ثم اختلفوا: فقالت «اليعقوبية» - أتباع يعقوب البرادعي، ولقب بذلك لأن لباسه كان من خرق برادع الدواب يرقع بعضها ببعض، ويلبسها، إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: أحداهما طبيعة الناسوت، والأخرى طبيعة اللاهوت، وإن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا، فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين.
وقالوا: إن مريم ولدت الله وإن الله سبحانه قبض عليه وصلب وسمر ومات ودفن ثم عاش بعد ذلك.
وقالت الملكية، وهم الروم نسبة إلى دين الملك، لا إلى رجل يدعى ملكانيا، هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك، إن الابن الأزلي الذي هو الكلمة تجسدت من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس وركبت في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانا بالجسد والنفس اللذين هما من جوهر الناس إلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس، مثل إبراهيم وموسى وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللاهوت، كما لم يزل، وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه ابن مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود.
وقالوا: إن مريم ولدت المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، وقالوا: إن الذي مات هو الذي ولدته مريم وهو الذي وقع عليه الصلب والتسمير والصفع والربط بالحبال، واللاهوت لم يمت ولم يألم ولم يدفن.
قالوا: وهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله المشيئتان: مشيئة اللاهوت، ومشيئة الناسوت.
فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من أن مريم ولدت الإله، إلا أنهم بزعمهم نزهوا الإله عن الموت.
وإذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية مع تنازعهم وتناقضهم فيه، فاليعقوبية أطرد لكفرهم لفظا ومعنى.
وأما النسطورية فذهبوا إلى القول بأن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بذلك إلها وإنسانا، فهو الإله بجوهر اللاهوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان، وهو إنسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان.
وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط.
وكل هذه الفرق استنكفت أن يكون المسيح عبد الله، وهو لم يستنكف من ذلك، ورغبت به عن عبودية الله، وهو لم يرغب عنها؛ بل أعلى منازل العبودية عبودية الله، ومحمد وإبراهيم خير منه وأعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية، فالله رضيه أن يكون له عبدا، فلم ترض المثلثة بذلك.
وقالت الأريوسية منهم وهم أتباع أريوس: إن المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مربوب مخلوق مصنوع. وكان النجاشي على هذا المذهب.
وإذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتلة، وفعلوا به ما يفعل بمن سب المسيح وشتمه أعظم سب.
والكل من تلك الفرق الثلاث، عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها؛ بل يقولون: إن الله تخطى مريم كما يتخطى الرجل المرأة وأحبلها فولدت له ابنا، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم. فهم يقولون الذي تدندنون حوله، نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين، وذلك للتهويل والتطويل، وهم يصرحون بأن مريم والدة الإله، والله أبوه، وهو الابن.
فهذا الزوج، والزوجة، والولد (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، إن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيمة فردا).
فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود، والغالين فيه من النصارى، فبعث الله محمدا ، وبما أزال الشبهة في أمره وكشف الغمة وبرأ المسيح وأمه من افتراء اليهود وبهتهم وكذبهم عليهما، ونزه رب العالمين وخالق المسيح وأمه مما افتراه عليه النصارى الذين سبوه أعظم السب. فأنزل المسيح أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها وهي أشرف منازله، فآمن به وصدقه وشهد له بأنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول الطاهرة الصديقة، سيدة نساء العالمين في زمانها، وقرر معجزات المسيح وآياته، وأخبر عن ربه تعالى بتخليد من كفر بالمسيح في النار وأن ربه تعالى أكرم عبده ورسوله، ونزهه وصانه أن ينال النصارى منه ما زعمته النصارى أنهم نالوه منه.بل رفعه إليه مؤيدا منصورا لم يشكه أعداؤه بشوكة ولا نالته أيديهم بأذى، فرفعه إليه وأسكنه سماءه، وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال وأتباعه ثم يكسر به الصليب ويقتل به الخنزير ويعلي به الإسلام وينصر به ملة أخيه وأولى الناس به محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام.
فإذا وضع هذا القول في المسيح في كفة وقول النصارى، تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل ما بينهما من التفاوت وأن تفاوتهما كتفاوت ما بينه وبين قول اليهود فيه، وبالله التوفيق.
فلولا محمد لما عرفنا أن المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله وعبده وكلمته وروحه موجود أصلا؛ فإن هذا المسيح الذي أثبته اليهود، من شرار خلق الله، ليس بمسيح الهدى، والمسيح الذي أثبته النصارى من أبطل الباطل لا يمكن وجوده في عقل ولا فطرة ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة.
ولو صح وجوده لبطلت أدلة العقول، ولم يبق لأحد ثقة بمعقول أصلا؛ فإن استحالة وجوده فوق استحالة جميع المحالات ولو صح ما يقول لبطل العالم واضمحلت السموات والأرض، وعدمت الملائكة والعرش والكرسي ولم يكن بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار.
ولا يستعجب من إطباق أمة الضلال الذين شهد الله أنهم أضل من الأنعام على ذلك، فكل باطل في الوجود ينسب إلى أمة من الأمم فإنها مطبقة عليه، وقد تقدم ذكر إطباق الأمم العظيمة التي لا يحصيها إلا الله على الكفر والضلال، معاينة الآيات البينات، فللنصارى أسوة بإخوانهم من أهل الشرك والضلال.hojght tvril hglai,vm td aowdm hglsdp
المفضلات