسول الصالح إسماعيل إلى العز بن عبد السلام رحمه الله وقال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه، وزيادة، أن تنكسر للسلطان، وتُقبل يده لا غير!"..
    فرد عليه العز بن عبد السلام رحمه الله في كبرياء وعزة فقال:
    "والله يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبل يده، يا قوم: أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به"..
    الله أكبر!!.. هؤلاء هم العلماء بحق!
    وكان رد الصالح إسماعيل متوقعاً، فقد أمر باعتقال الشيخ الكبير في بيت المقدس، ووضعه في خيمة مجاورة لخيمته، وكان الشيخ عزّ الدين رحمه الله يقرأ القرآن في خيمته، والسلطان الصالح إسماعيل يسمعه، وفي ذات يوم كان الصالح إسماعيل يتحدث مع ملوك الصليبيين في خيمته والشيخ يقرأ القرآن، فقال الصالح إسماعيل لملوك الصليبيين وهو يحاول استرضاءهم: "تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر علماء المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم"..
    يقول الصالح إسماعيل هذا الكلام ليسترضي ملوك النصارى، فقال له ملوك النصارى وقد سقط تماماً من أعينهم: "لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها!"..
    وحُبس الشيخ العز بن عبد السلام في بيت المقدس إلى أن جاء الملك الصالح نجم الدين أيوب، وخلص بيت المقدس من الصليبيين سنة 643 هجرية، وهنا أخرج الشيخ العز بن عبد السلام من السجن وجاء إلى مصر، حيث استُقبل أحسن استقبال، وقرب جداً من السلطان الصالح أيوب رحمه الله، وأعطاه الخطابة في مسجد عمرو بن العاص، وولاه القضاء..
    ومن مواقفه الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرفع الأمر إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مُفتٍ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالوضع الإجتماعي وبالمال وبالأمان بل وبكل الدنيا..
    وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه، ولكن شعب مصر المقدّر لقيمة العلماء رفض ذلك الأمر، فماذا حدث؟
    لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه..
    ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها، ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يعرف "ببائع الأمراء!"..
    يتبدى لنا من هذه القصة، وفي سيرة الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله بصفة عامة، قيمة العلم والعلماء في مصر في ذلك الوقت، واحترام الناس لكلمة الشرع، وكل هذا كان له أثر بالغ في تكوين الشعب المصري، وفي استجابته لنصائح العلماء..
    إذن من حديثنا السابق عن العلماء وعن الشيخ العز بن عبد السلام كمثال لهم، يتبين أن قيمة العلم والعلماء كانت عالية جداً، ومحفوظة تماماً في الشعب المصري أيام الأيوبيين والمماليك، وهذا ولا شك سيكون عوناً هاماً لقطز رحمه الله في بث معاني الجهاد والتضحية في الشعب بعد ذلك..





  3. #63
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    الجهاد في سبيل الله

    أما القيمة الثانية ـ بعد قيمة العلم والعلماء ـ التي كانت محفوظة في مصر فهي قيمة الجهاد في سبيل الله..
    لقد كان المسلمون في مصر في تلك الآونة يؤمنون إيماناً عميقاً بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش.. ما سقطت قيمة الجهاد في سبيل الله حتى في أوقات الضعف، وحتى في أوقات الصراع على السلطة، وحتى في أوقات الأزمات الاقتصادية
    وكانت الحملات الصليبية المتتالية على مصر والشام سبباً في بقاء هذا الشعور عند المسلمين في مصر، وعلموا أنه من المستحيل أن يكون هناك ما يسمى "بالسلام الدائم".. هذا أمر مستحيل فعلاً.. لأن من سنن الله عز وجل أن يظل الصراع دائراً إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل.. وسيظل الحق موجوداً إلى يوم القيامة، وسيظل كذلك الباطل موجوداً إلى يوم القيامة، ولذلك فلن يقف الصراع أبداً إلا أن يتحول كل أهل الباطل إلى الحق، أو يتحول كل أهل الحق إلى الباطل، وهذا افتراض مستحيل، ولذلك فأكذوبة "السلام الدائم" هي أكذوبة ما يراد بها إلا خداع الشعوب وتسكينها وإبعادها عن الاستعداد الدائم للحرب..
    لقد كان المسلمون في مصر في ذلك الوقت يعظمون جداً كلمة "الجهاد في سبيل الله"، ويربطونها دائماً بالله عز وجل، ولأن الجيوش الصليبية كانت دائماً أكثر عدداً من الجيوش المسلمة كانت الجيوش المسلمة شديدة الارتباط بربها عند المعارك، وشديدة التضرع إليه، وحريصة على توجيه النية كاملة لله عز وجل.. ولكل ذلك ما سقطت أبداً قيمة الجهاد في سبيل الله، وما وجد في ذلك الزمان من يسفه أمر الجهاد، أو يتهم من أراد الجهاد بأنه "إرهابي" أو "متطرف" أو "أصولي".. لم تكن كلمة الجهاد سبّة، إنما كانت فضلاً عظيماً، وهدفاً سامياً..
    ولذلك كان الجيش المصري آنذاك مستعداً دائماً، حريصاً دائماً على استكمال كل أسباب القوة والإعداد، ولم يُفرغ الجيش أبداً لأعمال مدنية كما تفعل الدول التي لا تجاهد ولا تنوي أصلاً أن تجاهد، إنما كان الجيش متفرغاً للتدريب العسكري، وتحديث السلاح، والتمرين على الخطط المختلفة للحروب، وإفراز القيادات الجديدة الماهرة، وحماية البلاد من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ونجدة المسلمين في البقاع المختلفة..
    لقد كان الجيش المصري مستعداً دائماً.. وكان الشعب المصري كذلك مستعداً دائماً..
    وشتان بين شعب رُبي على هذه المعاني، وشعب آخر رُبي على أنه لا بديل للسلام، وعلى أن خيار الحرب غير مطروح، وعلى أن الاستراتيجية الصحيحة هي المفاوضات والموائد المستديرة والمستطيلة، والمباحثات الهلامية، والاتفاقات الهزلية..
    الشعب الذي من هذه الصورة الأخيرة ينشأ شعباً رخواً مائعاً لا لون له، ولا طعم، ولا هدف له، ولا حمية عنده..
    وشعب مصر أيام قطز رحمه الله لم يكن على تلك الصورة..
    إذن.. كان الشعب في مصر في الأيام التي صعد فيها قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم على الرغم من أزماته الاقتصادية، وظروفه الصعبة، وفزعه من أخبار التتار، وفقدانه الثقة في كثير من زعمائه... كان شعباً واعياً فاهماً مقدراً لقيمة العلم والعلماء، ومحترماً لقيمة الجهاد في سبيل الله كوسيلة حتمية لحل الصراع مع الدول التي تغير على بلاد المسلمين..
    وقطز رحمه الله ـ كما رأينا ـ كان واضعاً قضية التتار نصب عينيه من أول يوم حكم فيه البلاد، بل كان واضعاً هذه القضية نصب عينيه في كل حياته من يوم أن كان طفلاً أغار التتار على بلده، وقتلوا أهله، ومروراً بكل مراحل حياته الصعبة، وحياة الرق والعبودية، وانتهاءً بصعوده إلى أعلى منصب في مصر..
    ورأينا كيف خطط قطز رحمه الله لتقوية جيشه، ولتدعيم الصف الداخلي في مصر، ولتحسين العلاقات الخارجية مع الأشقاء المسلمين، ولا شك أنه كان يحتاج إلى وقت طويل، ولكن كثيراً ما تُفرض المعارك على المسلمين فرضاً، فلا يجدون الوقت الكافي للإعداد والتمهيد، ولذلك على الأمم التي تريد أن تعيش أن تكون جاهزة ومستعدة بصورة دائمة..





