أولاً: الفقه العمرى فى الاستخلاف:
استمر اهتمام الفاروق بوحدة الأمة ومستقبلها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره.([1]) وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلا ملموسًا, ومعلما واضحا على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحدا بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر مليًّا وقرر أن يسلك مسلكا آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مُقِرٌّ بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادرا وخصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولا وفعلا إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده. والصديق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأفضل من يحمل المسئولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر([2])، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، وقد حصر ستة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون، وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس، والمرجح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد.([3]) وهذا بيان ما أُجْمِل في الفقرات السابقة:
1- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:
أما العدد فهو ستة، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعا. وترك سعيد بن زيد وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي([4]). وكان عمر t حريصا على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة.([5])
2- طريقة اختيار الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيرا فقط وليس له من الأمر شيء، ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي، وقال له: أنت أمير الصلاة في هذه الأيام الثلاثة حتى لا يولي إمامةَ الصلاة أحدا من الستة فيصبح هذا ترشيحا من عمر له بالخلافة.([6]) وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات([7]).
3- مدة الانتخابات أو المشاورة:
حددها الفاروق بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها، فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير.([8])
4- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
أخرج ابن سعد بإسناد رجاله ثقات أن عمر t قال لصهيب: صلِّ بالناس ثلاثا وليخلُ هؤلاء الرهط في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه.([9]) فعمر t أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط وشق عصا المسلمين ويفرق بينهم عملا بقوله: «من أتاكم وأمركم جمع على رجل منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه».([10]) وما جاء في كتب التاريخ من أن عمر t أمرهم بالاجتماع والتشاور، وحدد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فيضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.([11]) وهذه من الروايات التي لا تصح سندا، فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف -الرافضي الشيعي- مخالفا فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم -أي أهل الشورى- فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما([12]), فهذا قول منكر، وكيف يقول عمر t هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم؟!!([13]).
وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم.([14]) وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيف، وقد تغير بآخره.([15])
5- الحكم في حال الاختلاف:
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.([16])
6- جماعة من جنود الله تراقب الاختيار وتمنع الفوضى:
طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة، إن الله -عز وجل- أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.([17]) وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم([18]).
7- جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل:
ومن فوائد قصة الشورى، جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل؛ لأن عمر جعل الشورى في ستة أنفس مع علمه أن بعضهم كان أفضل من بعض، ويؤخذ هذا من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد؛ حيث كان لا يراعي الفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فاستخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم؛ كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة.([19])
8- جمع عمر بين التعيين وعدمه:
جمع عمر بين التعيين، كما فعل أبو بكر أي تعيين المرشح، وبين عدم التعيين كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فعين ستة وطلب منهم التشاور في الأمر([20]).
9- الشورى ليست بين الستة فقط:
عرف عمر أن الشورى لن تكون بين الستة فقط، وإنما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة فيمن يتولى الخلافة؛ حيث جعل لهم أمد ثلاثة أيام فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة وكل من كان ساكنا في بلد غيرها كان تبعا لهم فيما يتفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة 23 هـ مجمع الصحابة؛ بل لأن كبار الصحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة.([21])
10- أهل الشورى أعلى هيئة سياسية:
إن عمر t أناط بأهل الشورى وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحدا من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحدا من الصحابة الآخرين لم يُثِر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم أن اقتراحا آخر قد صدر عن أحد من الناس في ذلك العصر، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال الساعات الأخيرة من حياته أو بعد وفاته، وإنما رضي الناس كافة هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين. وفي وسعنا أن نقول: إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا، مهمتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادئ الأساسية التي أقرها الإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بالشورى؛ لأن العبرة من حيث النتيجة للبيعة العامة التي تجرى في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما مستند عمر في هذا التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير ورضيت به، ولم يسمع صوت اعتراض عليه، حتى نتأكد أن الإجماع -وهو من مصادر التشريع- قد انعقد على صحته ونفاذه.([22]) ولا ننسى أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكد على أن هذا المبدأ -أهل الشورى أعلى هيئة سياسية- قد أقره نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما أن الهيئة التي سماها عمر تمتعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى والأمانة([23]).
هكذا ختم عمر t حياته ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاما للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن الكريم والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعا بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصديق t بل أول من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل؛ فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت([24]).
