اليأس محظور... وكيف نعالجه؟
د. محمد بن لطفي الصباغ
إنَّ دارسة السيرة المطهَّرة لَتملأ صُدورَ الدُّعاة إلى الله بالأمل الواسع، على الرَّغم مما يلاقون
من المصاعب والمتاعب، والعَقَبات والمؤامرات، وتدفعهم إلى العمل الجادِّ.
إنَّ تدبُّر سيرة الرسول العظيم وقايةٌ للدُّعاة من اليأس، واليأسُ قتَّال، إنَّه يقعد بالدُّعاة عن الاستمرار
في الدعوة، وقد يقودُ بعضَهم إلى التغيُّر والسقوط في مَهاوي الانحراف والضلال.
إنَّ يأس الدُّعاة يعني انتهاءهم، وقد ينفي بعضُهم اليأسَ عن نفسه باللسان، ولكنَّه يكون في حقيقة الأمر
يائسًا أعظم اليأس، إنَّ ذلك النفيَ لا يغيِّر من حقيقة الأمر شيئًا؛ إذ الأمور بواقعها لا بدعاوى المدَّعين.
إنَّ مَن تأسَّى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسار على نَهجه لا يجد اليأسُ إلى نفسه سبيلاً.
لقد واجه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - عندما شرَّفه الله بالنُّبوة والرِّسالة عالَمًا يموج بالشِّرك
والكفر والفساد والظلم، فمَضى في سبيله داعيًا إلى الله على بَصيرة بشيرًا ونذيرًا، وقد صَبَر وصابر،
واحتمل الأذى، حتى نصرَه الله نصرًا عزيزًا، وكان أبعدَ ما يكون عن اليأس، بل كان في أشدِّ الأيام
قَسْوَةً عليه واسعَ الأمل،
وإليكم أخوتنا الكرام بعضَ الحوادث التي مرَّت في حياته الدالة على ذلك:
1- خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُهاجرًا إلى المدينة، ومعه صاحبه الصدِّيق - رضي
الله عنه - وقريش تُريد قتله، وقد أحكموا الخطَّة، ولكن الله تعالى نَجَّاه من مَكيدتهم، وخرج من مكة
خائفًا يترقَّب، وأوى إلى الغار، وسلك طريقَ الساحل.
وبَحثت قريشٌ عنه فلم تَجِدْه، فجعلت مُكافأةً ضخمة لمن يدلُّ عليه أو يقتله، وكانت مئةَ بَدَنَة.
فأغرت هذه المكافأة سُراقةَ بن مالك، فذهب يبحثُ فيمن يبحث، وأترك الكلام لسُراقة؛ ليحدِّثَنا كما روى
ذلك البخاري في "صحيحه" قال:
"فرَكِبتُ فرسي، وأدركتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبَه، وما زلت أسيرُ نَحوَهما حتى
إذا سمعت قراءةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفتُ، وأبو بكر يُكثِر الالتفات، ساختْ يَدَا
فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتَين، فخرَرتُ عنها، فناديتُهم بالأمانِ فوقفوا، فرَكِبتُ فرسي حتى جئتُهم،
ووقع في نفسي حين لقيتُ ما لقيت من الحبس عنهم أنْ سيظهر أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقلت له: إنَّ قومك جعلوا فيك الدية، وأخبرتُهم أخبارَ ما يريد الناس بهم، وعرضتُ عليهم الزادَ والمتاع،
فلم يَرْزَآنِي، ولم يسألاني إلاَّ أن قال: أَخْفِ عنا، فسألتُه أن يكتبَ لي كتابَ أَمْنٍ، فأمر عامرَ بن فهيرة،
فكتب في رُقعَة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ هذه رواية البخاري.
وفي كتب تراجم الصَّحابة ونحوها أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لسُراقة:
((كيف بكَ إذا لبستَ سِوارَي كِسْرى؟)).
وتَمرُّ الأيامُ، ويفتح جندُ محمد - صلى الله عليه وسلم - بلادَ فارس، وتصلُ الغنائم إلى المدينة،
وتوضَع بين يدي أمير المؤمنين عمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وفيها سِوارا كِسرى وتاجُه
ومنطقته، وعندئذٍ دعا أميرُ المؤمنين سُراقةَ، فألبسه السِّوارَين، وقال رضي الله عنه: ارفَع يديك،
وقل: الله أكبر، الحمد لله الذي سَلَبَهما كِسرى بن هُرمُز،
وألبسَهما سُراقةَ بن مالك أعرابيًّا من بني مدلج.
