بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله
اللهم افتح علينا حكمتك و انشر علينا رحمتك يا ذا الجلال و الإكرام
و صل اللهم و سلم على حبيبنا و نبينا محمد و على آله و صحبه اجمعين..
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله..
اللهم افتح علينا حكمتك و انشر علينا رحمتك يا ذا الجلال و الاكرام.. و صل اللهم و سلم على حبيبنا و نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين..
وقفنا في المرة الماضية مع النبي طفلا.. يتيما.. يفقد الأحباب واحدا بعد اللآخر..
و هاهو يفقد حبيبا جديدا..
ها هو .. الطفل ذو الأعوام الثمانية.. واقف خلف سرير جده عبد المطلب و هو يحتضر..
هذا الجد الذي شغف به شغفا شديدا.. حتى أنه كان يغار عليه حتى من عينيه.. كان إذا قال "ائتوني بابني.. أين ابني".. و لم يحدد أي أبناءه يقصد.. عرفوا أنه يبحث عن محمد..
كان يتأمل محمدا قرة عينه و قلبه و هو طفل يصر أن يجلس في مجلس جده عند الكعبة بين كبار القوم.. و يمنع أعمامه أن يمنعوه.. و يضحك قائلا.. دعوا ابني فإنه يأسس ملكاً..
هاهو عبد المطلب.. على فراش الموت.. يبكي بكاءا شديدا.. لأنه لن يستطيع أن يضم محمدا الى صدره مرة أخرى..
يبكي.. و هو الذي لم تطرف له عين أمام جيش أبرهة الزاحف الى مكة..
و يحن أبو طالب.. عم النبي إلى هذا الطفل الحزن القابع خلف سرير جده.. و يرق لحاله.. و كربه.. و بثه.. فيحمله إلى بيته.. و يرعاه كأنه من صلبه.. ينسيه وحدته و يتمه بمعاملة تذوب رحمة و حناناً.. فكان صورة من أبيه "عبد المطلب" في جميع ما كان يولي محمدا من حب و عطف و رعاية..
و تبدأ مرحلة جديدة من حياة محمد .. يستمر فيها صنع الله لشخصيته..
مرحلة لا نجد لها كثير تفاصيل في كتب التاريخ..و لكننا نجد ومضات مضيئة.. إن دلت على شئ فتدل على أن ما لم نعرفه عن هذه الفترة أكثر وضاءة مما عرفناه..
فهاهو .. يتيم في بيت عمه.. حيي بين أولاد عمه لا تسبق يده أيديهم إلى طعام..
و هاهو يعمل في أشقى المهن و أبسطها.. رعي الغنم.. ليعين عمه بدلا من أن يكون عالة عليه..
و هاهو يلمح رسالات القدر الذي يحفظه من الشرور و الدنايا.. فيبتعد عنها ولا يقربها.. عندما حاول أن يحضر عرسا من أعراس قريش.. فغلبه النوم.. فلم يعد اليها بعدها أبدا..
و هاهو يغشى مجالس قريش منصتا و متفاعلا مع ما يسمع كما كان يحب أن يغشى مجالس جده و هو طفل صغير.. حتى أن أحد من رآه من الأعراب ليستغرب و يقول "ما أعجب شأن هذا الغلام.. انه اذا لم يعجبه قول نظر اليكم نظرة لو كانت سهاما لخرقت اجسادكم.. و لو طاب له القول نظر نظرة والله لو كانت ريحا لأنشرت أمواتكم"
و هاهو يشارك كفرد فعال في المجتمع.. يشارك في أحلافهم و اتفاقياتهم.. و يشارك في حربهم إن لم تكن ظالمة..
و هاهو ينتزع من قلوب قريش لقبا طغى على كل اسم هو له.. الأمين.. انتزعه من قلوبهم قبل أن يبذلوه بألسنتهم.. فقد جربوه و خبروه.. و الأمانة لا توهب إلا بعد التجارب..
و هاهو يجمع عليه أهل قريش كلهم و يرضون بحكمه الذي لولاه لقامت حرب أهلية طاحنة حول شرف وضع الحجر الأسود في مكانه بعد إعادة بناء الكعبة..
هاهو محمد.. في سني شبابه.. التي ذكر الله بها من كذبوه من أهل قريش قائلا في كتابه العزيز "...فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " (يونس:16)
كيف يُصنع النبي؟.. و كيف يُربى الداعية؟..