ثانيًا: وصية عمر للخليفة الذي بعده:
أوصى الفاروق عمر الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم. وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام, أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم. وأوصيك بأهل الذمة خيرا؛ أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا، أو عن يد وهم صاغرون. وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم؛ فإن في ذلك -بإذن الله- سلامة لقلبك وحطًّا لوزرك، وخيرا في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك، وآمرك أن تشتد في أمر الله وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين فتجور وتظلم وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلا وعفة عما بسط لك اقترفت به إيمانا ورضوانا، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله. وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة، وقد أوصيتك وخصصتك ونصحتك، فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالا عليه نفسي وولدي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيبا وافرا وحظا وافيا، وإن لم تقبل ذلك ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصا، ورأيك فيه مدخولا؛ لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله الداعي إلى معاصيه. ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظا لنفسك. وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضر بهم فيذلوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم، ولا تجمِّرهم في البعوث فينقطع نسلهم، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك وأقرأ عليك السلام.([25])
هذه الوصية تدل على بُعْد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل؛ فقد تضمنت الوصية أمورا غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم، متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها:
1- الحرص على تقوى الله وخشيته:
أ- الوصية بالحرص الشديد على تقوى الله والخشية منه في السر والعلن، في القول والعمل؛ لأن من اتقى الله وقاه, ومن خشيه صانه وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له)، (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، وأوصيك أن تخشى الله).
ب- إقامة حدود الله على القريب والبعيد (لا تبالِ على مَنْ وجب الحق)، (ولا تأخذك في الله لومة لائم)؛ لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين؛ ولأن الشريعة حجة على الناس وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع.
ج- الاستقامة (استقم كما أمرت)، وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولا وعملا أولا ثم الرعية، (كن واعظا لنفسك) (وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة).
2- الناحية السياسية، وتضمنت:
أ- الالتزام بالعدل؛ لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية تحقق للحكم قوة وهيبة ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس (وأوصيك بالعدل)، (واجعل الناس عندك سواء).
ب- العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحُمَاته (أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).
3- الناحية العسكرية، وتضمنت:
أ- الاهتمام بالجيش وإعداده إعدادًا يتناسب وعِظَم المسئولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين (التفرغ لحوائجهم وثغورهم).
ب- تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيدا عن عوائلهم، وتلافيا لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية (ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم)، (وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو).
ج- إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء؛ وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شئونه المالية (ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم).
4- الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت:
أ- العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم).
ب- عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة (ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين).
ج- ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم)، (أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم). ([26])
5- الناحية الاجتماعية، وتضمنت:
أ- الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء.. (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها).
ب- اجتناب الأثَرَة والمحاباة واتباع الهوى؛ لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية (وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله)، (ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم).
ج- احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له (وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم).
د- الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم وإنصاف بعضهم من بعض، وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم).
هـ- اتباع الحق والحرص على تحقيقه في المجتمع وفي كل الظروف والأحوال؛ لكونه ضرورة اجتماعية لا بد من تحقيقها بين الناس (ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات)، (واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق).
و- اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة؛ لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين؛ لينعم الجميع بعدل الإسلام (وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة).
ز- الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام). ([27])
ح- وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين.([28])
ثالثـًا: منهج عبد الرحمن بن عوف في إدارة الشورى:
1- اجتماع الرهط للمشاورة:
لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب t حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقيل إنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين، بعد وفاة عمر، وقد تكلم القوم وبسطوا آراءهم واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين([29]).
2- عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:
عندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي([30]), وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، وأصبح المرشحون الثلاثة علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليَّ والله على أن لا آلو عن أفضلكما، قالا: نعم.([31])
3- تفويض ابن عوف بإدارة عملية الشورى:
بدأ عبد الرحمن بن عوف t اتصالاته ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح يوم الأحد، واستمرت مشاوراته واتصالاته ثلاثة أيام كاملة، حتى فجر يوم الأربعاء الرابع من محرم وهو موعد انتهاء المهلة التي حددها لهم عمر، وبدأ عبد الرحمن بعلي بن أبي طالب فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة؟ قال علي: عثمان بن عفان، وذهب عبد الرحمن إلى عثمان وقال له: إن لم أبايعك، فمن ترشيح للخلافة؟ فقال عثمان: علي بن أبي طالب... وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصحابة الآخرين واستشارهم، وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاورته النساء في خدورهن، وقد أبدين رأيهن، كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة، وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وفي منتصف ليلة الأربعاء، ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى بيت ابن أخته: المسور بن مخرمة، فطرق البيت، فوجد المسور نائما([32]), فضرب الباب حتى استيقظ فقال: أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعدا، فدعوتهما له، فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى ابهارَّ([33]) الليل ثم قام علي من عنده... ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح.([34])
4- الاتفاق على بيعة عثمان:
وبعد صلاة صبح يوم البيعة (اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23هـ/ 6 نوفمبر 644م) وكان صهيب الرومي الإمام إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتم بالعمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، أرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد منهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر وصاحبوه
إلى المدينة.([35])
وجاء في رواية البخاري: فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى كل حاضر من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، فقال:([36]) أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.([37]) وجاء في رواية صاحب (التمهيد والبيان) أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف.([38])
5- حكمة عبد الرحمن بن عوف في تنفيذ خطة الشورى:
نفذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى بما دل على شرف عقله، ونبل نفسه، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمع إليه إنسان في الدنيا، ليجمع كلمة المسلمين، وحقق أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على عرش الخلافة ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى، وقد كانت الخطوات التي اتخذها كالآتي:
أ- بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة الزمن الذي حده لهم عمر، وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء مجلس الشورى على أن يدلوا برأيهم، فعرف مذهب كل واحد منهم ومرماه، فسار في طريقه على بينة من أمره.
ب- وخلع نفسه وتنازل عن حقه في الخلافة ليدفع الظنون ويستمسك بعروة الثقة الوثقى.
ج- أخذ في تعرف نهاية ما يصبو إليه كل واحد من أصحابه وشركائه في الشورى، فلم يزل يقلب وجوه الرأي معهم حتى انتهى إلى شبه انتخاب جزئي فاز فيه عثمان برأي سعد ابن أبي وقاص، ورأي الزبير بن العوام، فلاحت له أغلبية آراء الأعضاء الحاضرين معه.
د- عمد إلى معرفة كل واحد من الإمامين: عثمان وعلي في صاحبه بالنسبة لوزنه من سائر الرهط الذي رشحهم عمر، فعرف من كل واحد منهم أنه لا يعدل صاحبه أحدا إلا فاته الأمر.
هـ- أخذ في تعرف رأي مَنْ وراء مجلس الشورى من خاصة الأمة وذوي رأيها، ثم من عامتها وضعفائها، فرأى أن معظم الناس لا يعدلون أحدا بعثمان، فبايع له، وبايعه عامة الناس.([39])
لقد تمكن عبد الرحمن بن عوف بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه بالتخلي عن الطمع في الخلافة والزهد بأعلى منصب في الدولة، أن يجتاز هذه المحنة وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد، مما يستحق أعظم التقدير([40]).
قال الذهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان, ولو كان محابيا فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص([41]).
وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في عهد الخلفاء الراشدين، وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامة، ثم البيعة العامة([42]).
رابعًا: أباطيل رافضية دست في قصة الشورى:
هناك أباطيل شيعية وأكاذيب رافضية دست في التاريخ الإسلامي، منها في قصة الشورى، وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين المحدثين، ولم يمحصوا الروايات ويحققوا في سندها ومتنها فانتشرت بين المسلمين.