  4. #64
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    قطز في المواجهة!

    فبينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وأن الحرب على وشك الحدوث.. وبينما كان قطز رحمه الله في حاجة إلى بضعة شهور للإعداد إذا بالأيام تتسرب من بين يديه، والحرب مفروضة عليه، وما بين عشية وضحاها ستهجم الجحافل الهمجية على مصر، شاء قطز أم أبى، وشاء الجيش أم أبى، وشاء الشعب أم أبى، فالصراع سيكون قريباً، وقريباً جداً بين أي فئة مؤمنة، وبين أكبر قوة في الأرض إن كانت هذه القوة ظالمة، فالظالمون المتكبرون لا يقبلون أبداً بصديق ولا حليف ولا محايد، إنما فقط يريدون التابع، ولابد أن يكون التابع ذليلاً!!..
    جاءت رسل هولاكو لعنه الله، وهي تحمل رسالة تقطر سماً، وتفيض تهديداً ووعيداً وإرهاباً.. لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله عز وجل..
    "ولولا أن ثبتناك، لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"..
    وبفضل الله ثبّت الله عز وجل قطز، فقرأ الرسالة برباطة جأش عجيبة، وكذلك المؤمن الصادق، إذا خوّفه أحد الظالمين، استحضر هيبة الله تعالى، فهان عليه كل ظالم أو متكبر..
    جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتر.. وقرأ قطز رحمه الله فإذا فيها ما يلي:
    "بسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه..
    الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس "المماليك"..
    صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها..
    أنّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه..
    فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر..
    فاتعظوا بغيركم، وسلّموا إلينا أمركم..
    قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ..
    فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى..
    فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد..
    فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب..
    فأي أرض تأويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟
    وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟
    فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص
    فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق..
    وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال!
    فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع!
    لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رد السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان..
    فأبشروا بالمذلة والهوان
    )فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(..
    وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة..
    وقد سلطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة..
    فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم عينا من سبيل..
    فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا رد الجواب..
    قبل أن تضطرم الحرب نارها، وتوري شرارها..
    فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كتاباً ولا حرزاً، إذ أزتكم رماحنا أزاً..
    وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية..
    فقد أنصفناكم، إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم"..
    وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلاناً صريحاً بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولابد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق..
    عقد قطز رحمه الله مجلساً استشارياً أعلى، وجمع كبار القادة والأمراء والوزراء، وبدءوا فوراً في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، والخيارات محدودة جداً، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط..
    أما قطز رحمه الله فكانت القضية في ذهنه واضحة تمام الوضوح، إنه لم يطرح الخيارين على نفسه للتفكير، فخيار السلام ـ أو "الاستسلام" ـ في هذا الموقف غير وارد عنده أبداً، وهو يعلم تمام العلم أن الحقوق لا "توهب" بل "تؤخذ"، وأن الجيوش المعتدية لا " تُقنع" بالعودة إلى بلادها، بل "تُرغم" على العودة إلى بلادها..
    هكذا كانت الرؤية في منتهى الوضوح عند قطز رحمه الله..
    لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جداً من الفقه والفهم.. نعم لديهم حمية دينية عالية، ونعم يحبون الإسلام حباً جماً، ونعم على درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، لكن الاختبار صعب جداً..
    لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وإمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة.. لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين أعداد التتار وأسلحة التتار، وأعداد المصريين وأسلحة المصريين، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذُبحت على أيدي التتار، بالإضافة إلى الجيوش الخوارزمية والأرمينية والكرجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هُزِمت أمام جيوش التتار..
    لقد شاعت في تلك الأزمان كلمة تناقلها العوام والخواص.. كانوا يقولون:
    "إذا أخبرك أحد أن التتار يُهزمون فلا تصدقه!!"..
    كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز رحمه الله أمراً واضحاً جداً لا تردد فيه.. وظهر عليهم الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض!
    كيف يتصرف القائد الحكيم مع مثل هذا الموقف؟
    كيف ينزع الخوف والرهبة من القلوب؟
    كيف يقنع قادة جيشه بأمر يعتقدونه مستحيلاً؟!
    تعالوا نتعلم من قطز رحمه الله..





