القائلون بإجازة الغناء? :?
تلك هي الأدلة المبيحة للغناء? من نصوص الإسلام و قواعده ?،? فيها الكفاية? كل الكفاية و لو لم يقل بموجبها قائل ،? و لم يذهب إلى ذلك فقيه ،? فكيف و قد قال بموجبها الكثيرون من صحابة? و تابعين و أتباع و فقهاء? ؟?
و حسبنا أن أهل المدينة? - على ورعهم – و الظاهرية – على حرفيتهم و تمسكهم بظواهر النصوص – و الصوفية – على تشددهم و أخذهم بالعزائم دون الرخص – روي عنهم إباحة الغناء .
قال الإمام الشوكاني في « نيل الأوطار » : « ذهب أهل المدينة و من وافقهم من علماء? الظاهر ،? و جماعة الصوفية? ، إلى الترخيص في الغناء? ، و لو مع العود و البراع .
و حكى الأستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع : أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأساً ، ويصوغ الألحان لجواريه ، ويسمعها منهن على أوتاره . و كان ذلك في زمن أمير المؤمنين على رضي الله عنه .
و حكى الأستاذ المذكور مثل ذلك أيضاً عن القاضي شريح ،?وسعيد بن المسيب ، وعطاء بن أبي رباح ، و الزهري ، و الشعبي . و قال إمام الحرمين في النهاية ،? و ابن أبي الدنيا : نقل الأثبات من المؤرخين : أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات ،? و أن ابن عمر دخل عليه و إلى جنبه عود ، فقال : ما هذا يا صاحب رسول الله ؟ ! فناوله إياه ،? فتأمله ابن عمر فقال : هذا ميزان شامي ؟ قال لبن الزبير : يوزن به العقول !
و روي الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالة في السماع بسنده إلى ابن سيرين قال : « إن رجلاً قدم المدينة بجوار فنزل على ابن عمر ،? و فيهن جارية تضرب . فجاء رجل فساومه ، فلم يهو فيهن شيئاً ،? قال : انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعاً من هذا . قال : من هو ؟? قال : عبد الله بن جعفر . . فعرضهن عليه ، فأمر جارية منهن ،? فقال لها : خذي العود ،?فأخذته ،? فغنت ، فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر . . . إلى آخر القصة .
و روي صاحب «العقد» العلامة الأديب أبو عمر الأندلسي : أن عبد الله بن عمر دخل على ابن جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ?، ثم قال لا بن عمر : هل ترى بذلك بأساً ؟ قال : لا بأس بهذا .
و حكى الماوردي عن معاوية و عمرو بن العاص : أنهما سمعا العود عند ابن جعفر .
و روي أبو الفرج الأصبهاني : أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره .
و ذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك . و المزهر عند أهل اللغة ) العود .
و ذكر الأدفوي : أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع جواريه قبل الخلافة? . و نقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس ، و نقله ابن قتيبة و صاحب « الإمتاع »? عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم ابن عبد الرحمن الزهري من التابعين . و نقله أبو يعلى الخليلي في « الإرشاد » عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة .
و حكى الروياني عن القفال :? أن مذهب مالك بن أنس أباحة الغناء بالمعازف ، و حكى الأستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود ،? و ذكر أبو طالب المكي في « قوت القلوب » عن شعبة? : أنه سمع طنبوراً في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور .
و حكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفة في « السماع » : أنه لا خلاف بين أهل المدينة? في إباحة العود .
قال ابن النحوي في « العمدة » : و قال ابن طاهر : هو إجماع أهل المدينة? . قال ابن طاهر : و إليه ذهبت الظاهرية قاطبة? . قال الأدفوي : لم يختلف النقلة في نسبتة الضرب إلي إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر ، وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم ( يعني بالجماعة : أصحاب الكتب الستة ، من الصحيحين و السنن ) .
و حكي الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية ، وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن ابن اسحاق الشيرازي ، وحكاه الأسنوي في «المهمات » عن الروياني و الماوردي ، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور ، وحكاه ابن الملقن في «العمدة » عن ابن طاهر ، وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الذين بن عبد السلام ، وحكاه صاحب «الإمتاع » عن أبي بكر بن العربي ، و جزم بالإباحة الأدفوي .
هؤلاء? جميعاً قالوا بتحليل السماع ،? مع آلة من الآلات المعروفة? - أي آلات الموسيقي .
و أما مجرد الغناء? من غير آلة ، فقال الأدفوي في « الإمتاع »?: إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله ، و نقل ابن طاهر إجماع الصحابة و التابعين عليه ، و نقل التاج الفزاري و ابن قتيبة إجماع أهل المدينة عليه ، و قال المارودي : م يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة? المأمور فيها بالعبادة و الذكر .
