كتبه/ سعيد صابر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فضرب الأمثال أسلوب بلاغي فريد من نوعه لطالما قرب المعاني ونشط العقول، وحرك العواطف وأثار الانفعالات، لاسيما روائع الأمثال التي حواها القرآن العظيم بين دفتيه، والتي بيَّّن الله -تعالى- غايتها بقوله: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:21)(1).
ومن هاتيك الأمثلة التي لا شبيه لها في حسن البيان وبديع النظم، قوله -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(العنكبوت:41).
لقد اعتنى سلفنا الصالح بتلك الأمثال أيما عناية حتى قال قائلهم: "إني لأمرُّ بالمثل من القرآن فإن لم أفهمه بكيت على نفسي، وذلك لأن الله يقول: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت:43).
ومن روائع الأمثلة كذلك ما نطقت به سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كقوله -عليه الصلاة والسلام-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه.
ومنها ما سدد الله به قلوب الحكماء وألسنتهم كقول ابن القيم -رحمه الله- في عُدَّة الصابرين: "مثل الذي يجمع من الدنيا دون أن يشبع كمثل "فخ" فيه حب، وحول "الفخ" حبوب متناثرة هنا وهناك، فأتى الطير وجعل بعضه يقنع بالحب المتناثر خارج الفخ، ويلتقطه هنيئاً مريئاً، بيد أن من الطير من حمله الشره على اقتحام الفخ، فلم يهنأ بما جمع ولم يظفر بما طمع، بل سرعان ما أخذ يصرخ من "أخذة الفخ" وهكذا يفعل الطمع والجشع بأهله".
وقال غيره: "من انشغل بالنوافل عن الفرائض كان كمن انشغل بهش الذباب عن وجهه، وقد ترك الثعابين والحيات تلدغ أقدامه ليجد القبر قدامه"!
وقال ثالث: "مثل المجتهد في الدعاء مع التغذي بالحرام كرامٍ بسهم في رخام"، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(المؤمنون:51)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(البقرة:172)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم.
فهذا الدعاء الذي أثقلته الرشوة، وأثخنته سيوف السحت أنى له أن يجاوز سقف داعيه فضلا ًعن السبع الرقاع؟
ومن محاسن الأمثلة ما ذكره بعضهم يوم أن أشار إلى جموع الحجيج وحشدهم قائلاً: "أرأيتم لو أن هذا الجمع الغفير أتوا ملكاً كريماً وسألوه دانقاً(2) يكون بينهم جميعاً، أترونه يردهم؟ قيل: كلا، بل هو قائل: وألف وألفَ وقرةَ عين. فقال الحكيم: للمغفرة لهؤلاء جميعاً أهون على الله من الدانق على صاحبكم".
سمع الصغير ساعة الحائط تدق "تك - تك"، فقال لجَده: ما هذه يا جدي التي تقول "تك - تك" قال الفقيه: "هذه يا بني سوسة تنخر في عمرك". ولله درُّه!
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
(1) لابن القيم رسالة ماتعة بعنوان "الأمثلة في القرآن الكريم" وقد أجاد فيها -رحمه الله- وأفاد، سيما ما فتح الله به عليه حينما تعرض لقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)(إبراهيم:24)، وبعدما سطر -رحمه الله- أروع ما أنت قارئ ختم بقوله: "فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقعة وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة الاستغفار، وإلا فلو طهرت منها القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجردت الهمم لتتلقى عن الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، لشاهدنا من معاني كلام الله -عز وجل- وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق".
(2) الدانق: سدس درهم، والدرهم 2.975 جرام فضة.
www.salafvoice.com
منقول

hghlehg