ورفع عمرُ بها صوته.
يا لَلَّه! ما أوسعَ هذا الأمل!
بُثَّت العيون تتتبَّع خُطاه، وقد وُضعَت مكافأةٌ ضخمةٌ لمن يقتله أو يعتقله، ويسير في أرض الله
يريد النَّجاةَ، ويرجلٌ مُطارَد مُهدَّد بالقتْل، دركه الطَّلب، فينجِّيه الله منه، فيقول في هذه اللحظة
الحَرِجَة لمن كان يريدُ قتله بعد أن عاد إلى الصَّواب: ((كيف بكَ إذا لبستَ سِوارَي كِسرى؟)).
ومَن كسرى؟ كسرى كان من أعظمِ ملوك الأرض في تلك الآونة قُوَّةً وسيطرة.
إنَّه ليأمُل أن ينجوَ ويستمرَّ في الدعوة إلى دينه، ويتحقَّق ذلك بعد حين، فتقضي جيوشُه على مُلك
كسرى، ويؤولُ لأتباعه سِوارا كسرى وتاجُه.
الله أكبر، ما أعظمَه من أمل!
2- ومن المواقف التي تدُلُّ على عظيم أمله - صلى الله عليه وسلم - موقفه يومَ الخندق، يومَ أنْ
اجتمعت الأحزابُ على حربه، ذلك أنَّ قرَيشًا واليهود وغطفان وبني مرَّة وبني سليم وبني أسد اجتمعت
كلمتُهم على مُهاجَمة المدينة المنوَّرة واستئصال الإسلام؛
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].
وبلغت عدَّة الجميع عشرةَ آلاف مُحارب، وكان القائدُ العامُّ أبا سفيان، ودخل على المسلمين من
الهمِّ والغمِّ والخوف ما تُصوِّره آيات سورة الأحزاب؛ قال الله تعالى:
﴿ إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10 - 11].
واستشار رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يصنع:
أيَمكُثُ في المدينة؟ أم يَخرجُ للقاء هذا الجيش الجرَّار؟
فأشار عليه سَلمانُ الفارسي - رضي الله عنه - بِحَفر الخندق، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بعمله،
وشرعوا في حفره شمالَ المدينة من الحَرَّةِ إلى الحَرَّة.
في هذا الظرف العصيب يبدو أملُ الرسول العظيم واسعًا أوسعَ ما يكونُ الأمل، وتكون ثقتُه بأنَّ الله
ناصرُه أعظم ما تكون الثِّقة، ويتنزَّل عليه الوحيُ مُؤيدًا ومُبشرًا بأنَّ العاقبةَ له ولدينه الذي سيَعُمُّ فارسَ
واليمن والشام والأرض كلَّها، وقد اعترضت المسلمين الذين يَحفِرونَ الخندق صخرةٌ لم يقدروا عليها،
فيرفعون أمرها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن حجر في ("فتح الباري" 7/397):
"ووقع عند أحمد والنسائيِّ في هذه القصة زيادةٌ بإسناد حَسَن من حديث البَراء بن عازب، قال: لما كان
حين أمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق عَرَضَت لنا في بعض الخندق صخرةٌ لا
تأخذ فيها المعاول، فاشتكَينا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء فأخذ المعولَ، فقال:
((بسم الله)) فضربَ ضربةً، فكسر ثلثَها، وقال: ((الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأُبصِرُ
قصورَها الحُمرَ الساعة))، ثم ضرب الثانية فقطع الثُّلُث الآخر، فقال: ((الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ فارس،
والله إني لأُبصِرُ قصرَ المدائن أبيضَ))، ثم ضرب الثالثة، وقال: ((بسم الله)) فقطع بقيةَ الحجر، فقال:
((الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ اليمن، والله إني لأُبصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعة)).
أقول: وإيراد قِصَّة الصخرة تُغني عن أيِّ تعليق في تصوير أَمَلِ الرسول في ساعات الشِّدَّة.
3- أخرج البخاري (برقم 6943)، عن خَبَّاب بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قال: شَكَونا إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وهو متوسِّدٌ بردةً في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟
فقال: ((قد كان مَن قبلكم يُؤخَذ الرجلُ، فيُحفَر له في الأرض حُفرة فيُجعَل فيها، فيُجاء بالمِنشار،
فيُوضَع على رأسِه فيُجعَل نصفَين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد من دون لَحْمِه وعَظْمِه، فما يَصُدُّه ذلك
عن دينه، والله ليتمَنَّ هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوت لا يَخافُ إلا الله،
أو الذئبَ على غَنَمِهِ، ولكنكُم تستعجلون)).
هذا الأملُ الكبير في وسط صَعْب، وظرف شديد! المسلمون يُعذَّبون في مكة ويُنكَّل بهم، ويَلقَون
صنوفَ الأذى، ويشكون هذا الوضعَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: وهو في الظرف
العصيب: ((والله، ليتمنَّ هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوت لا يَخافُ إلا الله،
أو الذئبَ على غَنَمِهِ، ولكنكُم تستعجلون)).
إنَّ الأمور لا تأتي دائمًا على مُراد الإنسان، سواءٌ في أموره الدُّنيوية أم في أموره الدَّعوِيَّة،
والمؤمن مُبتلًى، فعلى المرء العاقل المؤمن أن يصبر، وأنْ يُواجهَ الحياةَ بأملٍ، وأن يستبعدَ من
طريقه اليأسَ، ولله دَرُّ من قال:
أَخْلِقْ بِذي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظى بِحاجَتِهِ *** ومُدْمِنِ القَرْعِ لِلأَبوابِ أَنْ يَلِجا
إن الإنسان مُعَرَّضٌ إلى المصائب؛ يقول الله تعالى:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
ويقول:
﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا
أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186].
ومما يَطْردُ اليأسَ التوكُّلُ على الله، والصبر، والاستمرار على السير في طريق الدَّعوة،
ولْيَطْمَئِنَّ المؤمنون بأن العاقبةَ لهم؛ قال الله تعالى:
﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].
و على لسان يعقوبَ:
﴿ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
إنَّ الذي يطَّلعُ على ما يَجري في حياة المسلمين اليوم يتألَّم أشدَّ الأَلَم؛ لما يُعانونه من كَيْدِ الأعداء،
ومحاولتهم سَحْقَ المسلمين والقضاء على يقظتِهم ونَهْضتهم، وإنه ليزيدُ في الأَلَم إعراضُ هؤلاء
المسلمين عن الأخذ بأسباب القُوَّة والغَلَبة، وتَمادي كثير منهم في المعاصي، وتنكُّبهم سبيلَ الهدى،
ومُخالفة أحكام الإسلام في جوانبِ حياتِهم المختلفة.
إنَّ المسلمين يواجهون واقعًا يُهدِّد وجودهم.
إنَّ قُوًى خفيةً وظاهرة، وقوى داخلية وخارجيَّة تناهضُ دينهم.
إنَّ معطيات العلم والحضارة المعاصرة تُسخَّر لمحاربتهم.
إنَّ غفلةَ كثير من المسلمين وانحرافَهم وتقصيرهم مما يُعين العَدُوَّ على تَحقيق كثيرٍ من مخطَّطاته.
ينبغي أن نعترفَ بأننا نعاني أزمةً خُلُقية، وأزمة رُوحية، وأزمة فكريَّة، وأزمة اجتماعية واقتصادية.
هذا واقع، والاعترافُ به مُفيد للعمل على تغييره وإصلاحه، ولكنَّه يتحوَّل إلى خطرٍ عظيم
إذا انتهى اعترافُنا به إلى اليأس. على لسان إبراهيم:
﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56].
إنَّ الإسلامَ العظيم الذي حرَّم اليأسَ على أتباعه يُنادينا في هذه الآونة أنْ نأخذَ أنفسَنا بالعزيمة،
ونواصل الجهد، ونسير في طريق الحقِّ والخير، نرجو ما عند الله من الثَّواب، فتهون في أعيننا
العقبات والصُّعوبات.
إنَّ علينا أنْ نضاعِفَ من جهودنا في طلب العلم والقيام بما أمر الله به، والدَّعوة إلى سبيله
وتوعية الناس بواقعهم والمخاطر التي تُحيط بهم.
وقد قيل: "لا يأسَ مع الحياة، ولا حياةَ مع اليأس".
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
والحمد لله ربِّ العالمين.
المصدر : الألوكة (بتصرف)hgdHs lp/,v>>> ,;dt kuhg[i?
المفضلات