قال ابن النحوي في «? العمدة » :? و قد روي الغناء و سماعه عن جماعة? من الصحابة و التابعين ، فمن الصاحبة عمر – كما رواه ابن عبد البر و غيره ، و عثمان – كما نقله الماوردي و صاحب البيان و الرافعي ،? و عبد الرحمن بن عوف – كما رواه ابن أبي شيبة? ، و أبو عبيدة بن الجراح – كما أخرجه ابن قتيبة ، و أبو مسعود الأنصاري – كما أخرجه البيهقي ،?و بلال ، و عبد الله بن الأرقم ، و أسامة بن زيد – كما أخرجه البيهقي أيضاً ،?و حمزة? - كما في الصحيح ، و ابن عمر – كما أخرجه ابن طاهر ، و البراء بن مالك – كما أخرجه أبو نعيم ، و عبد الله بن جعفر – كما رواه ابن عبد البر ، و عبد الله بن الزبير – كما نقل أبو طالب المكي ،?و حسان – كما رواه أبو الفرج الأصبهاني ، و عبد الله بن عمرو – كما رواه الزبير بن بكار . و قرظة بن كعب – كما رواه ابن قتيبة ،? و خوات بن جبير ، و رباح بن المعترف – كما أخرجه صاحب الأغاني و المغيرة بن شعبة? - كما حكاه الماوردي ،?عائشة و الربيع – كما في صحيح البخاري و غيره .
و أما التابعون فسعير بن المسيب ،? و سالم بن عبد الله بن عمر ، و ابن حسان ،?و خارجة بن زيد ، و شريح القاضي ، و سعيد بن جبير ، و عامر الشعبي ، و عبد الله ابن أبي عتيق ، و عطاء بن أبي رباح ، و محمد بن شهاب الزهري ، و عمر بن عبد العزيز ، و سعد بن إبراهيم الزهري .
و أما تابعوهم ، فخلق لا يحصون ،? منهم : الأئمة الأربعة ، و ابن عيينة ،? و جمهور الشافعية » . انتهي كلام ابن النحوي . هذا كله ذكره الشوكاني في « نيل الأوطار » ( [69] ) .
قيود و شروط لابد من مراعاتها :
و لا ننسى أن نضيف إلى هذا الحكم : قيوداً لا بد من مراعاتها في سماع الغناء :
1- نؤكد : ما أشرنا إليه أنه ليس كل غناء مباحاً ،? فلا بد أن يكون موضوعة متفقاً مع أدب الإسلام و تعاليمه .
فلا يجوز التغني بقول أبي نواس :
دع عنك لومي ، فإن اللوم إغراء
و داوني بالتي كانت هي الداء !
ولا بقول شوقي :?
رمضان ولي هاتها يا ساقي
مشتاقة تسعى إلى مشتاق
و أخطرمنها قول ايليا ابي ماضي :
جئت لا أعلم من أين , ولكنّي أتيت !
ولقد أبصرت قدامي طريقا , فمشيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي
لست أدري
لأنها تشكيك في أصول الأيمان : المبدأ ،? و المعاد ،?و النبوة . و مثلها : ما عبر عنه بالعامية? في أغنية « من غير ليه » و ليست أكثر من ترجمة من شك أبي ماضي إلى العامية ، ليصبح تأثيرا أوسع دائرة .
و مثل ذلك الأغنية التي تقول : « الدنيا سيجارة و كاس » . فكل هذه مخالفة لتعاليم الإسلام الذي يجعل الخمر رجساً من عمل الشيطان ، ويلعن شارب « الكأس » و عاصرها و بائعها وحملها و كل من أعان فيها بعمل . و التدخين أيضاً آفة ليس وراءها إلا ضرر الجسم و النفس و المال .
و الأغاني التي تمدح الظلمة و الطغاة و الفسقة من الحكام الذين ابتليت بهم أمتنا ، مخالفة لتعاليم الإسلام ،? الذي يلعن الظالمين ، و كل من يعينهم ، بل من يسكت عليهم ،? فكيف بمن يمجدهم ؟!
و الأغنية التي تمجد صاحب العيون الجريئة – أو صاحبة العيون الجريئة – أغنية تخالف أدب الإسلام الذي ينادي كتابه : ( قل لِلُمؤمِنينَ يَقُضواُ مِنُ أَبُصَارِهِمُ . . . . ) ([70] ) ، ( وَقل لِلُمؤُمِنَاتِ يَغُضضُنَ مِنُ أَبُصَارِهِنَ ) ( [71] ) ، و يقول ( صلي الله عليه و آل و سلم ) : « يا علي ؛ لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة » .
2 – ثم إن طريقة الأداء لها أهميتها ، فقد يكون الموضوع لا بأس به و لا غبار عليه ، و لكن طريقة المغني أو المغنية في أدائه بالتكسر في القول ، و تعمر الإثارة ، و القصد إلى إيقاظ الغرائز الهاجعة ، و إغراء? القلوب المرضية – ينقل الأغنية من دائرة الإباحة إلى دائرة الحرمة أو الشبهة أو الكراهة من مثل ما يذاع على الناس و يطلبه المستمعون و المستمعات من الأغاني التي تلح على جانب واحد ، هو جانب الغريزة الجنسية و ما يتصل بها من الحب والغرام ، و إشعالها بكل أساليب الإثارة و التهيج ، و خصوصاً لدى الشباب و الشابات .
إن القرآن يخاطب نساء النبي ( صلي الله عليه و آل و سلم ) فيقول : ( فَلَا تَخُضَعُنَ بِالُقَوُلِ فَيَطُمَعَ الَذِي فِي قَلُبِهِ مَرَض ) ( [72] ) . فكيف إذا كان مع الخصوص في القول الوزن و النغم و التطريب و التأثير .
3- و من ناحية ثالثة يجب ألا يقترن الغناء بشيء محرم ، كشرب الخمر أو التبرج أو الاختلاط الماجن بين الرجال و النساء ، بلا قيود ولا حدود، و هذا هو المألوف في مجالس الغناء?و الطرب من قديم . و هي الصورة الماثلة في الأذهان عندما يذكر الغناء ، و بخاصة غناء الجواري و النساء .
و هذا ما يدل عليه الحديث الذي رواه ابن ماجه و غيره : « ليشربن ناس من أمتي الخمر ، يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف و المغنيات ، يخسف الله بهم الأرض و يجعل منهم القردة و الخنازير » .
و أود أن أنبه هنا على قضية مهمة ،? و هي : أن الاستماع إلى الغناء? في الأزمنة الماضية كان يقتضي حضور مجلس الغناء ، و مخالطة المغنيين و المغنيات و حواشيهم ، و قلما كانت تسلم هذه المجالس من أشياء ينكرها الشرع ، ويكرها الدين .
أما اليوم فيستطيع المرء أن يستمع إلى الأغاني و هو بعيد عن أهلها و مجالسها ،? و هذا لا ريب عنصر مخفف في القضية ،? ويميل بها إلى جانب الإذن و التيسير .
4- الغناء – ككل المباحات – يجب أن يقيد بعدم الإسراف فيه ، و بخاصة الغناء العاطفة ليست حباً فقط ، و الحب لا يختص بالمراء وحرها ، و المرأة ليست جسداً و شهوة لا غير ، لهذا يجب أن نقلل من هذا السيل الغامر من الأغاني العاطفية الغرامية ، و أن يكون لدينا من أغانينا و برامجنا و حياتنا كلها توزيع عادل ، و موازنة مقسطة بين الدين و الدنيا ، و في الدنيا بين حق الفرد و حقوق المجتمع ، و في الفرد بين عقله و عاطفته ،? و في مجال العاطفة بين العواطف الإنسانية كلها من حب و كره و غيره و حماسة و أبوة و أمومة و بنوة و أخوة و صداقة . . . الخ ، فلكل عاطفة حقها .
أما الغلو و الإسراف و المبالغة? في إبراز عاطفة خاصة ، فذلك على حساب العواطف الأخرى ، و على حساب عقل الفرد و روحه و إرادته ، و على حساب المجتمع و خصائصه و مقوماته ،? و على حساب الدين و مثله و توجيهاته .
إن الدين حرم الغلو و الإسراف في كل شيء حتى في العبادة ، فما بالك بالإسراف في اللهو ،? و شغل الوقت به و لو كان مباحاً ؟!
إن هذا دليل على فراغ العقل و القلب من الواجبات الكبيرة ، و الأهداف العظيمة و دليل على إهدار حقوق كثيرة كان يجب أن تأخذ حظها من وقت الإنسان المحدود و عمره القصير ، و ما أصدق و أعمق ما قال ابن المقفع : « ما رأيت إسرافاً إلا و بجانبه حق مضيع » ، و في الحديث :? « لا يكون العاقل ظاعناً إلا لثلاث : مرمة لمعاش ،? أو تزود لمعاد ،?أو لذة في غير محرم » ،? فلنقسم أوقاتنا بين هذه الثلاثة بالقسط ، و لنعلم أن الله سائل كل إنسان عن عمره :?فيم أفناه ،? و عن شبابه : فيم أبلاه ؟
5- و بعد هذا الإيضاح تبقى هناك أشياء يكن كل مستمع فيها فقيه نقسه و مفتيها ،? فإذا كان الغناء أو نوع خاص منه يستثير غريزة ،? و يغريه بالفتنة ،? و يسبح به في شطحات الخيال ،? و يطغى فيه الجانب الحيواني على? الجانب الروحاني ،? فعليه أن يتجنبه حينئذ ?، و يسد الباب الذي تهب منه رياح الفتنة على قلبه و دينه و خلقه ، فيستريح و يريح .
* * *
المفضلات