لقد اهتم مؤرخو الشيعة الرافضة بقصة الشورى وتولية عثمان بن عفان الخلافة ودسوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألف جماعة منهم كتبا خاصة، فقد ألف أبو مخنف كتاب الشورى، وكذلك ابن عقدة وابن بابويه.([43]) ونقل ابن سعد تسع روايات من طريق الواقدي في خبر الشورى وبيعة عثمان وتاريخ توليه للخلافة([44])، ورواية من طريق عبيد الله بن موسى تضمنت مقتل عمر وحصره للشورى في الستة، ووصيته لكل من علي وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيته لصهيب في هذا الأمر.([45])
وقد نقل البلاذري خبر الشورى وبيعة عثمان عن أبي مخنف([46]), وعن هشام الكلبي منها ما نقله عن أبي مخنف ومنها تفرد به([47])، وعن الواقدي([48]), وعن عبيد الله بن موسى([49])، واعتمد الطبري في هذه القصة على عدة روايات منها رواية أبي مخنف([50])، ونقل ابن أبي الحديد بعض أحداث قصة الشورى من طريق أحمد بن عبد العزيز الجوهري([51]), وأشار إلى نقله عن كتاب (الشورى) للواقدي([52]), وقد تضمنت الروايات الشيعية عدة أمور مدسوسة ليس لها دليل من الصحة، وهي:
1- اتهام الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين:
اتهمت الروايات الشيعية الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين، وعدم رضا علي بأن يقوم عبد الرحمن باختيار الخليفة، فقد ورد عند أبي مخنف وهشام الكلبي عن أبيه وأحمد الجوهري أن عمر جعل ترجيح الكفتين إذا تساوتا بعبد الرحمن بن عوف، وأن عليا أحس بأن الخلافة ذهبت منه لأن عبد الرحمن سيقدم عثمان للمصاهرة التي بينهما. ([53]) وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النسب القريب بين عثمان وعبد الرحمن، فقال: فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله».([54]) فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخِ بين مهاجريٍّ ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار؛ فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري([55])، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك.([56]) وقد بنت الروايات الشيعية محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهما متناسية أن قوة النسب أقوى من المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأول، وأنها لا تقوم على نسب ولا مصاهرة، وأما كيفية المصاهرة التي كانت بين عبد الرحمن وعثمان فهي أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد.([57])
2- حزب أموي وحزب هاشمي:
أشارت رواية أبي مخنف إلى وقوع مشادة بين بني هاشم وبني أمية أثناء المبايعة، وهذا غير صحيح، ولم يرد ذلك برواية صحيحة ولا ضعيفة.([58]) وقد انساق بعض المؤرخين خلف الروايات الشيعية الرافضية وبنوا تحليلاتهم الخاطئة على تلك الروايات، فصوروا تشاور أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في تحديد الخليفة الجديد بصورة الخلاف العشائري، وأن الناس قد انقسموا إلى حزبين حزب أموي وحزب هاشمي، وهو تصور موهوم واستنتاج مردود لا دليل عليه؛ إذ ليس نابعًا من ذلك الجو الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله حينما كان يقف المهاجري مع الأنصاري ضد أبيه وأخيه وابن عمه وبني عشيرته، وليس نابعًا من تصور هؤلاء الصحب وهم يضحون بكل شيء من حطام الدنيا في سبيل أن يسلم لهم دينهم، ولا من المعرفة الصحيحة لهؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رويت عن هؤلاء تثبت أن هؤلاء كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزاوية الضيقة في
معالجة أمورهم، فليست القضية قضية تمثيل عائلي أو عشائري، فهم أهل شورى لمكانتهم في الإسلام.
3- أقوال نسبت زورًا وبهتانًا لعلي:
قال ابن كثير: وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال عبد الرحمن بن عوف: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح: 10].
4- اتهام عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة:
وقد ذكر أبو مخنف في روايته في قضية الشورى عن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أنهما جلسا عند الباب، ورد سعد عليهما، فهذا يستغرب من رعاع الناس فضلا عن الصحابة الكرام، وكيف يقول سعد لهما: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا من أهل الشورى وقد علم الناس أهل الشورى بأعيانهم واستفاض ذلك عندهم. وفي الحقيقة أن رواية أبي مخنف يناقض بعضها بعضا، وهي واضحة لمن تدبرها وقارنها بالأصول الصحيحة، وغرائبها أشهر من ذكرها. وقد أشار الدكتور يحيى اليحيى إلى نماذج وأمثلة تكفي لإسقاط هذه الرواية وعدم الاعتبار بها.([59]) هذه بعض الإشارات العابرة ذكرتها للتنبيه والتحذير من تلك السموم المبثوثة في تراثنا التاريخي، والموروث الثقافي للأمة، فقد أثرت في رجال الفكر والقلم والتاريخ.
خامسًا: أحقية خلافة عثمان بن عفان:
لا يشك مؤمن في أحقية خلافة عثمان t وصحتها، وأنه لا مطعن فيها لأحد إلا ممن أصيب قلبه بزيغ فنقم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما حل في قلبه من الغيظ منهم، وهذا لم يحصل إلا من الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدنيا هو سب الصحابة -رضي الله عنهم- وبغضهم، ولا قيمة لما يوجهونه من المطاعن على خلافة الثلاثة -رضي الله عنهم- لظهور بطلانه، وأنها افتراءات لا تصح. وقد جاء في جملة من النصوص القطعية الصحيحة والآثار الشهيرة التنبيه والإيماء إلى أحقية خلافة عثمان بن عفان t، ومن ذلك([60]):
1- قوله تعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان t أنه من الذين استخلفهم الله في الأرض، ومكن لهم فيها، وسار في الناس أيام خلافته سيرة حسنة؛ حيث حكم فيهم بالعدل وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهذه الآية تضمنت الإشارة إلى أحقيته t([61]).