  5. #65
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    موقعة عين جالوت

    مقدمة

    جاء جيش كتبغا وقد امتلأ بالصلف والغرور والكبر تسبقه سمعته العالية في سفك الدماء وتخريب الديار وإفناء البشر.. وقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً.. ومر الجيش غرب بيسان، وانحدر جنوباً في اتجاه عين جالوت حيث كانت القوات الإسلامية قد أخذت مواقعها ورتبت صفوفها ووقفت في ثبات تنتظر الجيش التتري..
    وبينما قطز في سهل عين جالوت إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يخرجون من القرى والمدن ليلتحقوا بالجيش المسلم، وقد تيقنوا أن حرباً حقيقية ستحدث قريبًا..
    سبحان الله!!..
    لابد أن نتساءل..
    أين كان هؤلاء المتطوعون يوم جاءت فرقة تترية بسيطة فاخترقت فلسطين من شمالها إلى جنوبها حتى احتلت مدينة من أواخر المدن في فلسطين: مدينة غزة؟!..
    كيف تحرك هؤلاء الآن إلى سهل عين جالوت؟
    لماذا قعدوا قبل ذلك؟ ولماذا قاموا الآن؟!!
    الإجابة في منتهى البساطة..
    إنها القدوة..
    "التربية بالقدوة"..
    هذه كلمة ذكرناها كثيراً منذ أن تكلمنا عن قطز رحمه الله وعن جيشه الصادق..
    هناك الكثير من المؤمنين الصادقين الذين يريدون خدمة الدين ورفعة الإسلام، لكنهم لا يجدون قدوة صالحة يقلدونها، أو قائداً مخلصاً يتبعونه.. لقد ألف هؤلاء البسطاء في فلسطين أن يروا قوادهم في الشام يعقدون الأحلاف المهينة مع التتار، ويفتحون لهم الحصون والديار، ويمدون لهم الجسور، ويمهدون لهم الطريق..
    لقد افتقد هؤلاء المسلمون البسطاء القدوة الصالحة.. فلم يظهر الخير الكثير الذي بداخلهم، فلما جاء قطز رحمه الله ومن معه من المؤمنين الصادقين، وقطعوا هذا الطريق كله إلى أرض الموقعة، وهم يتقدمون في ثبات، ولم يفعلوا مثلما فعل الناصر يوسف الأيوبي عندما فر بمجرد سماعه أن جيش التتار قد اقترب... لما رأوا كل ذلك تحمست قلوبهم، وخرجت العواطف الكامنة في صدورهم، وتحركت فيهم الحمية لهذا الدين، فهانت عليهم التضحية، وهان عليهم الجهاد..
    نعم هؤلاء ليسوا كالجيش النظامي في قدراته ومهاراته، لكنهم متحمسون ومتشوقون إلى العمل في سبيل الله.. وهذه الحماسة تنفع كثيراً في ميادين القتال.. كما أن قطز رحمه الله استخدمهم في سلاح الخدمات الخاص بالقوات الإسلامية، ووفر طاقة الجنود الذين كانوا يقومون بهذه الأعمال، واستخدم هؤلاء الجنود في العمليات القتالية بعد أن قام المتطوعون بدورهم..
    وسلاح الخدمات يشمل نقل العتاد والمعدات، والاهتمام بشئون الطعام والشراب، وإمداد الجنود بالسهام والرماح، ورعاية الخيول، ونقل الجرحى ومداواتهم.. وهذه أعمال كثيرة تستنفد جهداً ووقتاً، وهي ـ وإن كان لا يشترط فيها كفاءة قتالية، ولا مهارة عسكرية - إلا أن لها أهمية قصوى في نجاح المعركة.. وهكذا استفاد قطز رحمه الله من كل طاقات المتطوعين الفلسطينيين.. وكل ميسر لما خلق له..
    ثم إنه بالإضافة إلى هذه الأعمال فإن الجيش المسلم سيظهر في عيون الجيش الكافر أضعافاً مضاعفة، ولا شك أن هذا سيبث الرعب في قلوب الكافرين.. فتكثير سواد المسلمين أمر لا يُستهان به أبداً..
    وإلى جانب أولئك المتطوعين اجتمع الكثير من الفلاحين من القرى المختلفة ممن لا يستطيع قتالاً ولا خدمة، إما لكبر سن أو لعجز أو لمرض، واجتمع كذلك النساء والصبيان، واصطفوا بأعداد كبيرة على طرفي سهل عين جالوت، وقد علت أصواتهم بالتكبير والدعاء، وارتفعت صيحاتهم التشجيعية للقوات الإسلامية، وتحركت ألسنتهم وأيديهم وقلوبهم بالدعاء لرب العالمين أن ينصر الإسلام وأهله، ويُذل الشرك وأهله..
    كل هذه الأحداث في يوم 24 رمضان من سنة 658 هجرية، وهو اليوم السابق مباشرة للموقعة الرهيبة: عين جالوت..





