السلام عليكم.
الأدب المقارن هو أدب المثاقفة ومعرفة مظاهر التأثير والتأثر بين الآداب الإنسانية العالمية ولاسيما المتجاورة منها. ويهدف هذا الأدب المقارن إلى دراسة الوقائع الأدبية و الظواهر التاريخية في بعدها الإنساني والعالمي. ومن ثم، يعمد هذا الأدب إلى تحديد المصادر وتصنيف المرجعيات والمعارف الخلفية التي تتحكم في الكتابات الفنية.
ولا يمكن فهم الآداب العالمية إلا عبر التعريف بالأعمال الفكرية والإنتاجات الإبداعية والفنية والجمالية ومقارنة بعضها ببعض قصد تحديد السابق واللاحق ومعرفة أوجه التشابه والاختلاف والانتقال بعد المقارنة إلى الاستنتاج وتفسير المعطيات المرصودة فهما ووصفا وتوثيقا.
وقد يكون المنهج المتبنى في الأدب المقارن منهجا خارجيا كالمنهج التاريخي أو الاجتماعي أو النفسي أو منهجا داخليا كالمنهج البنيوي أو المنهج السيميائي.
وهذان مثالان عن تاثر الاداب ببعضها.
تأثير المقامة في السرد الأورپي:
من المعلوم أن فن المقامة ظهر في العصر العباسي مع بديع الزمان الهمذاني والحريري، وانتقل بعد ذلك إلى الأندلس والمغرب عن طريق مجموعة من طلبة العلم والمثقفين المهاجرين إلى ديار الغرب الإسلامي. واشتهر كثير من كتاب المقامة في الأندلس، ويبقى أبرزهم هو السرقسطي صاحب المقامات السرقسطية المعروفة باللزومية، وهي خمسون مقامة عارض فيها مقامات الحريري.
ولقد أثر فن المقامة كثيرا في الأدب البيكارسكي الأورپي أو أدب الشطار كما هو وارد في الأدب الإسباني في رواية " حياة دي لازوريو ومحنه وحظوظه" لمؤلف مجهول سنة 1555م.
وممن تأثر بالمقامة شارل سوريل Sorel Charles في قصته" تاريخ فرانسيون الحقيقي الهازل" Vrai histoire comique de Francion ، وقد نشرت بباريس سنة 1922م ، وهي أول قصة شطارية في فرنسا، ونذكر كذلك لوساج Le Sage في قصته "ڤيل بلا"، وگوتييه في قصته" موت الحب"، دون أن ننسى تأثير المقامة في الكوميديا الإلهية للكاتب الإيطالي دانتي Danti.
وربط پيير كاكيا ظهور الرواية في أورپا ضمن دراساته الأدبية المقارنة بفن المقامة. كما أعجب المستشرق الفرنسي إرنست رينان بفن المقامة التي آثرها لتنوع مواقفها على أعمال بلزاك الأدبية الرتيبة.
وفي المقابل، نجد تأثير الإبداع المسيحي على السرد العربي في الأندلس. وفي هذا يقول عبد العزيز الأهواني:" وحين نتجاوز الألفاظ إلى الأخبار والقصص سنجد في كتب التاريخ الأندلسي أمثال: "قصة البيت المقفل في طليطلة" ، وكيف أمر لنديق آخر ملوك القوط على فتحه، فكان نذيرا بدخول العرب إلى إسبانيا، وقصة بنت يوليان صاحب سبتة مع ذلك الملك وكيف غيرت التاريخ، ولكتها قصص أخذت بغير شك من التراث الشعبي المسيحي.".
قصة" حي بن يقظان: بين التأثير والتأثر":
كتب ابن طفيل هذه القصة الفلسفية في العصر الوسيط ، وهي تتحدث عن مولود يسمى حي ستقذفه أمه في اليم لكي لايفتضح زواجها السري بيقظان، فيصل الابن إلى جزيرة نائية لتربيه ظبية الغابة . وبعد ذلك، سيستكمل حي نموه العضوي والنفسي والذهني في عالم الطبيعة بين الحيوانات وتجليات الكون. وسيصل إلى معرفة الله عن طريق استخدام عقله وملكاته الحسية وتشغيل الذهن والحدس المنطقي.
وبعد تأمل المخلوقات سيتعرف حي على الخالق وصانع هذا الكون الجميل. وعندما التقى حي بصديقيه أبسال وسلامان، بذلك استطاع التعرف على خصائص الشريعة الربانية ومقومات العبادة العملية.
وتهدف هذه القصة الفلسفية في الحقيقة إلى التوفيق بين الفلسفة والشريعة أو التوفيق بين العقل والظاهر النصي.
و تأثر ابن طفيل في هذه القصة بالقرآن الكريم وخاصة قصة موسى عليه السلام،حينما وضعته أمه في التابوت رضيعا وألقت به في اليم كما أمرها بذلك ربها هروبا من جنود فرعون المتوحشين الذين كانوا يبطشون بالرضع ويقتلونهم ظلما وتجبرا في الأرض، وكذلك قصة قابيل مع أخيه هابيل في كيفية الدفن، وقصة آدم وحواء في ستر العورة بالأعشاب.
ولكن ابن طفيل في هذه القصة تأثر كثيرا بما كتبه ابن سينا في رسالته الحوارية الفلسفية تحت نفس العنوان. وتحضر في القصة كذلك تأثيرات يونانية كقصة حنين بن إسحق.
وذهب المستشرق الإسباني إميليو گارسيا گوميث بعيدا عندما أثبت أن القصة تأثرت بمخطوطة عثر عليها في مكتبة الأوسكوريال بمدريد تحت عنوان"قصة ذي القرنين وحكاية الصنم والملك وابنته"، وهي مجموعة قصص تدور حول الإسكندر الأكبر. ولكن الدكتور محمد شفيع رفض هذا الاحتمال بقوله:" إن التشابه بين القصتين واضح لا شك، لكن يبقى الحكم بالتأثير في دائرة الاحتمال ولا يرقى إلى درجة الحقيقة المتيقنة".
ويذهب بعضهم إلى أن للسهروردي (توفي سنة 758م) رسالة صغيرة تحت عنوان" حي بن يقظان" كتبها على غرار نص ابن سينا، ولكنها أقل جودة ووضوحا من رسالة ابن سينا الفلسفية، وأقل فنا وبلاغة وتشويقا من قصة ابن طفيل.
أما على مستوى التأثير، فقد أثرت قصة ابن طفيل على قصة" النقادة" للكاتب الإسباني بالاتزاري (Balatzare )، وقصة "روبنسون كروزو"لدانييل ديفو، وقصة "عائلة روبنسون السويسرية" لجون ديفيدوس ، وقصص الأطفال كقصة " رومولوس وريموس" اللذين سترضعهما حيوانات الغابة.
وعلى مستوى السينما ، فنجد التأثير واضحا على مسلسل "طرزان" والفيلم الأمريكي" الشجاعة" ، وفيلم " جزيرة الدولفين الزرقاء" لسكوت أوديل، دون أن ننسى بعض الرسوم المتحركة كحلقات "ماوكلي"...
مرجع البحث
" فضاءات الأدب المقارن" للباحث المغربي الدكتور عيسى الدودي عن دار النشر الجسور في طبعته الأولى سنة 2007م.
تحياتي.lehg td hgh]f hglrhvk>
المفضلات