2- قوله تعالى: "قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" [الفتح: 16]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان t هو أن الداعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ فأبو بكر دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة هؤلاء الثلاثة -رضي الله عنهم- بنص القرآن، وإذا وجبت طاعتهم صحت خلافتهم([62]) رضي الله عنهم وأرضاهم.
3- عن أبي موسى t قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو عمر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه, فإذا هو عثمان بن عفان.([63]) هذا الحديث فيه إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة، وإخبار عن بلوى تصيب عثمان، هذه البلوى حصلت له t وهي حصاره يوم الدار
حتى قتل آنذاك مظلوما، فالحديث علم من أعلام النبوة، وفيه الإشارة إلى كونه
شهيدا رضي الله عنه وأرضاه([64]).
4- روى أبو داود -رحمه الله- بإسناده إلى جابر بن عبد الله أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُرِيَ الليلة رجلٌ صالح: أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر»، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل
الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تَنَوُّط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.([65])
5- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة واختلاف -أو اختلاف وفتنة- قال: قلنا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» وأشار إلى عثمان.([66]) وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق نبوته؛ حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر، وتضمن الحديث التنبيه على أحقية خلافة عثمان؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى أن يلزموه، وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف مع أمير المؤمنين ومقدمهم أمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل أهل زيغ وهوى، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون مستمرا على الهدى لا ينفك عنه([67]).
6- روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم».([68]) ففي هذا الحديث الإشارة إلى الخلافة واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيح؛ أي: سيجعلك الله خليفة، فإن قصد الناس عزلك فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم؛ لكونك على الحق وكونهم على الباطل.([69])
7- وروى الترمذي بإسناده إلى أبي سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليَّ عهدا فأنا صابر عليه([70]). فقوله: قد عهد إليَّ عهدا، أي: أوصاني أن لا أخلع بقوله: «وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» فأنا صابر عليه، أي: على ذلك العهد([71]).
8- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ادعوا لي أو ليت عندي رجلا من أصحابي»، قالت: قلت: أبو بكر، قال: «لا»، قلت: عمر، قال: «لا», قلت: ابن عمك علي، قال: «لا», قلت: فعثمان، قال: «نعم» قالت: فجاء عثمان، فقال: «قومي», قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير، قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ أمرا فأنا صابر نفسي عليه([72]).
فهذا الحديث والذي قبله فيهما دلالة على صحة خلافته، فمن أنكر خلافته ولم يره من أهل الجنة والشهداء وأساء الأدب فيه باللسان أو الجنان فهو خارج عن دائرة الإيمان وحيز الإسلام([73]).
9- ومما دل على صحة خلافته وإمامته ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.([74]) وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى ألهمهم وألقى في روعهم ما كان صانعه بعد نبيه صلى الله عليه وسلم من أمر ترتيب الخلافة([75]).
قال ابن تيمية: فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم([76]).
وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذه الفقرة أدلة قوية كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى أحقية خلافة عثمان t وأنه لا مرية في ذلك, ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما وهم أهل السنة والجماعة، فيجب على كل مسلم أن يعتقد أحقية عثمان t، وأن يسلم تسليما كاملا للنصوص الدالة على ذلك([77]).
سادسًا: انعقاد الإجماع على خلافة عثمان:
أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان t أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب t، ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد؛ بل الجميع سلم له بذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد نقل الإجماع على أحقية عثمان t بالخلافة بعد عمر t طائفة من أهل العلم بالحديث وغيرهم، ومن تلك النقول([78]):
1- ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت في إمارة عمر فلم يكونوا يشكون أن الخلافة من بعده لعثمان([79])
2- وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حذيفة t قال: إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته فقال: من ترى قومك يؤمرون؟ قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى
ابن عفان([80]).