  6. #66
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    جند الله في جيش التتار

    وبينما هم كذلك جاء رجل من أهل الشام وهو يسرع المسير، ويطلب أن يقابل أمير القوات الإسلامية قطز ومن معه من بقية الأمراء، وقال إنه رسول جاء من قبل "صارم الدين أيبك"..
    وصارم الدين أيبك هو أحد المسلمين الذين أسرهم هولاكو عند غزوه بلاد الشام، ثم قبل الخدمة في صفوف جيش التتار، واشترك معهم في مواقعهم المختلفة، وجاء معهم إلى موقعة عين جالوت، ولا ندري إن كان قد قبل التعاون مع التتار لرغبة في نفسه، أم قَبِل ذلك مضطراً وهو يعد العدة لينفع المسلمين.. لا ندري هذا، فهذا بينه وبين الله عز وجل..
    لكن ما نعلمه أنه قبيل موقعة عين جالوت قرر أن يخدم جيش المسلمين بقدر ما يستطيع!.. وسبحان الله.. [وما يعلم جنود ربك إلا هو]
    فهذا الرجل لا يعرفه قطز، ولا يعرفه أمراء الجيش الإسلامي، ولكن الله عز وجل وضعه في هذا المكان ليقدم للمسلمين خدمات جليلة.. والذي ساقه في ذلك التوقيت الفريد هو الذي ساق نعيم بن مسعود رضي الله عنه من قبل ليسلم في أثناء غزوة الأحزاب، وليكون سبباً رئيسياً من أسباب نصر المسلمين!!
    ولنلاحظ تدبير رب العالمين: لما جاءت القوات الإسلامية إلى فلسطين، وتحرك كتبغا في اتجاه عين جالوت، أرسل صارم الدين أيبك ذلك الرسول إلى قطز ليخبره ببعض المعلومات الهامة جداً عن جيش التتار..
    وقد نقل هذا الرسول إلى قطز رحمه الله المعلومات التالية:
    ـ أولاً: جيش التتار ليس بقوته المعهودة، فقد أخذ هولاكو معه عدداً من القادة والجند (وذلك عند ذهابه إلى تبريز بفارس)؛ فلم يعد الجيش على نفس الهيئة التي دخل بها إلى الشام، فلا تخافوهم..
    وكانت هذه معلومة في غاية الأهمية فعلاً، لأنها رفعت الروح المعنوية جداً عند من كان في قلبه خوف من التتار، ولابد أنك ستجد في هذا الجيش من يحدث نفسه أو يحدث أخاه عن حروب التتار السابقة، وكيف أنهم أهلكوا البلاد والعباد.. فكانت هذه المعلومة الهامة شحنة قوية أمدت الجيش الإسلامي بطاقة عالية..
    ـ ثانيا: ميمنة التتار أقوى من ميسرتهم، فعلى جيش المسلمين أن يقوي جداً من ميسرته والتي ستقابل ميمنة التتار..
    ـ ثالثاً: (وهو خبر هام) أن الأشرف الأيوبي أمير حمص سيكون في جيش التتار بفرقته، ومعه صارم الدين أيبك، ولكنهم سوف ينهزمون بين يدي المسلمين.. أي أن الرسالة تقول أن الأشرف الأيوبي قد راجع نفسه، وآثر أن يكون مع جيش قطز، ولكنه خرج مع جيش التتار مكيدة لهم، وتفكيكاً لصفهم..
    كانت هذه الأخبار في غاية الأهمية، وجاءت في وقت مناسب، ولكن الحكمة تقتضي ألا يعتمد المسلمون على هذه المعلومات، لأنها قد تكون خدعة من التتار أو من الأشرف الأيوبي أو من صارم الدين أيبك ..
    لذلك قال الأمراء بعضهم لبعض في حكمة بالغة، وخبرة عسكرية فائقة: "لا يكون هذا معمولية على المسلمين"..
    يعني لا يكون هذا شيئاً عمله التتار ليخدعوا به المسلمين..
    ومع ذلك أخذ المسلمون حذرهم، واستفادوا من هذه الأمور دون تفريط في إعداد، أو تهاون في الاحتياط والحذر..
    وبذلك انتهى يوم الرابع والعشرين من رمضان..
    وقضى المسلمون الليل في القيام والابتهال والدعاء والرجاء..
    لقد كانت هذه ليلة من أعظم ليالي السنة لأنها في العشر الأواخر من رمضان..
    بل إنها كانت ليلة وترية، ومن المحتمل أن تكون ليلة القدر..
    غير أنها كانت كذلك ليلة من أعظم ليالي الدنيا لأنها الليلة التي تسبق يوم الجهاد، وفي صبحها سيكون لقاء عظيم يثأر فيه المسلمون لدماء الملايين من المسلمين التي سُفكت على أيدي هؤلاء التتار الهمج..
    هذه يا أخوة ليلة خالدة حقاً..
    ترى كيف كانت أحاسيس قطز رحمه الله في هذه الليلة؟
    أكاد أجزم أنها كانت قريبة من أحاسيس خالد بن الوليد رضي الله عنه في الليالي التي تسبق معاركه!!
    يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه:
    "ما ليلة تزف إليّ فيها عروس ـ أنا لها محب ـ أو أبشر فيها بغلام، بأحب عندي من ليلة شديدة البرد، في سرية من المهاجرين، أصبّح بهم أعداء الله"..
    متعة حقيقية لا يشعر بها إلا المجاهدون حقيقة..
    لا شك أن قطز رحمه الله كان يقضي هذه الليلة في محرابه يدعو الله عز وجل أن ينزل نصره على أوليائه، وأن يثبت أقدام المجاهدين.. لقد كانت هذه ليلة طال انتظارها.. فهذه ليلة كان يعد لها قطز منذ أن ارتقى عرش مصر وإلى الآن..
    لقد اجتهد قطز رحمه الله كثيراً في الزرع، وغداً هو يوم الحصاد..
    وحان وقت الفجر.. وصلى المسلمون الفجر في خشوع.. ورتبوا صفوفهم بعد الصلاة واستعدوا، وما هي إلا لحظات وأشرقت الشمس.. هذا يوم الجمعة الخامس والعشرون من رمضان سنة 658 هجرية, وبشروق الشمس أضاءت الدنيا, ورأى المسلمون من بعيد.... جيش التتار!!..
    أتى الجيش التتري المهول من اتجاه الشمال، وبدأ في الاقتراب من سهل عين جالوت، وعلى أبواب السهل وقف الجيش التتري في عدده الرهيب وعدته القوية..
    ولم يكن بالسهل أحد من المسلمين، فقد كانوا يقفون جميعاً خلف التلال..
    لكن ـ كما أشرنا من قبل ـ فإن مقدمة جيش المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس كانت لا تخفي نفسها، وذلك حتى يعتقد جواسيس التتار أن هذه المقدمة هي كل الجيش.. ومع ذلك فعند قدوم جيش التتار كانت هذه المقدمة مختفية هي الأخرى، ثم أشار لها قطز رحمه الله أن تنزل من فوق التلال للوقوف على باب السهل لقتال الجيش التتري..
    [سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب]
