من كنوز هذه الأمة التي لا تنفد، ما كان من سلوك أولئك الربانيين من أعلامها، حيث البرهان العملي على صدق الإيمان، والحرص على العمل بالعلم، والاستعلاء على كل ما يلهث في طلبه أهل الغفلة الذين أسكرهم حب المنصب، وحجبهم عن وضوح الرؤية زخرف الدنيا.
ومن أولئك الأعلام قاضي قرطبة: المنذر بن سعيد من رجال القرن الرابع الهجري الذي أعطى للمسلمين وعلمائهم بخاصة النموذج الصادق لاستعلاء الإيمان، وما يجب أن يكون عليه العالم كيما يكون صحيح النسبة إلى إرث النبوة وأن العلماء ورثة الأنبياء، وأن ورع العالم وصدقه هما الجناحان اللذان يطير بهما إلى آفاق من السمو الروحي يجد حلاوته أهل الخشية الذين رضي الله عنهم ورضوا عنهم.
ولي المنذر رحمه الله قضاء الجماعة بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وظل قاضياً إلى وفاة الناصر، فولي القضاء من بعده للحكم المستنصر إلى أن توفي الحكم سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
ولقد كان ذلك امتحاناً قاسياً لمقدار استقامته، وترفعه عن المغريات، وقدرته بعون الله على تخطي ما يصادف أهل المناصب حين يقعون في الشرك فيطوفون حول الحطام... فقد بلغ من أمره أن الناصر لما بنى مدينة "الزهراء" واستفرغ جهده في زخرفتها وتنميقها وإتقان قصورها، وكان من انهماكه بذلك أن تخلف مرة عن شهود الجمعة في المسجد الجامع بقرطبة، والمفروض أن يشهدها في المسجد الجامع لا في غيره بحكم ولايته. فلما حضر لصلاة الجمعة بعد افتتاح "الزهراء" –وكان ابن سعيد يلي الخطبة مع القضاء- وقام يخطب.. بدأ خطبته بقوله تعالى: {أتبنون بكل ريع آية تبعثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الله الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}
ومضى في هذه الطريقة والتذكير الخاشع، والموعظة المؤثرة، والقول البليغ في النفوس والقلوب –وما زال بالقوم حتى أخذ منهم الخشوع كل مأخذ، وضج المسجد على رحبه بالبكاء، وأخذ الخليفة من تلك الكلمات الإيمانية الصادقة بأوفر نصيب، فبكى وندم على ما حصل من التفريط، وكانت كل كلمة بالنسبة إليه سلاحاً ماضياً يعمل عمله متخطياً كل الحواجز والاعتبارات. وتلك هي سمة النفاذ في كلمة الحق، ومكمن القوة في صدق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين يعرف أهل العلم أن ذلك أول واجبات من أقامهم الله على ثغر فيه من ميراث النبوة مشابه.. وأن الحراسة الحقيقية لكيان الأمة بإسلامها إنما تكون بذلك...
غير أن الخليفة –على كل تأثره- وجد بعض الشيء على المنذر، وشكا ذلك لولده الحكم وقال –وقد أتعبته نفسه-: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، فأسرف علي، وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي وأقسم ألا يصلي خلفه صلاة الجمعة، فجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة، ويجانب الصلاة في الزهراء. عند ذلك قال له الحكم: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك إذا كرهته؟ وهنا تبدت الأصالة وغلب الدين، إذ قال الخليفة للحكم بعد أن زجره: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه –لا أم لك- يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكن أحرجني فأقسمت، ولوددت أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض عنه أبداً.
ألا ما أجدر هذه الشوامخ في تاريخنا، أن تكون مناراتٍ نهتدي بها في ظلمات الجاهلية والنفاق، ورحم الله الرجلين كليهما.. وجزى الله المنذر بن سعيد خير ما يجزي به العلماء العاملين الصادقين، وشكر الله للخليفة الناصر هذه الأوبة إلى الحق، وأنه لم يمل سلطان الحكم بينه وبين أن يقدر القاضي المنذر بن سعيد قدره لما أنه يخلص النصح لولي الأمر بحقائق الإسلام.
أ.د/محمد أديب الصالح
hgrhqd>> hglk`v fk sud]
المفضلات