المبشرات بالنصر
إلى أمتي الغالية الحبيبة، إلى أمة خير البشر وسيد الأولين والآخرين،
إلى أمة التوحيد، إلى الأمة التي اصطفاها الله تعالى من بين الأمم لتحملَ
هذه الرسالةَ العظيمة، إلى خير أمة أُخرِجت للناس.
إلى إخواننا المسلمين المضطهدين في كل مكان، إلى من طالتهم يدُ الكفر
والإلحاد، وتناوشتهم أنيابُ الشر والفساد، وتعامت عما أصابهم أعينُ دعاة
الأمن والسلام في كل البلاد، وتكالبت عليهم زَرَافات من الصاغرين والأوغاد.
إلى كل من تكبر من الكافرين وطغى،
إلى كل من حشد الحشود وأوعى، وجيَّش الجيوش وسعى، وأنفق الأموال
فما اكتفى، ورفع راية الكفر ليصد عن سبيل الله من آمن به وبغاها عوجًا.
أزفّ إليكم بشرى من خير من مشى على وجه الأرض، وخير من بعث
ونطق بالحق، البشير النذير، الداعي الأمين، الصادق المصدوق،
المؤيد بالوحي والرسالة -صلى الله عليه وسلم-.
هي بشرى للمؤمنين، وويل وعذاب على الكافرين،
من الكتاب والسنة، وليست هذياناً ولا وسوسة جِنّة،
هي طمأنينة وسكينة للصالحين،
وخوف ورعب للمجرمين.
هذه تباشير ، وكلمات من ماء الذهب ، تثلج الصدر،
وتنور القلب، وتفرج الهم، وتذهب الغم، وتبشر بالنصر
الكبير، برغم المحن والبلايا، والمصائب القوية.
نطق بها الرسول، فخالجت الألباب والعقول،
فرحت بها قلوب المؤمنين،
واستنكرتها ومجتها عقول المنافقين.
كان ذلك في أيام مثل أيامنا، إذ اجتمعت دولُ الكفر والإلحاد،
وتكالبت وتحزبت على المؤمنين،
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}
[البروج: 8]
حفر المسلمون الخندقَ حول المدينة، فظهرت صخرةٌ عجز عن
كسرها الأصحابُ، فشمر لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن
ساعده المتين، فقال لأصحابه:
((دعوني فأكون أول من ضَرَبَهَا، فقال: بِسْمِ اللَّهِ، فَضَرَبَهَا،
فَوَقَعَتْ فِلْقَةٌ ثُلُثُهَا، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُصُورُ الرُّومِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ ضَرَبَ
بِأُخْرَى فَوَقَعَتْ فِلْقَةٌ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُصُورُ فَارِسَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ)).
نعم.. الله أكبر في هذا الموقف العظيم، الكفار مجتمعون حول المدينة
بعدتهم وعتادهم، والموقف صعب وشديد كما وصفه الله في كتابه
{إِذْ جَآءُوكُم مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَاْ} [الأحزاب: 10]،
ومع عظم الخطب واشتداد الأمر وضيق الحال،
كما قال الله تبارك وتعالى:
{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}
[الأحزاب: 11]
ينادي النبي -صلى الله عليه وسلم- مبشراً بفتح فارس والروم
وسلب كنوزها، هذا كلام لا يصدر إلا عن ثقة تامة بنصر الله لأوليائه،
وتعلق كبير بالله خالق الأسباب، وهازم الأحزاب، وأن النصر بيد الله
وحده، وإن كانوا في مثل هذا الموقف العصيب.
هنالك قال المنافقون، ضعيفو الإيمان، أصحاب القلوب المريضة،
وهم مع الأسف موجودون في كل مكان وزمان، يخذلون المؤمنين،
ويحاولون إضعافهم وهزَّهم، ويبثون الرعب بين صفوفهم،
كما وصفهم الله في كتابه وفضحهم:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}
[آل عمران: 173]،
قال هؤلاء المرجفون: نَحْنُ نُخَنْدِقُ عَلَى أَنْفُسِنَا
وَهُوَ يَعِدُنا قُصُورَ فَارِسٍ وَالرُّومِ.
هذا كلام مُدعي الإيمان، الذين لم يفقهوا كتاب الله المنان،
ولم يجاوز تراقيهم في كل زمان، يسخرون من أهل الإيمان،
وينظرون إليهم نظرة الحاقد الغضبان، ويقولون هذا اغترار
منهم بل إنه هذيان، كما قال الله تعالى عنهم:
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}
[الأنفال: 49].
ولكن المؤمن الصادق التقي النقي، يعرف أن هذا الكلام حق،
فهو صادر من الذي
{مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]،
هذا تبشير منه
عليه الصلاة والسلام لأصحابه في هذا الموقف،
ليرفع معنوياتهم، ويجدد أمنياتهم، ويعزز آمالهم.
هي الحكمة والله، وحسن التصرف عند الشدائد، فلا استسلام،
ولا انهزام، ولكنه الرسوخ والثبات عند الأمور العظام.