    وبدأت القوات الإسلامية تنساب من فوق التل إلى داخل سهل عين جالوت، ثم تتجه إلى شمال السهل للاقتراب من جيش التتار..
    ولم تنزل مقدمة الجيش دفعة واحدة، إنما نزلت على مراحل، وفي صورة عجيبة..
    وأترك الحديث لصارم الدين أيبك ـ الرجل المسلم في جيش التتار ـ والذي كان يقف بجوار "كتبغا" وهو يصف القوات الإسلامية وهي تنزل من فوق التلال..
    يقول صارم الدين أيبك:
    "فلما طلعت الشمس ظهرت عساكر الإسلام، وكان أول سنجق أحمر وأبيض، وكانوا لابسين العدد المليحة"..
    موقف في غاية الروعة..
    لقد نزلت الكتيبة الإسلامية الأولى وهي تلبس ملابس أنيقة أحمر في أبيض.. للفرقة كلها زي واحد، وكانوا يلبسون العدد المليحة، بمعنى أن الدروع والسيوف والرماح والخيول كانت في هيئة مليحة )جميلة(.. لقد نزلوا بخطوات ثابتة، وبنظام بديع..
    الجنود الإسلاميون ينزلون إلى ساحة المعركة في غاية الأناقة والبهاء.. وكأنهم في عرض عسكري.. لهم هيبة.. وعليهم جلال.. ويوقعون في قلب من يراهم الرهبة..
    وهذه هي الكتيبة الأولى..
    استمعوا إلى وصف صارم الدين أيبك وهو يتكلم عن كتبغا السفاح التتري الجبار..
    يقول صارم الدين أيبك:
    "فبهت كتبغا .. وبهت من معه من التتار"..
    سبحان الله!!.. "فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين"..
    هذه أول مرة يرى فيها كتبغا جيش المسلمين على هذه الصورة، لقد كان معتاداً أن يراهم وراء الحصون والقلاع يرتجفون ويرتعبون، أو يراهم وهم يتسارعون إلى الهروب فزعاً من جيش التتار، أو يراهم وهم يسلمون رقابهم للذبح الذليل بسيوف التتار!!.. كان كتبغا معتاداً على رؤية المسلمين في إحدى هذه الصور المهينة، أما أن يراهم في هذه الهيئة المهيبة العزيزة فهذا ما لم يحسب له حساباً أبداً!!
    قال كتبغا في فزع: "يا صارم، رُنك من هذا؟! "
    "ورنك" كلمة فارسية تعني "لون"، وهو يقصد كتيبة من هذه؟ إنها كتيبة مرعبة..
    وكانت فرق المماليك تتميز عن بعضها البعض بلون خاص.. فهذه الفرقة مثلاً لونها الأحمر في الأبيض، فكانت تلبس الأحمر والأبيض، ولها رايات بنفس اللون، وتضع على خيولها وجمالها وأسلحتها نفس الألوان، وتضع على خيامها نفس الألوان، وكذلك على بيوتها في مصر، وعلى مخازنها وغير ذلك.. فكانت هذه بمثابة الشارة التي تميز هذه الفرقة أو الكتيبة..
    فسأل كتبغا في فزع: رنك من هذا؟
    فقال صارم الدين أيبك: رنك "سنقر الرومي" أحد أمراء المماليك..
    ومهما كانت عظمة الكتيبة المسلمة وبهاؤها فإننا لا نستطيع أن نفهم رعب القائد التتري السفاح زعيم الجيش التتري المهول من هذه الكتيبة الصغيرة جداً بالقياس إلى جيش التتار إلا في ضوء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقال فيه: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر.
    وفي رواية أحمد عن أبي إمامة زيادة: نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي..
    يقول الإمام السندي رحمه الله في شرح الحديث: هذا رعب يُقذف في قلوب الأعداء بلا أسباب ظاهرية، ومع ذلك فقد أخذ قطز رحمه الله بالأسباب الظاهرية قدر استطاعته، فحُسن الإعداد، وجمال الصورة، ودقة التنظيم، وبراعة الترتيب.. كل هذه أمور جعلت رعب التتار أمراً متحققاً، بالإضافة إلى أن الرعب جندي من جنود الله عز وجل..
    ويقول الإمام السندي رحمه الله: إن هذه خاصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بقيت آثار هذه الخاصية في خلفاء أمته ما داموا على حاله..
    نعود إلى كتبغا سفاح التتار وهو يراقب نزول الكتائب الإسلامية من فوق التلال..
    فبعد نزول الكتيبة الأولى: كتيبة سنقر الرومي نزلت كتيبة أخرى تلبس الملابس الصفراء عليها من البهاء والجمال ما لا يوصف..
    تزلزل كتبغا وقال لصارم: هذا رنك من؟
    قال صارم: هذا رنك بلبان الرشيدي أحد أمراء المماليك..
    ثم تتابعت الكتائب الإسلامية بألوانها الرائعة المختلفة، وكلما نزلت كتيبة سأل كتبغا: رنك من هذا؟.. فيقول صارم: فصرت أي شيء يطلع على لساني قلته.. يعني بدأ يقول أسماء مخترعة لا أصل لها، لأنه لا يعرف هذه الكتائب، ولكنه يريد أن يرعب كتبغا بكثرة الفرق الإسلامية..
    وكل هذه الفرق ـ يا إخواني ـ هي مقدمة جيش المسلمين فقط، وهي أقل بكثير من جيش التتار الرهيب؛ فقد احتفظ قطز رحمه الله بقواته الرئيسية خلف التلال، وقد قرر ألا تشترك في المعركة إلا بعد أن تُنهَك قوات التتار..
    وبعد أن نزلت مقدمة المسلمين بقيادة ركن الدين بيبرس بدأت فرقة الموسيقى العسكرية الإسلامية المملوكية تظهر على الساحة، وانطلقت في قوة تدق طبولها وتنفخ في أبواقها وتضرب صنوجها النحاسية.. لقد كانت الجيوش المملوكية تتلقى الأوامر عن طريق هذه الدقات التي لا يعرفها الأعداء.. فكانت هناك ضربات معينة للميمنة وضربات معينة للميسرة وضربات معينة للقلب، وكانت هناك ضربات للتقدم وضربات للانسحاب، وكانت هناك ضربات خاصة لكل خطة عسكرية، وبذلك يستطيع القائد قطز رحمه الله أن يقود المعركة عن بعد، وعلى مساحة شاسعة من الأرض من خلال دقات هذه الآلات الضخمة.. هذا فوق الرهبة التي كانت تقع في قلوب الأعداء من جراء سماع هذه الأصوات المزلزلة، بينما كانت هذه الدقات تثبت المسلمين، وتشعرهم بمعية القائد لهم في كل تحرك من تحركاتهم..
    ووقف الأمير ركن الدين بيبرس بقواته على المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، بينما ترك السهل بكامله خالياً من خلفه، واقتربت جداً ساعة الصفر..