سؤال حسيت بأهميته جدا في السنين الأخيرة.. خصوصا بعد ظاهرة ما يسمى بـ "الدعاة الجدد" و ما تلاها من ظواهر أخرى كـ "الفضائيات الدينية" و "دعاة الفضائيات"..
الظواهر اللي خلتني محتار.. لماذا أسمع ضجيجا ولا أرى طحنا؟.. لماذا أصبح حضور كثير من الدعاة لا يختلف كثيرا عن غيابهم؟
هل الداعية عبارة عن كاريزما و لباقة في الحديث و حسن هندام مع قليل أو كثير من المعلومات الدينية؟
اجابة السؤال ده في الأربعين سنة اللي قبل بعثة النبي.. المتأمل فيها يعرف ليه ما أكثر الإبل التي لا نجد فيها راحلة في زمننا هذا.. ليه الأصوات كتير.. و اللي بيتكلموا كتير.. ولا أثر لذلك على أرض الواقع بين الناس سوى في المظهر فقط.. لكن النفوس و الأخلاق مازالت كما هي..
لا تنجح الدعوة ولا تؤثر في المجتمعات.. الا اذا تربى الداعية أولا من داخله.. قبل أن يصبغ خارجه بصبغة الالتزام..
فهاهو النبي... رسول الله.. و الناس مؤمنون به بالفعل.. و يمتلك كل مقومات التأثير في الناس و تأييد الله عز و جل له.. ماذا قال الله له؟.. انه مع كل هذه المقومات.. " وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ"..
سنه من سنن الله في الكون.. و سبحان الله.. المتأمل في واقعنا.. يجد أن الرموز في حياتنا أو النجوم أو الناجحين.. تعلو أقدارهم و حظوظهم في قلوب الناس و مدى تأثيرهم بهذه الخاصية.. بمدى قدرتهم على التوافق مع الجميع و اكتساب الأصدقاء.. و ان كان ظاهريا فقط..
انتبهت الى هذه النقطة مرة في لقاء لي مع أحد الشباب المميزين ممن حققوا الكثير من الانجازات في حياتهم في سن صغيرة.. و لفت نظري قدرته العجيبة على التآلف مع كل الناس الذين مروا بنا.. مع عامل النظافة في الشارع.. مع الجرسونات في المطعم.. مع الكاشير في المقهى.. لم يترك انسانا مر بنا الا و فتح حوارا و تضاحك معه .. بالرغم من انه غالبا لن يراهم مرة أخرى و ان قابلهم لن يذكرهم ولن يذكر أسماءهم..
مبدأيا لا أحب هذا الأسلوب ان كان يستخدم كـ"تكنيك" لما فيه من تلاعب بمشاعر الناس و اعطاء مظهر كاذب للاهتمام بهم على غير الواقع..
و لكن الشاهد هو.. أن المحصلة النهائية اني وجدت أن أقوى مقومات تأثير الفرد فيمن حوله.. هو قدرته على التآلف معهم و تكوين علاقات اجتماعية لا يشوبها التصادم و الاختلاف حتى ولو اختلفت الآراء و القناعات..
"وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ"..
لذا.. نحتاج أن نتأمل و نرى.. كيف تشكلت شخصية النبي في الفترة الأولى من حياته.. طفلا.. و صبيا.. و شاباً.. كيف أثر في مجتمعه و تأثر به.. كيف رباه الله.. كيف صنعه على عينه.. كي نفهم أسرار تصرفاته بعد ذلك.. نفهم لماذا عاقب.. لماذا عفى.. لماذا سكت.. لماذا تكلم..
أول ملمح نراه في حياة النبي قبل البعثة.. هو "اليتم".. و هو ملمح عجيب لمن يتأمله..
يذكرنا و يلفت نظرنا.. أن موسى عليه السلام.. ربي يتيما كذلك.. بدون أب... عيسى عليه السلام كذلك.. لم يكن له أب.. فما سر هذا اليتم؟
تجد أن اليتم يحدث في النفس انكسارا..
و سبحان الله.. تلاحظ هذا في الأطفال.. الطفل عندما يخاف من شئ.. لا يهرب منه.. بل يجري و يهرع إلى أبويه.. حتى ولو كانوا في نفس اتجاه الخطر الذي يخاف منه..
بل تجد الطفل إن عاقبه أبوه أو أمه بضربه مثلا.. لا يجري بعيدا عنهما.. بل يبكي في أحضانهم.. و هم ذاتهم سبب بكاءه عندما عاقبوه..
فإلى من يجري اليتيم و يهرع؟ وقد فقد هذا الحضن؟
فينشأ هذا الانكسار.. حتى ولو عطف عليه الآخرون و أكرموه.. لأنه يعلم في النهاية أنهم ليسوا أهله.. لا يمكن أن يعوضوه حضن الأب و الأم..
هذا الانكسار.. لو تغذى بشئ من القهر و الغلظة و القسوة.. لو عومل اليتيم بهذه الطريقة.. ينشأ إنسانا شديد الحقد و الحسد و البغضاء و النقمة على المجتمع الذي يعيش فيه.. معادلة غالبا ما تنتج "مجرماً" لا يتورع عن تخريب المجتمع الذي يعيش فيه ولا يرقب فيه إلا ولا ذمة..
أما إذا قوبل هذا الانكسار بالرحمة و الحنان.. يحدث عجباً.. ينتج انسانا يفيض رحمة و سماحة و تواضعاً و خلقاً سهلا طيبا.. منكسرا الى الله عز و جل..
لذلك لا نستغرب أبدا للأهمية الشديدة التي أولاها الله سبحانه و تعالى للأيتام.. و تجد الآيات تنهمر توصي المسلمين باليتامى..و تحذر أشد الحذر من الاساءة اليهم أو أكل حقوقهم..
و لنتأمل مثالا لنعلم مدى الأهمية التي أولاها الاسلام لهذه المسألة.. تجد في سورة الانسان مثلا قوله تعالى " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ".. ما جزاءهم؟.. تجد الآيات بعدها تنهمر انهمارا في وصف النعيم الذي استحقه من أظعموا اليتيم و أكرموه..
" فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا .. وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا .. مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا .. وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا .. وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا .. قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا .. وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلا .. عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا .. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا .. وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا .. عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا .. إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا "
عد كده أنواع النعيم؟..
آيات تهز القلب هزا.. تشعر كأنك في الجنة بالفعل و أنت تقرأها.. لماذا؟.. "و يطعمون الطعام"..
و في المقابل تجد آيات ينخلع لها القلب.. في وصف حال من يسئ إلى اليتامى.." كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ".. فماذا كانت النتيجة؟
" كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا .. وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا .. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى .. يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي .. فَيَوْمَئِذٍ لّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ .. وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ "
و تجد أيضا أن الله سبحانه و تعالى يخوفك على أبنائك اذا تركتهم يتامى.. من أجل أن تبر يتامى اللآخرين.. فيقول :
" وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا .. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا ..إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا .." "سورة النساء"
و هكذا.. تجد أن الاسلام يبني مجتمعا قائما لليتامى بالقسط..
أما يتم النبي.. فكان عجباً.. قلنا أن انكسار اليتم اذا وجد رحمة فهو يبني شخصية الانسان على الرحمة و الخلق الكريم.. و اذا وجد قسوة و شدة أفسد شخصية الانسان..
فما الذي حدث مع النبي في يتمه؟.. اذا تأملنا هذا الملمح.. تذوقنا حلاوة قول الله تعالى "ألم يجدك يتيماً فآوى".. هل تعرفون أكرم أو أرحم من الله؟.. الله سبحانه و تعالى هو من آواه.. و ربناه.. اذا تأملنا هذا المعنى.. فهمنا وصف الله سبحانه و تعالى للنبي بأنه على خلقٍ عظيم..
كيف ربنا الله و آواه؟
تجد أن النبي في طفولته عرف الكرم يصب اليه صباً.. بالرغم من تنقله من يد الى يد أخرى ترعاه.. من يد امه الى حليمة ثم الى امه مرة أخرى ثم الى جده ثم الى عمه.. تغيرت البيوت و تغير الأشخاص.. و لكن الكرم و الحب واحد.. لأن من يؤيه في الحقيقة.. هو الله سبحانه و تعالى.. و البشر ماهم الا مجرد وسائل اظهار هذا الكرم و الرحمة..
كيف انعكس هذا على شخصية النبي؟
هل أفسده الكرم الشديد ممن حوله فتحول الى طفل مدلل؟. أبدا.. بل نجده و انكسار اليتم أصيل فيه.. نجده في بيت عمه.. بين أولاد عمه و هم على مائدة الطعام.. الأولاد من حوله ينتهبون الطعام و هو لا ينتهب معهم.. ولا تسبق يده أيديهم.. بل يتركهم حتى يأكلوا و يفرغوا.. لذا كان أبو طالب يرعى بنفسه مسألة طعامه حتى يتأكد بنفسه أنه قد أكل.. انما محمد .. لا يمد يده.. ولا ينتهب ما أمامه.. فنجده من صغره قد رُزق بوقار المنكسر المُكرَم المتأدب.. فنشأت فيه توليفة عجيبة من الأدب و الخلق الرفيع..
ثم.. كيف قابل هذا الكرم و الرحمة و الحب ممن حوله؟.. بتحمل المسئولية..
فيكون مقابل الاكرام أن يكرم هو أيضا من حوله.. لا أن يتدلل عليهم..
فيعمل محمد الطفل.. ذو الثمان سنوات في أحد أبسط المهن.. رعي الغنم.. يرعاها لأهل مكة على أجر زهيد.. يساعد به عمه في نفقة بيته..
و نقف وقفة مع قضية "رعي الغنم".. و هي نقطة دائما ما نمر عليها مرور الكرام بالرغم من أهميتها.. فلكل انسان حظ و نصيب من مهنته.. العمل بيؤثر بشكل جذري على الشخصية.. فما كان أثر العمل برعي الغنم على شخصية محمد و هو طفل صغير مازالت شخصيته في طور البناء و النمو؟
تأمل معي و تخيل.. هو طفل يتيم.. و قلت من قبل.. الطفل اذا شعر بالخوف.. يبحث عن أبويه و يجري في اتجاههما حتى ولو كانا في نفس اتجاه الخطر.. يبحث عنهم بعينيه في وجوه من حوله..
العجيب.. أن الغنم من الحيوانات التي لها نفس السلوك.. عند الشعور بالخطر.. تجري الى الراعي.. أو تنظر اليه.. نظرة يعرفها محمد اليتيم جيدا و يستشعرها.. فكان هذا يصب الرحمة صبا في قلبه.. فهو يرحم الغنم التي يرعاها تماما كما رأى من رحمة و كرم من هم من حوله..
و تعلم كيف يقود. و كيف يسوس أمة..
من رعي الغنم؟؟؟ كيف؟
تأمل معي.. لو أن غنمة من القطيع شردت و بعدت.. فذهبت خلفها و أعدتها.. فشردت مرة أخرى.. فذهبت و أعدتها.. و هكذا ظلت كلما تعيدها تشرد.. مرة.. اثنتين.. خمسة.. عشرين مرة.. كيف تتصرف؟
هل تغتاظ منها فتتركها و ترحل بباقي القطيع؟.. ينتهي القطيع غنمة وراء الأخرى و يهلك رأس مالك..
أتضربها أو تقتلها؟.. نفس النتيجة..
أتناقشها بالحجة و تقنعها بالعقل؟.. لا ينفع..
ما الحل؟.. الحل الوحيد هو أنها لو شردت مهما شردت.. تصبر عليها و تذهب وراءها فتعيدها برفق..
هكذا تعلم النبي الرفق في معاملة الناس و الصبر عليهم.. لذا لا تعجب أبدا أنه كان كما وصفه الله تعالى " حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"
أيضا.. كما رأيناه يجلس في مجلس جده.. مع علية القوم.. نجده يعمل مع رعاة الغنم الضعفاء.. يعيش معهم.. يرى انكسارهم.. يرى كيف يخافون من سادتهم.. و يستشعر وطأة الظلم عليهم اذا ظلمهم أحد.. إذ صار منهم..
يعمل معهم.. و يعيش بينهم.. يستشعر ضعفهم..
نقطة أخرى نلمحها في هذه الفترة.. و هي عصمة الله له عن الدنايا.. حمايته من أن تنزلق قدمه و هو من يصنعه الله على عينه و يربيه.. وقايته من دنايا المجتمع من حوله.. من الجاهلية المحيطة به.. و الجاهلية ليست فقط مجرد عبادة أصنام كما يعتقد البعض.. بل هي كل مايترتب على "الجهل بالله".. كل الأخلاق التي تظهر أعراضها على من لا يعرف ربه ولا يرتبط به..
يقيه الله سبحانه و تعالى.. في مجتمع يسجد فيه الناس لحجارة نحتوها بايديهم.. يطوفون بالبيت الحرام عرايا.. يعاقرون الخمر.. مجتمع يحكمه قانون الغاب.. يأخذ القوي فيه ما يشاء و يفعل ما يشاء بلا حساب.. مجتمع الزنا فيه عادي و مقنن.. القمار فيه عادي و مقنن.. الى غير هذا من مظاهر الجهل بالله..
و أهم من هذه الوقاية.. فهم النبيعن ربه.. تحدث له الحادثة.. فيفهم.. ولا يعود أبدا الى ما كان منه .. فنجده يروي لنا و يحكي.. كيف هم مرة أن يحضر عرساً من أعراس القوم.. و فيه مافيه من فحش و معاقرة خمر.. فيسمر كما يسمر الغلمان في قريش.. فيجد انه كل ما هم بذلك.. غلبه النوم.. فلم يدر بنفسه الا و حرارة الشمس توقظه في اليوم التالي.. فلا يعود الى ذلك أبدا..
لا يعود الى ماكان منه.. و لكنه في نفس الوقت ليس منعزلا عن المجتمع.. ليس منطويا.. مهما كان المجتمع فاسدا..
فلا يمكن أن يكلف النبيبالرسالة و هو لم يخبُر المجتمع الذي يعيش فيه و لم يعرفه و يعرف أعرافه..
ولا يمكن أن يعيش النبي 40 سنة في عزلة عن مجتمعه.. ثم يكلف فجأة بتحمل مسئولية دعوة هذا المجتمع..
بل لا بد أن تبنى و تشكل شخصيته و لا بد أن يعرف المجتمع و أن يعرفه المجتمع جيدا..
بالاضافة الى أن من يعيش في عزلة عن المجتمع.. يتحول مع الوقت إلى إنسان عاجز.. لا ينفع نفسه ولا ينفع المجتمع.. فهو لا يعرف المجتمع ولا يعرف أعرافه ولا يعرف كيف يعيش فيه..
أما النموذج الذي يرتضيه الله.. هو النموذج الذي عاشه النبي ووصفه في الحديث الشريف :"المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"
يخالط الناس.. الناس جميعا.. لا المؤمنين و الملتزمين فقط..
يعيش بين الناس.. يصلح بينهم.. يخدمهم.. يسعى في مصالحهم.. يسعى اليهم و يبذل لهم النصح و الموعظة بالحسنى.. هذا فرد ينفع نفسه و ينفع مجتمعه.. فرد فعال..
لذا.. ننظر الى حياة النبيفي صباه و شبابه.. فتجده يخالط الناس.. و لكن العجيب.. أنه بينهم فقط في معالي الأمور وحدها.. و غائب عن الدنايا..
فنجده يغشى مجالس قريش و ندواتهم و يتفاعل معهم.. حتى و هو طفل.. و تخيل أثر ذلك عليه.. طفل يجلس كثيرا ليسمع حوار الكبار.. فيتحول الى شخص ذو عقلية راجحة..لأنه يتعلم الكثير من خبرة من هم أكبر منه في السن..
و نجده يعرض عن المشاركة في حرب الفجار إذ كان فيها انتهاك لحرمة الأشهر الحرم و انتهاك لحرمات القبائل.. حرب كان الطرفان فيها على باطل.. و ان كانت قريش أقرب الى الحق.. فنجده يعرض عن المشاركة في الحرب في الأيام الثلاثة الأولى.. و في اليوم الرابع بدأت الكفة تميل لصالح الفئة الأكثر ظلماً.. للظالمين على قريش.. و بدا الأمر أن المعركة ستنتهي ضد المظلوم أكثر لصالح الظالم الأشد.. و هو النفس التي تفيض رحمة.. أفلا يرحم قومه؟. فاذا به في اليوم الرابع بشارك معهم بحمل الدرع ليصد بها الأسهم أن تصل إلى أعمامه و هم في صدر الجيش القرشي.. أو يجمع السهام التي سقطت و تناثرت في أرض المعركة .. لكنه لا أمسك سيفا يضرب به.. ولا أمسك بسهم يرميه.. ولا طعن بحربة.. ولا شارك في فجورهم بأي شكل من الأشكال..
شئ عجيب.. سنه الآن 15 سنه.. و مع ذلك.. لا يرتكب فجورا من فجور القوم.. و في نفس الوقت لا يتركهم لينتصر الأظلم على خصمه.
و نجده ممن شاركوا في "حلف الفضول".. عمره الآن 20 عاما.. يشارك في حلف عقدته العرب لنصرة المظلوم.. في مجتمع يأخذ فيه القوي ما يريد بغير حساب..
يشارك في الحلف.. و هو شاب صغير السن.. بين كبراء قريش و أشياخها..
و نجده محط اجماع قريش.. عندما اختلفوا على من ذا الذي ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه بعد أن أعادوا بناءها.. و كان هو ممن شاركوا في البناء..
اختلفوا.. و كادت أن تقوم بينهم حرب أهلية.. و ما أهون أسباب الحروب التي تطول عشرات السنين عند العرب.. حروب تستمر لأجيال متتالية لسبب بسيط..
فقالوا نحكم بيننا أول من يدخل من باب الحرم.. و كان أول الداخلين محمد .. فقالوا جميعا "الأمين .. ارتضيناه حكماً"..
قصة نسمعها كثيرا ولا ننتبه الى عمق مغزاها.. فلنقف معها ، نتأمل سويا ..
في ظاهر الأمر.. أن النبي كان أول من دخل عليهم قدَراً.. مصادفة..و المصادفة لون من ألوان القدر.. ولا فضل له في ذلك.. و الحقيقة أن المسألة أكبر من ذلك..
المسألة .. هي أنه من ذا الذي قال بأن العرب ينزلون على رأي من اتفقوا بتحكيمه ان خالف هواهم؟ ألم تقم بينهم حرب داحس و الغبراء 70 سنة لمجرد أنهم رفضوا أن ينزلوا على رأي لجنة التحكيم في سباق بين الإبل؟.. اللجنة تقول بأن بعير أو ناقة فلان هو أو هي من فاز بالسباق.. و أحد المشاركين يرى أنه ظلم و ناقته أو بعيره هو الذي سبق.. فقامت الحرب التي استمرت لثلاث أجيال متتالية!.. هؤلاء.. أكانوا ينزلون على حكم محمد لمجرد أنه تصادف أنه أول من يدخل عليهم من باب الحرم؟؟؟
ثم نقطة أخرى عجيبة.. و مهمة.. و هي أن النبي لما حكم بينهم ماذا فعل؟.. خلع عباءته هو.. و هو من فرشها.. و هو من أمسك بالحجر الأسود ووضعه على العباءة.. و طلب منهم أن يمسك كل منهم بطرف من العباءة و يحملوها سويا.. و عند موضع الحجر الأسود.. أخذه هو ووضعه بنفسه...! .. أليس محمد من بني عبد المطلب؟.. و أليس بنو عبد المطلب ممن شاركوا في بناء الكعبة و أيضا ممن اختلفوا على من ينال شرف وضع الحجر الأسود في مكانه؟ أليس بهذه الطريقة بنو عبد المطلب هم من نالوا هذا الشرف في النهاية؟.. هل فات قريش ذلك؟ لا أظن..
اذن ما السبب؟ لماذا رفضوا أن يقوم بهذه المهمة أي أحد منهم.. ووافقوا على محمد تحديدا..؟
السبب.. و السر.. فاض من قلوبهم الى ألسنتهم.. لأنه "الأمين"..لأنهم يعلمون أنه لا يطلب شرف الدنيا.. أنه لا يحمل أجندة أو أهدافا شخصية خفية.. ليقينهم.. أنه لا يطمع فيهم.. ولا في ما في أيديهم.. انسان لم يؤثر عنه أنه اختلف مع أحد قط أو جادل أحدا قط لهدف في نفسه..
و هنا لنا وقفة خطيرة جدا.. لماذا تفرقوا على الناس و اجتمعوا عليه؟.. لأنهم يعرفونه.. كيف يعرفونه؟.. لأنه شخص فعال في المجتمع متفاعل معه و ليس منعزلا عنه.. لم يكن شخصا غافلا يقبع في بيته ولا دور له فيما يدور حوله..
كما أنهم كانوا يعلمون يقينا أمانته.. فقد كانت أماناتهم عنده حتى يوم الهجرة.. يحاربونه و يجتمعون على قتله و أماناته عندهم.. لم؟.. لأنهم يعلمون يقينا أنه لا يراهم غنيمة مستباحة.. هذا هو الاسلام.. أن يعلم عدوك أنك لا تراه غنيمة مستباحة لأنك صاحب مبادئ.. أن يرى عدوك أن أمنه بين يديك أنت.. لأنك صاحب عقيدة.. تحب الخير للناس.. تكره من الناس ذنوبهم و أخطاءهم ولا تكرههم لذواتهم.. لذا لا نعجب أبدا حين نرى النبي يدعوا و يقول "اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين اليك"و يقصد عمر بن الخطاب و عمرو بن هشام "أبو جهل" و هم يومها أعدى أعداء الإسلام.. لم يدع عليهم.. ليس هذا هو الاسلام.. بل النفس الأمارة بالسوء هي التي تنازعنا في الدعاء على الناس.. أما الاسلام.. فيجعل عدوك يشعر بمنتهى الأمن و هو بين يديك أنت.. الاسلام .. عاطفة تأسر من أمامك في أنس منك.. و هذا شئ سنراه مرارا و تكرارا في رحلتنا مع النبي.. ليس الاسلام ولا الالتزام أبدا أن نتسبب في أن يكره الناس الدين لأنهم يكرهوننا.. بأن نكون حجر عثرة أمام التزام الآخرين.. أن نكون على حال استعاذ منها سيدنا ابراهيم في قوله تعالى "رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "
بل يجب أن يطمع الناس دائما في كرم المسلم.. أن تكون صاحب الفضل دائماً.. ولا تمل الفضل.. ولا تمنن تستكثر.. أنفق و أعطِ و خالق الناس بخلق حسن .. كن كالشجرة.. يرميها الناس بالحجر.. فترميهم بالثمر.. لماذا؟؟ لأنك صاحب دعوة.. لأنك ترجو أن يهديهم الله و تطمع في الأجر من الله سبحانه و تعالى.. لأنك تحب النبيو تقتدي به..
رأينا سويا تلك الفترة الشديدة الأهمية في حياة النبي .. فترة صناعة و بناء الشخصية المحمدية.. فترة جمع الله فيها لرسوله كيف درب كفاءته و فعاليته في المجتمع.. و كيف عرفه بالناس و عرف الناس به.. و كون خصائصه و خصاله النفسية و العملية .. و كيف شكل منه قوة يحترمها الناس جميعا.. يحكم بين الناس فيأتي حكمه صوابا.. يحمل أمانات الناس.. يفضله الغلمان و العبيد على آبائهم.. يفضلون الرق معه على الحرية عند آبائهم و أمهاتهم.. كيف أنه كان يشارك في أمور جامعة.. محمد في ندوات قريش و مجالسهم و حلف الفضول و حرب الفجار. بل يهدم و يبني الكعبة و يحكم مع من يحكم فيها..
و لكن ليس ثمة محمد أبدا في مجلس خمر ولا في خيمة زنا ولا في لهو صبيان ولا في عرس حتى و هو صغير السن.. محمد موجود مع ضعفة الغلمان في صفاء الجو و هو يرعى الغنم.. يتعلم معهم الرحمة يتعلم الرفق.. لكنه ليس معهم اذا اتجهوا الى الفحش من القول أو الى الفساد منه. رجل أعده الله تعالى اعدادا... حماه حماية.. ينشأ مكرما.. يتيما ضعيفا منكسرا لكنه مكرم فتتفجر عنده الرحمة.. و ينشأ متحملا للمسئولية لا مدللاً.. و يسافر ليعمل في التجارة الخارجية في شمال الجزيرة العربية و يمكث في سوق مكة ليعمل في التجارة الداخلية.. فيتعلم من بقائه في السوق قوانين السوق الواحدة الثابتة و المترددين عليه و الوافدين و القبائل و الناس.. و يتعلم من السفر أخلاق السفر و كيف يكون غريبا في بيوت الناس لأنه غدا يكون غريبا في يثرب و هو يعيش حياة المهاجر..
كانت هذه طفولة و صبا و شباب النبي ..
و حتى نلتقي.. لا تنسونا من صالح دعائكم..
منقول,gjwku ugn udkn
المفضلات