3- ونقل الحافظ الذهبي عن شريك بن عبد الله القاضي أنه قال: قُبِضَ النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف المسلمون أبا بكر، فلو علموا أن فيهم أحدا أفضل منه كانوا قد غشوا، ثم استخلف أبو بكر عمرَ فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما احتضر جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان، فلو علموا أن فيهم أفضل منه كانوا قد غشونا.([81])
فهذه النقول فيها بيان واضح في أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتهر بينهم أولوية عثمان بالخلافة، وما زال عمر بن الخطاب t حيًّا لما سبق من علمهم ببعض النصوص المشيرة إلى أن ترتيبه سيكون في خلافة النبوة بعد الفاروق t، ولعلمهم أنه أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.([82])
4- روى ابن سعد بإسناده إلى النزال بن سبرة t قال: قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله (أي لم نقصر في اختيار الأفضل). وفي رواية أخرى قال: أمَّرنا خير من بقي ولم نألُ.([83])
5- وقال الحسن بن محمد الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: أجمع الناس على خلافة أبي بكر، واستخلف أبو بكر عمر، ثم جعل الشورى إلى ستة على أن يولوها واحدا فولوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين.([84]) وقد نقل أبو حامد محمد المقدسي كلاما عزاه للإمام الشافعي أنه قال: واعلموا أن الإمام الحق بعد عمر t عثمان t بجعل أهل الشورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف واختياره لعثمان t، وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وصوبوا رأيه فيما فعله، وأقام الناس على محجة الحق، وبسط العدل إلى أن استشهد t([85]).
6- وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان([86]).
7- وقال أبو الحسن الأشعري: وثبتت إمامة عثمان t بعد عمر t بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم عمر، فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله([87]).
8- وقال عثمان الصابوني مبينا عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر أنهم يقولون أولاً بخلافة الصديق ثم عمر، قال: ثم خلافة عثمان t بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به، حتى جعل الأمر إليه([88]).
9- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع العلماء المصلحين-:
وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد... فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما، ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن لا يتولى ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قدم عليا على عثمان فقد ازدرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة على أن عثمان أفضل؛ لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم.([89])
10- وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حاكيا إجماع الصحابة على خلافة عثمان t: ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى، وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان حتى إنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به عليَّ؟ قال: بعثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب. والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهد في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف t يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين سرًّا وجهرًا, حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، لا يغتمض بكثير نوم إلا في صلاة ودعاء واستخارة وسؤال من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحدا يعدل بعثمان بن عفان t، فلما كانت الليلة التي يسفر صاحبها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة وأمره أن ينادي له عليا وعثمان -رضي الله عنهما- فناداهما فحضرا إلى عبد الرحمن فأخبرهما أنه سأل الناس فلم يجد أحدا يعدل بهما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن ولئن وُلي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد بالناس حتى غصَّ بالناس، وتراصَّ الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات الناس، وكان رجلا حييًّا t، ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفا طويلا ودعا دعاء طويلا لم يسمعه الناس، ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان، فقم إليَّ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إليَّ يا عثمان، فأخذ بيده وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم، قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وقال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال ثانيًا.([90])
فهذه النقول المتقدم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمة كلها تفيد إفادة قطعية أن البيعة بالخلافة تمت لعثمان t بإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ولم يخالف أو يعارض في ذلك أحد.([91])
سابعًا: حكم تقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما:
الذي عليه أهل السنة أن مَنْ قدَّم عليا على أبي بكر وعمر فإنه ضال مبتدع، ومن قدم عليا على عثمان فإنه مخطئ ولا يضللونه ولا يبدعونه.([92]) وإن كان بعض أهل العلم قد تكلم بشدة على من قدم عليا على عثمان بأنه قال: من قدم عليا على عثمان فقد زعم أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خانوا الأمانة؛ حيث اختاروا عثمان على عليّ رضي الله تبارك وتعالى عنهما([93]).
وقال ابن تيمية: استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضل المخالف فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله.([94])
وذكر أقوال أهل العلم في مسألة تفضيل عليّ على عثمان، فقال: فيها روايتان:
إحداهما: لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة، لمخالفته لإجماع الصحابة، ولهذا قيل: من قدَّم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يروى ذلك عن غير واحد، منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني.
والثانية: لا يُبَدَّع من قدَّم عليا؛ لتقارب حال عثمان وعلي.([95])
([1]) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص161.
([2]) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص122.
([3]) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص124.
([4]) البداية والنهاية (4/142).
([5]) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص98.
([6]) الخلافة والخلفاء الراشدون للبهنساوي، ص213.
([7]) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، ص648.
([8]) الطبقات لابن سعد (3/364).
(7) المرجع السابق (3/342).