  7. #67
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    واحتدم اللقاء

    ونظر كتبغا إلى مقدمة القوات الإسلامية وكان لا يدرك شيئاً عن القوات الرئيسية المختبئة خلف التلال، فوجد أن قوات المقدمة الظاهرة أمامه قليلة جداً بالنسبة لقواته.. ومع ذلك فهي في هيئة حسنة ومنظر مهيب، فأراد كتبغا أن يحسم المعركة لصالحه من أول لحظاتها.. لذلك قرر أن يدخل بكامل جيشه وقواته لحرب مقدمة المسلمين..
    وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله ..
    وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته..
    وانهمرت جموع التتار الرهيبة وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين..
    أعداد هائلة من الفرسان ينهبون الأرض في اتجاه القوات الإسلامية..
    أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس فقد كان يقف في رباطة جأش عجيبة, ومعه الأبطال المسلمون يقفون في ثبات، وقد ألقى الله عز وجل عليهم سكينة واطمئناناً، وكأنهم لا يرون جحافل التتار..
    حتى إذا اقتربت جموع التتار أعطى بيبرس إشارة البدء لرجاله.. فانطلقوا في شجاعة نادرة في اتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار..
    وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً..
    وارتفعت سحب الغبار في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الواقفين على جنبات السهل وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وعلا صليل السيوف على أصوات الجند..
    واحتدمت المعركة في لحظات.. ورأى الجميع من الهول ما لم يروه في حياتهم قبل ذلك..
    كانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيارها لتكون قادرة على تحمل الصدمة التترية الأولى.. والذي يحرز النصر في بداية المعركة يستطيع غالبًا أن يحافظ عليه إلى النهاية.. ليس فقط للتفوق العسكري ولكن أيضاً للتفوق المعنوي..
    وكان كثير من أمراء هذه المقدمة بما فيهم ركن الدين بيبرس من أولئك الذين شاركوا في موقعتي المنصورة وفارسكور ضد الحملة الصليبية السابقة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك منذ عشر سنوات في سنة 648 هجرية، وبذلك يكون هؤلاء الأمراء من أصحاب الخبرة العسكرية الفائقة، ومن أعلم القادة بطرق المناورة وأساليب القتال وخطط الحرب..