واستمر تبشيره عليه السلام لأصحابه ببلوغ الإسلام سائرَ
البلاد والعباد، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِىَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا،
وَإِنَّ أُمَّتِى سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِى مِنْهَا)).
وفي بشرى أخرى يبلغنا إيّاها تميمٌ الداري -رضي الله تعالى
عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
((لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ
وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ
اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ)).
وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِىُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِى أَهْلِ بَيْتِى؛
لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِراً الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ.
وهذا المقداد بن الأسود -رضي الله تعالى عنه- يقول:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:
((لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ
إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الإِسْلاَمِ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ؛ إِمَّا يُعِزُّهُمُ
اللَّهُ فَيَجْعَلُهُمْ مِنْ أَهْلِهَا، أَوْ يُذِلُّهُمْ فَيَدِينُونَ لَهَا)).
ولقد بشّرنا رسولُنا الحبيب أيضاً بانتشار الإسلام في أوربا،
وبالأخص (روما) كما جاء في الحديث:فعن أَبِي قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيِّ
قال: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَسُئِلَ أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ
أَوَّلاً الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حِلَقٌ، قَالَ فَأَخْرَجَ
مِنْهُ كِتَاباً، قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- نَكْتُبُ، إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَىُّ الْمَدِينَتَيْنِ
تُفْتَحُ أَوَّلاً قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-: ((مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلاً)). يَعْنِى قُسْطَنْطِينِيَّةَ.
و(رُومِيَّةُ) هي (روما) كما في "معجم البلدان"
وهي عاصمة إيطاليا اليوم.
وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني
كما هو معروف، وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار
النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، وسيتحقق الفتحُ الثاني
بإذن الله تعالى ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين.
إذن النصرُ قادمٌ بإذن الله لا محالة، وسيُهزم الكفرُ ولو بعد حين،
ولكن هذا النصر سيكون للدين الذي يريده الله -عز وجل- ويرتضيه،
كما قال الله تعالى في كتابه:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
هذا وعد من الله تعالى لرسوله
-صلوات الله وسلامه عليه- بأنه سيجعل أمتَه خلفاء الأرض،
أي أئمةَ الناس والولاة عليهم، وبهم تصلحُ البلادُ، وتخضع لهم
العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم.
قال البراء بن عازب -رضي الله تعالى عنه-:
نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد.
كمثل أيامنا هذه، فالخوفُ والرعبُ يسود البلاد، والقتل والتشريد
والاضطهاد، ولكننا مؤمنون بنصر من الله العزيز، كما نصر المؤمنين
من قبلنا، ونعلم أن هذه الآية الكريمة هي كقوله تعالى:
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ
النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
[الأنفال: 26].
وقوله تعالى:
{كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55]،
كما عن موسى -عليه السلام- إنه قال لقومه:
{عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]،
و:
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ و
َجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5-6].
فالصحابة -رضي الله تعالى عنهم- لما كانوا أحسنَ الناس
امتثالاً لهذا الدين بعد النبي -عليه الصلاة والسلام- وأنهم تعبدوا
لله بما ارتضى لهم، وقاموا بهذا الدين حق القوامة هم ومن تحتهم،
جاءهم النصرُ والتمكين لما كانوا له خاضعين.
ولمّا قصّر الناس بعدَهم في الخضوع لهذا الدين،
ونزلوا من العلو الذي كانوا فيه إلى أسفل سافلين، وضيعت الأمانة،
وانتشرت الخيانة، وصُدق الكاذب، وكُذب الصادق، خارت قواهم،
وضعفت هممُهم، وتكالبت عليهم حشود الكفار والمفسدين.
ولكنّه قد ثبت في الصحيح، من غير وجه، عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ
أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ)).
إذن فهناك من هم قائمون على ما كان عليه الأصحاب،
برغم الخلاف والشقاق والصعاب، يعبدون الله كما يرتضي،
ويأخذون ما يختار لهم ويجتبي، بالكتاب والسنّة قائمون،
وبنصر الله مؤيدون، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
لذا فإن النصر والتمكين سيكون لهم بالتأكيد كما وعدهم الله،
وإن كانوا قِلَّة، حفاة عراة، لا يملِكون الأسلحةَ النووية، ولا
الطائراتِ النفاثة القوية، ولكنهم ملكوا معيّةَ وتأييدَ خالق كل
هذه الأشياء، وخالق البشرية.
فقد بشرهم بذلك نبيهم -عليه الصلاة والسلام- كما جاء في الحديث:
عن أبي بن كعب قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِى الأَرْضِ؛
فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِى الآخِرَةِ نَصِيبٌ)).
فهذه بشارات من النبي الحبيب، بنصر هذه الأمة عما قريب،
إذا رجعوا لدين خالقهم الذي ارتضى، واستغفروا وتابوا عما بدر
منهم من الآثام والذنوب ومضى، سيأتيهم النصر لا محالة،
بتأييدٍ مِن هازِم الأحزاب ومظهر الرسالة.
والحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
منقول
hglfavhj fhgkwv
المفضلات