([10]) مسلم (3/1480).
([11]،3) تاريخ الطبري (5/226).
([13]) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، د. يحيى اليحيى، ص175.
([14]) الطبقات لابن سعد، (2/342).
([15]) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، ص176. (7) تاريخ الطبري (5/325).
([17]،2) تاريخ الطبري (5/225).
([19]،4، 5) المدينة النبوية.. فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/97).
([22]) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي (1/227، 228).
([23]) المصدر نفسه (1/229).
([24]) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص127.
([25]) الطبقات لابن سعد (3/339), البيان والتبيين للجاحظ (2/46), الكامل في التاريخ (2/210), الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص171، 172.
([26]) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص174، 175.
([27]) الخليفة الفاروق للعاني، ص173- 175.
([28]) عصر الخلافة الراشدة، ص102.
([29]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص62، 63.
([30], 3) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم: (3700)
([31]) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم: (3700).
([32]) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص106، 107.
([33]) ابهار: أي انتصف.
([34]) البخاري، كتاب الأحكام، رقم: (7207).
([35]) شهيد الدار عثمان بن عفان، أحمد الخروف، ص37.
([36]) قوله: "فقال" أي عبد الرحمن مخاطبا عثمان.
([37]) البخاري، كتاب الأحكام، رقم: (7207).
([38]) التمهيد والبيان، ص26.
([39]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص70، 71.
([40]) مجلة البحوث الإسلامية، العدد (10)، ص225.
([41]) سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، (1/86).
([42]) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص278.
([43]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (14/246).
([44]) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/63) (3/67)، .
([45]) المصدر السابق، (3/340).
([46]، 6،7) أنساب الأشراف، البلاذري (5/18، 19).
([49]) المصدر السابق، (5/6).
([50]) أثر التشيع على الروايات التاريخية، د. عبد العزيز نور، ص321، وهو العمدة في هذه الفقرة.
([51]) شرح نهج البلاغة، (9/49، 50- 58).
([52]) المصدر السابق (9/15)
([53]) أثر التشيع على الروايات التاريخية، ص322.
([54]) صحيح سنن الترمذي (3/220)، رقم (4018).
([55]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم (3780).
([56]) منهاج السنة النبوية لابن تيمية، (6/271، 272).
([57]) الطبقات الكبرى، (3/127).
([58]) الخلفاء الراشدون, أمين القضاة، ص78، 79.
([59]) مرويات أبي مخنف، ص179.
([60], 2) عقيدة أهل السنة في الصحابة، (2/656).
([61]) عقيدة أهل السنة في الصحابة، (2/656).
([62]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، (4/109، 110).
([63]) البخاري، رقم (3695).
([64]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، (2/657).
([65]) سنن أبي داود (2/513).
([66]) المستدرك (3/99) ثم قال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
([67]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، (2/660).
([68]) فضائل الصحابة (1/613) إسناده صحيح.
([69]) الدين الخالص، محمد صديق حسن القنوجي, البخاري (3/446).
([70]) فضائل الصحابة (1/605) إسناد صحيح، الترمذي (5/295).
([71]) تحفة الأحوذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري (10/209).
([72]) فضائل الصحابة (1/605) إسناده صحيح، المستدرك (3/99) حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
([73]) الدين الخالص (3/446).
([74]) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم (3698).
([75]) عقيدة أهل السنة (2/664).
([76]) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (3/165).
([77]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن علي عايض حسن الشيخ (2/664).
([78]) المصدر نفسه (2/665).
([79]) المصنف (14/588).
([80]) كتاب الإمامة والرد على الرافضة، ص306.
([81]) ميزان الاعتدال في نقد الرجال، محمد بن عثمان الذهبي (2/273).
([82]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن على عايض (2/666).
([83]) الطبقات الكبرى (3/63).
([84]) مناقب الشافعي للبيهقي (1/434، 435).
([85]) الرد على الرافضة، ص319، 320.
([86]) منهاج السنة (3/166), السنة للخلال، ص320.
([87]) الإبانة عن أصول الديانة، ص68.
([88]) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن الرسالة المنبرية (1/139).
([89]) منهاج السنة (1/134).
([90]) البداية والنهاية (7/159- 161).
([91]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن علي عايض (2/671).
([92]) مجموع الفتاوى (3/101، 102).
([93]) حقبة من التاريخ، عثمان الخميس، ص66.
([94]) مجموعة الفتاوى (3/101، 102).
([95]) المصدر نفسه (4/267).
المفضلات