  8. #68
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    غباء القوة

    وثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري..
    كل هذا وقطز رحمه الله يرقب الموقف عن بعد، ويصبر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة..
    ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور..
    ومع الفجوة الهائلة في العدد بين الفريقين إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات..
    كان هذا هو الجزء الأول من الخطة الإسلامية: استنزاف القوات التترية في حرب متعبة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم..
    ثم جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة.. ودقت الطبول دقات معينة لتصل بالأوامر من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني من الخطة..
    وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، وحبذا لو سُحب الجيش بكامله، بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها..
    وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ هذا الجزء من الخطة على صعوبته، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع.. وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال..
    وقد كانت هذه العوامل متوافرة في الجيش بحمد الله، وقبل هذا بالطبع كان توفيق الله عز وجل عونًا لهذا الجيش الصامد..
    هذه الخطة يا إخواني هي نفس خطة القوات الإسلامية في موقعة نهاوند الشهيرة ضد القوات الفارسية وذلك في سنة19 من الهجرة، وكان يقوم بدور ركن الدين بيبرس القائد الإسلامي الفذ الصحابي القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وكان يقوم بدور قطز رحمه الله الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرّن رضي الله عنه، وقام ساعتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الذي قضى على قوات الفرس تماماً في نهاوند..
    وهنا في عين جالوت يستفيد قطز رحمه الله من تجارب المسلمين السابقة ويطبق خطة نهاوند بحذافيرها..
    وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة تقدم جيش التتار في مكانه..
    وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وهم يضغطون على المسلمين، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت، وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل بل أخذ معه كل جنوده!!
    كيف فعل كتبغا ذلك؟
    إنه خطأ عسكري لا ريب !!
    وكتبغا قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فقد جاوز الستين من عمره، ولعله جاوز السبعين، فهو من الذين عاصروا جنكيزخان، وجنكيزخان مات قبل هذه الموقعة بأربعة وثلاثين سنة، قضاها كتبغا كلها في حروب وقيادة..
    لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قوات احتياط خارج السهل لتؤمن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي..
    لكن هذا لم يحدث !!
    لقد توقفت العقلية التترية عن التفكير السليم في وقت حساس جداً من أوقات المعركة.. قد يفسر ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم، وقد يفسر بضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي، وقد يفسر بالغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه مما جعله يستهين تماماً بقوات المسلمين، وقد يفسر بأن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن كتبغا لا نعرفها..
    قد يفسر بأي شيء من هذا أو بغيره.. لكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية, فضلاً عن قائد مخضرم مثل "كتبغا"!!
    ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول في مثل هذا الموقف هو أن هذا تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى، الذي يخرج عن القياسات العادية للبشر، ويدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة.. ولو تكررت نفس الظروف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس القرار أبداً، ولكن الله عز وجل أراد لهذا الجيش التتري الهلكة على يد الجيش المسلم، فدفع كتبغا إلى اتخاذ قرار لا يتناسب أبداً مع إمكانيته كقائد عسكري، ولا يتناسب مع قوات جيشه كجيش ضخم، ولا يتناسب مع ساحة المعركة التي تعتبر كالقفص الذي له باب واحد، فإذا دخل الجيش بكامله القفص وأغلق الباب فالنجاة تكاد تكون مستحيلة..
    [ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين]
    وقد رأينا قبل ذلك غزوة بدر الكبرى أن أبا جهل هو الذي دفع جيشه الكافر للدخول في معركة بدر بعد أن عارضه جل قومه.. فكانت الهلكة لمعظم رءوس الكفر في مكة..
    ورأينا أيضاً مسيلمة الكذاب في موقعة اليمامة الشهيرة يدفع قواته إلى حتفها..
    ورأينا الفيروزان في موقعة نهاوند يدفع الفرس إلى مثواها الأخير..
    ورأينا باهان قائد الروم في موقعة اليرموك يدفع جيوشه إلى الهاوية..
    وليس هناك مجال لقول قائل: لو تروى القائد لكان كذا وكذا، ولو تريث القائد.. ولو سمع القائد نصيحة فلان أو رأي فلان..
    يا إخواني .. إنهم يُدفعون دفعاً إلى مصارعهم..
    إنهم مهما بلغت قوتهم، وتعددت جيوشهم.. وتنوعت أسلحتهم لا يخرجون أبداً عن إرادة الله عز وجل.. والله عز وجل يريد النصر لعباده الذي نصروه..
    [إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم]
    قاعدة أصيلة لا خلف لها..
    وهكذا دفع كتبغا جيشه دفعاً للدخول بكامله في سهل عين جالوت..
    وبذلك نجح الجزء الثاني من الخطة الإسلامية نجاحاً مبهراً..
    وبدأ تنفيذ الجزء الثالث من الخطة..
    وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق..





  9. #69
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي




    كتبغا في المصيدة

    ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة.. نزلت من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم..
    الخطة تسير في منتهى الإحكام والدقة، ومع ذلك فهذه الخطة تحمل في طياتها خطورة عظيمة على الجيش الإسلامي نفسه.. لماذا؟ لأن حصار التتار دون ترك فرصة الهروب لهم سوف يدفع كل الجنود التتار لإخراج كل طاقاتهم.. إنهم سيقاتلون قتال المستميت..
    قتال المحصور.. قتال الحياة أو الموت وليس قتال الهزيمة أو النصر..
    لكن في نفس الوقت إن نجحت الخطة فسوف يكون فيها هلاك عدد ضخم من الجيش التتري.. وقد تكون هذه هي الضربة القاصمة القاضية على هذا الجيش الرهيب..
    واكتشف كتبغا الخطة الإسلامية بعد فوات الأوان، وحُصر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ.. لا مجال للهرب، ولا مجال للمناورات.. السهل منبسط والمساحات مكشوفة، وليس هناك من حماية إلا خلف السيوف والدروع.. لا بديل عن القتال حتى الموت..
    حرب ضارية بشعة.. أخرج التتار فيها كل إمكانياتهم، وبدءوا يقاتلون بحمية بالغة.. والمسلمون صابرون ثابتون..
    وظهر تفوق الميمنة التترية ـ كما أخبر بذلك رسول صارم الدين أيبك ـ وبدأت الميمنة التترية تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفون حول الجيش الإسلامي، وتتعادل بذلك الكفتان، وقد ترجح كفة التتار.. ويصبح إغلاق السهل خطراً على المسلمين..
    وقطز رحمه الله يقف في مكان عال خلف الصفوف يراقب الموقف بكامله، ويوجه فِرَق الجيش إلى سد الثغرات، ويخطط لكل كبيرة وصغيرة..
    وشاهد قطز رحمه الله المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بقوات احتياطية، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، ولعل بعضهم قد شك في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه إنه لا يهزم..





  10. #70
    مراقبة الأقسام العامة
    أمـــة الله غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 15
    تاريخ التسجيل : 1 - 10 - 2007
    الدين : الإسلام
    الجنـس : أنثى
    المشاركات : 14,900
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 10
    معدل تقييم المستوى : 32

    افتراضي


    واإسلاماه!

    وقطز رحمه الله يشاهد ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة، ولكن الموقف تأزم جداً، هنا لم يجد قطز رحمه الله إلا حلاً واحداً لا بديل له..
    لابد أن ينزل بنفسه رحمه الله إلى ساحة القتال..
    لابد أن يثبّت جنوده بالطريقة التي اعتادها معهم... طريقة القدوة!
    لابد أن يوضح لجنوده بطريقة عملية أن الموت في سبيل الله غاية ومطمح وهدف..
    نحن نريد الآخرة.. وهم يريدون الدنيا.. وشتان!!
    هنا فعل قطز رحمه الله فعلاً مجيداً..
    لقد ألقى بخوذته على الأرض.. تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة التي قلب الموازين في أرض المعركة..
    لقد صرخ قطز رحمه الله بأعلى صوته: واإسلاماه.. واإسلاماه..!!
    وألقى بنفسه رحمه الله وسط الأمواج المتلاطمة من البشر..
    وفوجئ الجنود بوجود القائد الملك المظفر قطز رحمه الله في وسطهم.. يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون.. ويقاتل كما يقاتلون..
    أي تأييد؟! وأي تثبيت؟! وأي سكينة؟! وأي اطمئنان؟!!
    القضية إذن واضحة جداً أمام الجميع.. القضية قضية إغاثة الإسلام والدفاع عنه.. القضية ليست أبداً حفاظاً على ملك.. أو حماية لكرسي.. القضية ليست حرصاً على توريث لابن أو عائلة..
    القضية ـ يا إخواني ـ قضية صادقة..
    وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه.. والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيراً عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه..
    والتهب حماس الجنود، وهانت عليهم جيوش التتار، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة..
    إنها ليست هجمة على ذواتهم.. إنها هجمة على الإسلام..
    واشتعل القتال في سهل عين جالوت.. وعلا صوت تكبير الفلاحين على كل شيء.. ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من شهر رمضان..
    وقاتل قطز رحمه الله قتالاً عجيباً..
    ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز رحمه الله فأخطأه ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجل قطز رحمه الله على الأرض، وقاتل ماشياً لا خيل له! وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته رحمه الله..
    ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشياً، فجاء إليه مسرعاً، وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز رحمه الله امتنع، وقال: "ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!!"
    وظل يقاتل ماشياً إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية!!
    وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له: لمَ لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك..
    فقال قطز في يقين رائع: "أما أنا كنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قتل فلان وفلان وفلان... حتى عد خلقاً من الملوك )مثل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام "..
    رحمك الله يا قطز.. كنت ـ ولا زلت والله ـ قدوة للمسلمين..
    وعلى أكتاف أمثالك تنهض الأمم..
    ونتيجة مثل هذه المواقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقياً جداً في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة..
    وبدأت الكفة - بفضل الله - تميل من جديد لصالح المسلمين.. وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار.. وكان يوماً على الكافرين عسيراً..
    مصرع الطاغية!
    وتقدم أمير من أمراء المماليك المهرة في القتال وهو جمال الدين آقوش الشمس، وهو من مماليك الناصر يوسف الأيوبي، وقد ترك الناصر لما رأى تخاذله وانضم إلى جيش قطز، وأبلى بلاءً حسناً في القتال، واخترق الصفوف التترية في حملة صادقة موفقة حتى وصل في اختراقه إلى … … … كتبغا.. قائد التتار!!!
    لقد ساقه الله إليه!!
    ورفع البطل المسلم سيفه، وأهوى بكل قوته على رقبة الطاغية المتكبر كتبغا.. وطارت الرأس المتكبرة في أرض القتال.. وسقط زعيم التتار.. وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار.. [وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى]..
    وتغير سيناريو القتال عند التتار.. فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب.. وانطلق المسلمون خلف التتار، يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً..
    وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية..
    ضاعت السمعة .. وسقطت الهيبة.. ومُزّق الجيش الرهيب ..





 

صفحة 7 من 11 الأولىالأولى ... 34567891011 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رسول الله في كتب السابقين !( فى كتب الهندوس) د . راغب السرجانى
    بواسطة عبدالرحمن السلفى في المنتدى البشارات الحق بمبعث سيد الخلق
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 2012-06-09, 02:30 PM
  2. قصة الحروب الصليبية مع د. راغب السرجاني
    بواسطة kholio5 في المنتدى ثمار النصرانية
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 2011-04-16, 01:17 PM
  3. عناية الاسلام بالنفس الانسانية : د. راغب السرجانى
    بواسطة بن الإسلام في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2011-01-19, 11:26 AM
  4. جميع مقالات الدكتور راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى القسم الإسلامي العام
    مشاركات: 95
    آخر مشاركة: 2010-10-31, 01:37 PM
  5. سلسلة فتح مصر بقلم د. راغب السرجاني
    بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى التاريخ
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 2010-10-20, 09:39 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML