"حكم الإكراه في النكاح"
سمير بن خليل المالكي
بسم الله الرحمن الرحيم
"حكم الإكراه في النكاح"
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
أما بعد ، فقد ذكرت في المبحث السابق حكم زواج الصغيرات ، وبينت فيه جوازه بالأدلة الصريحة من القرآن والسنة ، وذكرت أقوال بعض أهل العلم في ذلك . وبقيت مسألتان ، مسألة إكراه المرأة على الزواج ، ومسألة الكفاءة في النكاح .
وهذه المسألة قد حصل فيها خلاف قديم ، وقد قسم العلماء النساء إلى أقسام :
القسم الأول : البكر الصغيرة ، وهي التي لم تبلغ ولها أب .
قال ابن قدامة في المغني [ 9/398 ] " قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز ، إذا زوجها من كفء ، ويجوز له تزويجها مع كراهيتها وامتناعها " .
ثم استدل ابن قدامة بآية {..فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } [ الطلاق 4 ] وقال " فدل ذلك على أنها تزوج وتطلق ، ولا إذن لها فيعتبر " .
ثم استدل ابن قدامة أيضاً بقصة عائشة رضي الله عنها ونكاحها وهي بنت ست سنين ، ثم قال " ومعلوم أنها لم تكن في تلك الحال ممن يعتبر إذنها " .
واستدل كذلك بزواج قدامة بن مظعون بابنة الزبير وهي طفلة ، وبزواج عمر بن الخطاب بأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وهي صغيرة .
وقال ابن عبد البر: " أجمع العلماء على أن للأب أن يزوج ابنته الصغيرة ولا يشاورها ، لتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين ، إلا أن العراقيين قالوا : لها الخيار إذا بلغت ، وأبى ذلك أهل الحجاز ، ولا حجة مع من جعل لها الخيار – عندي – والله أعلم .
قال أبو قرة :سألت مالكاً عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : (والبكر تستأذن في نفسها) ، أيصيب هذا القول الأب ؟ قال لا ، لم يُعن الأب بهذا ، إنما عني به غير الأب ، وإنكاح الأب جائز على الصغار من ولده ، ذكراً كان أو أنثى " اهـ.انظر التمهيد [ 19/98] .
ونقل ابن عبد البر في التمهيد [ 19/84] قول إسماعيل بن إسحق " والأب له أن يزوج الصغيرة بإجماع من المسلمين ثم يلزمها ذلك ، ولا يكون لها في نفسها خيار إذا بلغت " اهـ .
وقال ابن حجر في الفتح [ 9/123 ] " قال ابن بطال : يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعاً ، ولو كانت في المهد ، لكن لا يمكّن منها حتى تصلح للوطء " اهـ .
وقال ابن حزم في المحلى [ 9/458] " وللأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر مالم تبلغ بغير إذنها ، ولا خيار لها إذا بلغت .. " ثم قال " قال ابن شبرمة : لا يجوز إنكاح الأب ابنته الصغيرة إلا حتى تبلغ وتأذن ، ورأى أمر عائشة رضي الله عنها خصوصاً للنبي صلى الله عليه وسلم"
ثم قال ابن حزم " الحجة في إجازة إنكاح الأب ابنته الصغيرة البكر ، إنكاح أبي بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين ، وهذا أمر مشهور غنينا عن إيراد الإسناد فيه ، فمن ادعى أنه خصوص لم يلتفت لقوله ، لقول الله عز وجل (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) .
فكل ما فعله عليه الصلاة والسلام فلنا أن نتأسى به فيه ، إلا أن يأتي نص بأنه له خصوص " اهـ .
قلت : فالإجماع منعقد على جواز إجبار الأب ابنته الصغيرة البكر ، كما قال ابن المنذر وغيره ، وانظر أيضاٌ مجموع فتاوى ابن تيمية [ 32/22] وفقه السنة لسيد سابق [2/130] .
لكن هذا الحكم مقيد بشروط/أهمها : الكفاءة ، كما نص عليه ابن المنذر وغيره ، وسيأتي الكلام عن معنى الكفاءة المعتبرة في النكاح في المسألة التالية ، إن شاء الله تعالى .
تنبيه
فرّق بعض أهل العلم بين من بلغت تسع سنين ، ومن هي دون التسع ، فرأى إلحاق بنت التسع بالبالغة في حكم الإجبار .
قال ابن قدامة في المغني [9/404] " وإذا بلغت الجارية تسع سنين ففيها روايتان ، إحداهما : أنها كمن لم تبلغ تسعاً . نصّ عليه في رواية الأثرم . وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر الفقهاء ، قالوا : حكم بنت تسع سنين حكم بنت ثمان ، لأنها غير بالغة ، ولأن إذنها لا يعتبر في سائر التصرفات ، فكذلك في النكاح .
والرواية الثانية : حكمها حكم البالغة . نص عليه في رواية منصور" ثم استدل ابن قدامة بمفهوم قوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى..} .
فتحمل اليتيمة هنا على من بلغت تسع سنين لكنها لم تبلغ سن الحلم ، واستدل أيضا بالأحاديث التي نصت على استئذان اليتيمة ، لأن من دون التسع لا إذن لها ، فيحمل الإذن على من بلغت تسع سنين واستدل بأثر عائشة رضي الله عنها " إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة " قال ابن قدامة :معناه:في حكم المرأة .
قلت : لكن البيهقي قال:"تعني والله أعلم ، فحاضت ، فهي امرأة".انظر سنن البيهقي [1/320].
القسم الثاني :البكر اليتيمة .
وقد اختلفوا في حكم إجبارها قال ابن قدامة في المغني [9/402] "ليس لغير الأب إجبار كبيرة ولا تزويج صغيرة ، جَدَّاً كان أو غيره وبهذا قال مــالك وأبو عبيد والثوري وابن أبي ليلى وبه قال الشافعي إلا في الجد فإنه جعله كالأب"
ثم ذكر قول أبي حنيفة أن لغير الأب تزويج الصغيرة ، ولها الخيار إذا بلغت ، واستدل عليه بقوله تعالى {فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } الآية .
قال "فمفهومه أنه إذا لم يخف فله تزويج اليتيمة ، واليتيم من لم يبلغ ..ولأنه ولي في النكاح ، فملك التزويج كالأب " .
ثم رجح ابن قدامة القول الأول ، وهو منع تزويج الصغيرة اليتيمة بدون إذنها ، واستدل عليه بحديث ( تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها ) ، رواه أبو داوود وغيره ، أنظر جامع الأصول [11/461] .
وبالحديث الآخر (إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها) رواه أحمد [2/130] وغيره قال ابن قـدامة " واليتيمة:الصغيرة التي مات أبوها ولأن غير الأب قاصر الشفقة ، فلا يلي نكاح صغيرة ، كالأجنبي "ا هـ .
وذكر ابن عبدالبر في التمهيد [19/98] عن مالك أنه قال " ولا ينكح الجارية الصغيرة أحد من الأولياء غير الأب "ا هـ .
وقال ابن حزم في المحلى [9/459] "وأما الصغيرة التي لا أب لها ،فليس لأحد أن ينكحها ،لا من ضرورة ولا من غير ضرورة حتى تبلغ "
قلت : ذهب بعض أهل العلم ، ومنهم الحنفية ، إلى جواز إجبار اليتيمة ، إذا زوجها وليها بالكفء ، واستدلوا على ذلك بأدلة ، منها :
1- آية سورة النساء {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} .
2- آية سورة الطلاق { واللائي لم يحضن } .
3- نكاح قدامة بن مظعون بابنة الزبير يوم ولدت .
وأجابوا عن الحديثين السابقين في استئمار اليتيمة ،بأن المراد باليتيمة في الحديث : اليتيمة البالغة مجازاً ، باعتبار ما كان .
لكنهم قالوا :إن إجبار الصغيرة اليتيمة يختلف عن إجبار الصغيرة التي لها أب أو جد ، في أن للفتاة اليتيمة الخيار إذا بلغت ، ولا خيار لمن لها أب أو جد إذا زوجها ، لأن الأب والجد كاملا الرأي وافرا الشفقة .
انظر فتح القدير [3/173-175] وفقه السنة لسيد سابق [2/137].
وقد سئل ابن تيمية عن بنت يتيمة عمرها عشر سنوات ، هل يجوز أن تزوج ؟.
فأجاب " هذه يجوز تزويجها بكفؤ لها عند أكثر السلف والفقهاء ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه ، وغيرهما . وقد دل على ذلك الكتاب والسنة ... " ثم استدل بقوله تعالى { وما يتلى عليكم في يتامى النساء } مجموع الفتاوى [32/43] .
وسئل أيضا عن اليتيمة التي لم تبلغ ، هل يزوّّّّّجها الحاكم ؟ فأجاب " إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء من العصبات والحاكم ونائبه ، في ظاهر مذهب أحمد ، وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة "
إلى أن قال " ثم الجمهور الذين جوزوا نكاحها لهم قولان ، أحدهما ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين : أنها تزوج بدون إذنها ، ولها الخيار إذا بلغت .
والثاني ، وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره : أنها لا تزوج إلا بإذنها ، ولا خيار لها إذا بلغت .
وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة ، كما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تستأذن اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها " فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال ، أنها تزوج ، خلافاً لمن قال : إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير يتيمة .
والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك ، إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل ، ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته ، ولأن ما بعد البلوغ ، وإن سمي صاحبه يتيماً مجازاً ، فغايته أن يكون داخلاً في العموم . وأما أن يكون المراد باليتيمة : البالغة ، دون التي لم تبلغ ، فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال ، والله أعلم " اهـ باختصار من مجموع الفتاوى [ 32/44- 46 ] .
قلت : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم ، أن اليتيمة البكر تزوج ، كما نصت عليه الآيات ، وكما في حديث " إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها " وحديث " تستأمر اليتيمة في نفسها " .
لكن هل تجبر على النكاح ؟
الصواب أنها لاتجبر لهذين الحديثين ، ولعموم الأحاديث الأخرى في استئذان البكر واستئمار الثيب ، وليس في الآيات ما يدل على أنها تجبر ، ولا إجماع على ذلك ، فنقول : لا تجبر على النكاح .
لكن كيف يصح أن تستأذن أو تستأمر وهي لا تعقل ؟
نقول : إذا بلغت سناً تعقل فيه وتستأذن فيه ، ويكون لها فيه رأي وقول ، فإنها حينئذ تزوج بإذنها ، وقد تقدم قول ابن قدامة أنها إذا بلغت تسعاً ، وكلام ابن تيمية يشير إلى ذلك ، بخلاف الصغيرة التي لها أب ، فإنها تزوج ولو كانت في المهد ، لكن ذلك متوقف على وجود الغبطة والمصلحة للصغيرة ، وكون الزوج كفؤاً لها غير معيب . والله أعلم .
القسم الثالث : الثيب الصغيرة . التي لم تبلغ ولها أب .
ذكر ابن قدامة في المغني [ 9/407 ] في حكم تزويج الثيب الصغيرة وجهين ، أحدهما : لا يجوز تزويجها ، وهو مذهب الشافعي ، لعموم الأخبار ، ومنها " الثيـب أحق بنفسها من وليها "و"لا تنكح الأيم حتى تستأمر" ولحديث الخنساء بنت خدام الأنصارية : أن أباها زوجها وهي ثيب ، فكرهت ذلك ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه " رواه البخاري وغيره .انظر جامع الأصول [ 11/463 ] .
" ولأن الإجبار يختلف بالبكارة والثيوبة ، لا بالصغر والكبر ، وهذه ثيب ، ولأن في تأخيرها فائدة ، وهو أن تبلغ فتختار لنفسها ويعتبر إذنها ، فوجب التأخير ، بخلاف البكر " كذا قال ابن قدامة .
ثم ذكر الوجه الثاني : أن لأبيها تزويجها ولا يستأمرها ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، لأنها صغيرة ، فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة ، وتحمل الأحاديث المتقدمة على الثيب الكبيرة .
قلت : من نظر إلى أن مناط الإجبار ( أي الوصف الذي علق به جواز الإجبار ) هو الصغر ، كما هو مذهب الحنفية والمالكية ، لم يفرق بين الثيب والبكر ، سواء زوجها أبوها أو غيره . ومن جعل مناط الإجبار هو : البكارة والصغر معاً ، فرّق بين البكر الصغيرة والثيب الصغيرة ، فأجاز إجبار الأولى دون الثانية .
والصواب في هذا عندي أن ينظر في عموم النصوص الدالة على منع تزويج الثيب إلا بأمرها ، وهل لهذا العموم مخصِّص ؟ .
الذي يظهر لي أنه لا مخصِّص له من نص أو إجماع ، فإن من حكى الإجماع كابن المنذر إنما حكاه عن البكر الصغيرة ، لا الثيب .
وأما ابن عبدالبر فإنه حكى الإجماع ، وأطلق الصغيرة دون تخصيص البكر ، لكن سياق كلامه بعد ذلك يدل على أن المقصود البكر لا الثيب . والله أعلم .
وعلى هذا نقول : إن الصغيرة الثيب لا يجبرها أبوها على النكاح . والله أعلم .
القسم الرابع : الثيب الصغيرة اليتيمة
قلت : وهذه أولى في المنع من إجبارها من الثيب الصغيرة التي لها أب ، لعموم حديث " الثيب أحق بنفسها " ولم يخص الصغيرة .
واليتيمة ورد فيها أحاديث تخصها ، كما تقدم ، وهي " إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها "و" تستأمر اليتيمة في نفسها " . والله تعالى أعلم .
القسم الخامس : البكر البالغ
وهذه قد اختلف في حكم إجبارها اختلافاً كبيراً ، فممن رأى إجبارها إذا زوّجها أبوها : الإمام أحمد في رواية ، والشافعي ومالك .
وممن منع ذلك : الإمام أحمد في رواية أخرى ، والأحناف والظاهرية . انظر المغني [ 9/399 ] والمحلى [ 9/460 ] وفقه السنة [ 3/130 ] .
وقد بوب البخاري في صحيحه [ 12/318 ] بقوله " باب لا يجوز نكاح المكره " ثم استدل بحديث الخنساء بنت خدام ، وحديث استئذان البكر .
وقال ابن عبدالبر " واختلفوا في الأب : هل يجبر ابنته الكبيرة البكر على النكاح أم لا ؟ .
فقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى : إذا كانت المرأة بكراً ، كان لأبيها أن يجبرها على النكاح ، مالم يكن ضرراً بيِّنـاً ، وسواء كانت صغيرة أو كبيرة ، وبه قال أحمد وإسحق وجماعة .
وحجتهم : أنه لما كان له أن يزوجها وهي صغيرة ، كان له أن يزوجها وهي كبيرة ، إذا كانت بكراً ، لأن العلة البكورة ، ولأن الأب ليس كسائر الأولياء ، بدليل تصرفه في مالها ونظره لها وأنه غير متهم عليها ..."
إلى أن قال " ومن حجتهم أيضاً : قوله صلى الله عليه وسلم " لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها " . لأن فيه دليلاً على أن غير اليتيمة تنكح بغير إذنها ، وهي البكر ذات الأب .
وكذلك قوله " الثيب أحق بنفسها " ، فيه دليل على أن البكر وليها أحق منها ، وهو الأب " .
إلى أن قال " وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو ثور وأبو عبيد : لا يجوز للأب أن يزوج البالغ من بناته ، بكراً كانت أو ثيباً ، إلا بإذنها .
ومن حجتهم : قوله صلى الله عليه وسلم " الأيم أحق بنفسها " ، قالوا : والأيم هي التي لا بعل لها ، وقد تكون ثيباً وبكراً ، فكل أيم على هذا ، إلا ما خصته السنة ، ولم تخص من ذلك إلا الصغيرة وحدها ، يزوجها أبوها بغير إذنها ، لأنه لا إذن لمثلها .. "
إلى أن قال " واحتجوا أيضاً : بقوله صلى الله عليه وسلم " لا تنكح البكر حتى تستأذن " ، قالوا : فهذا على عمومه في كل بكر ، إلا الصغيرة ذات الأب ، بدليل قصة عائشة وإجماعهم على أن ذلك صحيح عنه صلى الله عليه وسلم .. " اهـ باختصار . انظر التمهيد [ 19/ 98 - 100 ] .
قلت : وممن اختار القول بمنع إجبار البكر البالغ ، ابن تيمية ، وقد ذكر القولين في المسألة ، ثم رجح القول الثاني وهو أن البكر البالغ لا تجبر على النكاح ، واستدل عليه بالأحاديث السابقة ، ثم قال : " وأيضاً فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها ، وبضعها أعظم من مالها ، فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها .
وأيضاً : فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع ، وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام .." إلى أن قال " وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح ، فهذا مخالف للأصول والعقول ، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها ، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده ، فكيف يكرهها على مباضعة ومعاشرة من تكره مباضعته ومعاشرة من تكره معاشرته ؟ والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة ، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له ونفورها عنه ، فأي مودة ورحمة في ذلك ؟ " . اهـ . انظر مجموع الفتاوى [ 32/22-25 ] .
وقال ابن تيمية في موضع آخر " ليس للولي أن يجبرها على نكاح من لا ترضاه ، ولا يعضلها عن نكاح من ترضاه ، إذا كان كفؤاً لها باتفاق الأئمة ، وإنما يجبرها ويعضلها أهل الجاهلية والظلمة الذين يزوجون نساءهم لمن يختارونه لغرض ، لا لمصلحة المرأة ، ويكرهونها على ذلك ، أو يخجلونها حتى تفعل ، ويعضلونها عن نكاح من يكون كفؤاً لها لعداوة أو غرض ، وهذا كله من عمل الجاهلية والظلم والعدوان ، وهو مما حرمه الله ورسوله ، واتفق المسلمون على تحريمه ، وأوجب الله على أولياء النساء أن ينظروا في مصلحة المرأة ، لا في أهوائهم .. " انظر مجموع الفتاوى [ 32/52 ] .
واختار المنع من إجبارها كذاك ابن القيم ، واستدل عليه بالأحاديث ، وقال " وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح ، ولا تزوج إلا برضاها ، وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وهو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه ، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته .." ثم أطال رحمه الله في تقرير المسألة والاحتجاج على هذا القول بنحو ما تقدم عن شيخه ابن تيمية ، رحمهما الله تعالى انظر زاد المعاد [ 5/88-91 ]
وممن اختار هذا القول أيضاً من المتأخرين ، الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السعودية ورئيس القضاة فيها . انظر مجموع فتاوى الشيخ محمد [ 10/74 – 83 ] .
ومما أجاب به الشيخ محمد بن إبراهيم عن مسألة تحجير الرجل ابنة عمه ( أي منعها ) عن أن تتزوج من شاءت ، لرغبته هو أو أحد قرابته بالاستئثار بها ، قال " نفيد أن هذا التحجير أمر لا يجوز ، ولا يجيزه الشرع ، والإسلام بريء منه ، والسنة النبوية مستفيضة بالنهي عن ذلك ، والنكاح على هذا الوجه غير صحيح ولا يعترف به ، إذ التحجير من أكبر أنواع الظلم والجور ، ومن يصر على تحجير الأنثى الضعيفة ويريد أن يقهرها ويتزوجها وهي غير راضية به ، هو بحاجة للرادع السلطاني إذا لم يرتدع بالوازع القرآني " ا هـ . [ 10/83 ] .
قلت : وللشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله كلام نفيس في حكم إجبار البكر البالغة ، حيث ذهب إلى عدم جوازه ، بل حتى البكر الصغيرة ، وهذا نص كلامه أسوقه باختصار من كتاب الشرح الممتع على زاد المستقنع [ 12 / 54 – 60 ] . قال رحمه الله " ... فإذا قال لها أبوها : أنا أريد أن أزوجك فلاناً ، فقالت : لا ، أنا ما أريد فلاناً صراحة ، يقول : أزوجك ولا أبالي ، ويغصبها غصباً ، ولو كانت لاتريده ، لأنها بكر ولو كانت بالغة عاقلة ذكية ، تعرف ما ينفعها وما يضرها ، وعقلها أكبر من عقل أبيها ألف مرة ، ودليلهم أن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما زوجها أبوها النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست ، وبنى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنين .
فنقول لهم : هذا دليل صحيح ثابت ، لكن استدلالكم به غير صحيح ، فهل علمتم أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن عائشة رضي الله عنها وأبت ؟
الجواب : ما علمنا ذلك ، بل إننا نعلم علم اليقين أن عائشة رضي الله عنها لو استأذنها أبوها لم تمتنع .." إلى أن قال " ثم نقول : نحن نوافقكم إذا جئتم بمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل عائشة رضي الله عنها ، وهل يمكن أن يأتوا بذلك ؟ لا يمكن .
إذن نقول : سبحان الله العظيم ، كيف نأخذ بهذا الدليل الذي ليس بدليل ؟ وعندنا دليل من القرآن قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } [ النساء 19 ] .
وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل عن امرأة ، تزوجها ابن عمه غصباً عليها ، ودليل صريح صحيح من السنة ، وهو عموم قوله عليه الصلاة والسلام " لا تنكح البكر حتى تستأذن " ، وخصوص قوله " والبكر يستأذنها أبوها " .
فإذا قلنا لأبيها أن يجبرها ، صار الاستئذان لا فائدة منه .."
إلى أن قال " وأما النظر : فإذا كان الأب لا يملك أن يبيع خاتماً من حديد لابنته بغير رضاها ، فكيف يجبرها أن تبيع خاتم نفسها ؟ هذا من باب أولى ..." .
ثم تطرق لتزويج الصغيرة ، فقال " أي فائدة للصغيرة في النكاح ؟ وهل هذا إلا تصرف في بضعها على وجه لا تدري ما معناه ؟ لننتظر حتى تعرف مصالح النكاح وتعرف المراد بالنكاح ثم بعد ذلك نزوجها ، فالمصلحة مصلحتها .
إذاً القول الراجح : أن البكر المكلفة لابد من رضاها ، وأما غير المكلفة وهي التي تم لها تسع سنين ، فهل يشترط رضاها أو لا ؟ الصحيح أيضاً : أنه يشترط رضاها ، لأن بنت تسع سنين بدأت تتحرك شهوتها وتحس بالنكاح ، فلابد من إذنها ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الحق .
وأما من دون تسع سنين ، فهل يعتبر إذنها ؟ يقولون : من دون تسع سنين ليس لها إذن معتبر ، لأنها ما تعرف عن النكاح شيئاً ، وقد تأذن وهي تدري ، أو لا تأذن ، لأنها لا تدري ، فليس لها إذن معتبر ، ولكن هل يجوز لأبيها أن يزوجها في هذه الحال ؟ نقول : الأصل عدم الجواز ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام " لا تنكح البكر حتى تستأذن " . وهذه بكر فلا نزوجها حتى تبلغ السن الذي تكون فيه أهلاً للاستئذان ، ثم تستأذن .
لكن ذكر بعض العلماء الإجماع على أن له أن يزوجها ، مستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها ، وقد ذكرنا الفرق .
وقال ابن شبرمة من الفقهاء المعروفين : لا يجوز أن يزوج الصغيرة التي لم تبلغ أبداً ، لأننا إن قلنا بشرط الرضا ، فرضاها غير معتبر ، ولا نقول بالإجبار في البالغة ، فهذه من باب أولى .
وهذا القول هو الصواب ، أن الأب لا يزوج بنته حتى تبلغ ، وإذا بلغت فلا يزوجها حتى ترضى ...." .
ثم قال " لكن هاهنا مسألة ، وهي أن المرأة إذا عيّنت من ليس بكفء ، فإن الأب لا يطيعها ، ولا إثم عليه ، ويقول : أنا لا أزوجك مثل هذا الرجل أبداً ، ولكن إذا عينت كفؤاً ، فعلى العين والرأس " ا هـ . باختصار .
قلت : كلام الشيخ العثيمين في منع إجبار البكر البالغ , موافق لعموم الأدلة , وهو اختيار أهل التحقيق , كما تقدم , لكن قوله في منع تزويج البكر الصغيرة غير صواب , فقد تقدم كلام الأئمة في جواز ذلك , وحكاية الإجماع عليه , وقد دلت عليه أيضا نصوص الكتاب والسنة .
أما نصوص الكتاب , فقد ذكرنا آيتي سورة النساء , في حكم تزويج اليتيمة , وهي الصغيرة التي لم تبلغ , وما جاء في سبب نزولها , وهي صريحة في بيان المقصود .
فإذا صح تزويج اليتيمة , كان تزويج الصغيرة التي لها أب من باب أولى .
وكذلك آية سورة الطلاق في عدة المطلقة التي لم تحض بعد , وهي الصغيرة المدخول بها , وعدتها ثلاثة أشهر .
وأما نصوص السنة , فمنها حديث عائشة في تزويجها وعمرها ست سنين . وكذلك الأحاديث الواردة في استئذان اليتيمة .
وقد صح عن جمع من الصحابة أنهم تزوجوا بصغيرات السن , كما تقدم .
تنبيـــــــه
لكننا نقول بعد ذلك : إن الصغيرة , يتيمة كانت أو غير يتيمة , لا يحل أن تزوج إلا إذا كان في زواجها غبطة لها ومصلحة , وأما تزويجها لمصلحة الولي , أباً كان أو غيره , فهذا لا دليل عليه , والأدلة تعارض مثل هذا النكاح , ومنها ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) , فإذا كان قد منع من تزويج اليتيمة إذا لم يقسط لها في المهر , فلأن يمنع من تزويجها بما هو أهم من ذلك من باب أولى . ولا ريب , أن تزويجها بمن لا يصلح لها من الرجال , إما لكونه طاعنا في السن هرماً , لا يقدر على أن يقوم بحقها , أو أن يكون معيباً , أو نحو ذلك , ممن لا يرجى نكاحه , وممن لا يرضاه العاقل المنصف لموليته , لا ريب أن منعها من مثل هذا أولى , فليس هناك غبطة ولا مصلحة للصغيرة ترجى من مثل هذا النكاح .
وليس كبر سن الرجل عيباً على إطلاقه , بل قد يكون كبيراً في السن , لكنه لم يصل إلى درجة الهرم أو الخرف , وقد يكون وافر العقل طيب القلب سمح النفس كريماً جواداً رحيماً , أفضل لها بألف مرة من شاب غليظ الطبع ثقيل الظل قليل المال , ناقص الدين والعقل .
ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهــاً } [ النساء 19 ] ,
وقوله تعالى أيضاً { ولا تضاروهن } [ الطلاق 6 ] , مع قوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " انظر جامع الأصول ( 6/644 ) وهو من قواعد الدين وأصوله .
ولهذا فإن ابن عبدالبر قال في التمهيد [ 19/98 ] (( قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى : إذا كانت المرأة بكراً , كان لأبيها أن يجبرها على النكاح , ما لم يكن ضرراً بيناً )) اهـ . وقال في موضع آخر [ 19/101 ] في تخيير من أكرهت على النكاح " يحتمل أن يكون ورد في من زوجها أبوها من غير كفء ومن يضربها"
هذا وقد جاءت الشريعة بحفظ الضرورات الخمس ، ومنها : النفس . ولا ريب أن هذه الصغيرة لا يؤمن عليها عند من لا يخاف الله فيها ولا يرعاها ، وهي أسيرة عند زوجها كما جاء في الحديث " استوصوا بالنساء خيراً ، فإنما هن عوان عندكم " رواه الترمذي [ 3087 ] من حديث عمرو بن الأحوص .
والعواني : جمع عانية ، وهي الأسيرة .
فالصغيرة إذا كان في تزويجها مصلحة لها وغبطة ، فإن لوليها أن يزوجها ، وليس ذلك من التعدي على حقوقها ، كما يقال في تصرف الوصي في مال اليتيم ، فإنه يجوز له أن يشتري له ويبيع دون أخذ إذنه إن كان في ذلك غبطة له ، ولا يحل له أن يتصرف في ماله فيما يعود عليه بالضرر ، وكذلك يقال في تزويج الصغيرة . لكن إذا كانت يتيمة فإنها لا تزوج إلا إذا بلغت سناً يصلح فيه أن تستأذن وتستأمر .
القسم السادس : الثيب البالغ
وهذه لا ينبغي أن يختلف في حكمها ، وأنها لا تزوج إلا بأمرها ، ولا إجبار عليها ، لا من أب ولا من غيره .
قال ابن قدامة في المغني [ 9/406 ] " الثيب تنقسم قسمين ، كبيرة وصغيرة ، فأما الكبيرة فلا يجوز للأب ولا لغيره تزويجها إلا بإذنها في قول عامة أهل العلم ، إلا الحسن قال : له تزويجها وإن كرهت .
والنخعي قال : يزوج بنته إذا كانت في عياله ، فإن كانت بائنة في بيتها مع عيالها استأمرها .
قال إسماعيل بن إسحق : لا أعلم أحداً قال في البنت بقول الحسن ، وهو قول شاذ ، خالف فيه أهل العلم والسنة الثابتة ، فإن الخنساء ابنة خدام الأنصارية روت أن أباها زوجها وهي ثيب ، فكرهت ذلك ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فردّ نكاحه . رواه البخاري والأئمة كلهم .
قال ابن عبدالبر : هذا الحديث مجمع على صحته والقول به ، لا نعلم مخالفاً له إلا الحسن ". اهـ .
قلت : كلام ابن عبدالبر عن حديث الخنساء ، في التمهيد [ 19/318 ] . ولا حاجة بنا إلى التطويل في حكم هذا القسم من النساء ، فإننا قد نقلنا في القسم السابق كلام الأئمة في منع إجبار البكر البالغ ، فالثيب البالغ أولى بأن يمنع إجبارها .
قال المهلب : اتفق العلماء على وجوب استئذان الثيب ، والأصل فيه قوله تعالى { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا } فدل على أن النكاح يتوقف على الرضا من الزوجين . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئذان الثيب ، وردّ نكاح من زوجت وهي كارهة .. " اهـ . باختصار من فتح الباري [ 12/ 341 ] .
الخلاصـــة
لخص ابن حجر أقسام النساء في حكم الإجبار ، فقال " فالثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقاً ، إلا من شذ ، والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقاً إلا من شذ ، والثيب غير البالغ اختلف فيها : فقال مالك وأبو حنيفة : يزوجها أبوها كما يزوج البكر ، وقال الشافعي وأبويوسف ومحمد : لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره ، والبكر البالغ يزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء ، واختلف في استئمارها ، والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت ، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم .
وقد ألحق الشافعي الجد بالأب . وقال أبوحنيفة والأوزاعي في الثيب الصغيرة يزوجها كل ولي ، فإذا بلغت ثبت الخيار .. " اهـ . باختصار من فتح الباري [ 9/191 ] .
مســألة : الفرق بين الاستئمار والاستئذان
ورد في الأحاديث السابقة أن الثيب تستأمر ، والبكر تستأذن ، فما الفرق بينهما ؟
قال ابن الأثير " إنما قال في حق الأيم " تســتأمر " وفي حق البكر " تســتأذن " ، لأن الاستئمار طلب الأمر من قبلها ، وأمرها لا يكون إلا بنطق ، وأما الاستئذان فهو طلب الإذن ، وقد يُعلم إذنها بسكوتها ، لأن السكوت من أمارات الرضا " اهـ انظر جامع الأصول [ 11/461 ] .
قلت : ورد في بعض ألفاظ الأحاديث السابقة أن البكر تستأمر ، كما ورد أن الثيب تستأذن .
ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت " قلت يا رسول الله ، تستأمر النساء في أبضاعهن ؟ قال : : سكاتها إذنها " رواه البخاري ومسلم . انظر جامع الأصول [ 11/461 ] .
وفي حديث ابن عباس " الأيم أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها " رواه مسلم ومالك وغيرهما . انظر جامع الأصول [ 11/460 ] .
لكن ورد في لفظ آخر في هذا الحديث " والبكر تستأمر ..." .
قال ابن عبدالبر " كذا قال " تستأمر " لفظ مطرِّف ، وعامة رواة الموطأ يقولون : تستأذن " انظر التمهيد [ 19/75 ] .
وقد جاء في الموطأ [ ص 525 ] أن الإمام مالكاً بلغه أن القاسم بن محمد ، وسالم بن عبدالله ، كانا ينكحان بناتهما الأبكار ، ولا يستأمرانهن " .
قلت : وجاء في خصوص اليتيمة أنها " تستأمر " ولم يفرِّق بين ثيب وبكر . وهذا يدل على أن الاستئمار قد يأتي بمعنى الاستئذان ، حتى لو قيل إن ذلك من تصرف الرواة .
ويكون الفرق بين الثيب والبكر هو في أمر آخر ، وهو أن الثيب أحق بنفسها من وليها ، وأما البكر فالولي أحق بها .
وقد أشار إلى هذا المعنى ابن عبدالبر ، حيث قال " ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الأيم أحق بنفسها من وليها " ، دل على أن الأيم – وهي الثيب – أحق بنفسها ، وأن لوليها مع ذلك أيضاً حقاً .
لأنه لا يقال : فلان أحق من فلان بكذا ، إلا ولذاك فيه حق ، ليس كحق الذي هو أحق به منه .
ودلّ أيضاً على أن لولي البكر عليها حقا فوق ذلك الحق , والفرق بينهما : أن ذلك الولي لا ينكح الثيب إلا بأمرها , وله أن ينكح البكر بغير أمرها .. " ونسب هذا القول إلى بعض أهل العلم , ثم
قال " وذكر المزني وغيره عن الشافعي أنه قال : وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم " الأيم أحق بنفسها من وليها , والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها " , دلالة على الفرق بين الثيب والبكر في أمرين , احدهما : أن إذن البكر الصمت , والتي تخالفها الكلام .
والآخر : أن أمرهما في ولاية أنفسهما مختلف , فولاية الثيب أنها أحق من الولي , والبكر مخالفة لها , لاختلافهما في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم , ولو كانتا سواء , كان لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أنهما أحق بأنفسهما .." إلى أن قال " وأما الاستئمار للبكر , فعلى استطابة النفس , قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم { وشاورهم في الأمر } لا على أن لأحد رد ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكن لاستطابة أنفسهم , و ليقتدى بسنته فيهم .." اهـ باختصار من التمهيد [ 19 / 78 ـ 80 ] .
وقال ابن عبد البر " قال إسماعيل بن إسحاق : إنكاح غير الأب لا يجوز إلا بأمر المرأة , وأما الأب فيجوز إنكاح ابنته البكر بغير أمرها .." إلى أن قال " وإنما كان في الحديث معنيان , أحدهما : أن الأيامى كلهن أحق بأنفسهن من أوليائهن , وهم من عدا الأب من الأولياء , والمعنى الآخر : تعليم الناس كيف تستأذن البكر , وأن إذنها صماتها , لأنها تستحي أن تجيب بلســانها .." اهـ باختصار من التمهيد [ 19 / 83 ] .
وقال ابن عبد البر " وقال داود وأصحابه في قوله " الأيم أحق بنفسها من وليها " , هي : الثــيــب , ولها أن تزوج نفسها بغير ولي , والبكر يزوجها وليها , ولا تتزوج بغير ولي , لقوله صلى الله عليه وسلم " لا نكاح إلا بولي " وهذا على الأبكار خاصة , بدليل قوله الثيب أحق بنفسها , واحتج أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم " ليس للولي مع الثيب أمر " , وبحديث خنساء .." انظر التمهيد [ 19 / 97 ] .
وقال ابن تيمية رحمه الله " لاتنكح البكر حتى تستأذن , ولا الثيب حتى تستأمر " , فذكر في هذه لفظ " الإذن " , وفي هذه لفظ " الأمر", وجعل إذن هذه الصمات ,كما أن إذن تلك النطق .
فهذان هما الفرقان اللذان فرق بهما النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب , لم يفرق بينهما في الإجبار وعدم الإجبار , وذلك لأن البكر لما كانت تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها , لم تخطب إلى نفسها , بل تخطب إلى وليها , ووليها يستأذنها , فتأذن له , لا تأمره ابتداء , بل تأذن له إذا استأذنها , وإذنها صماتها . وأما الثيب , فقد زال عنها حياء البكر , فتتكلم بالنكاح , فتخطب إلى نفسها , وتأمر الولي أن يزوجها , فهي آمرة له , وعليه أن يطيعها فيزوجها من الكفء إذا أمرته بذلك . فالولي مأمور من جهة الثيب , ومستأذن للبكر , فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم " اهـ . المجموع [ 32 / 24 – 25 ] .
وقال ابن قدامة في المغني [ 9 / 407 – 409 ] في شرح قول الخرقي " وإذن الثيب الكلام وإذن البكر الصمات " , " وأما الثيب , فلا نعلم بـين أهل الـعلم خلافا في أن إذنـها الكلام , للخبر , ولأن اللسان هو المعبر عما في القلب , وهو المعتبر في كل موضع يعتبر فيه الإذن ...
وأما البكر : فإذنها صماتها , في قول عامة أهل العلم " إلى أن قال " فإن نطقت بالإذن فهو أبلغ وأتم في الإذن من صمتها " .
ثم استدل ابن قدامة بأن الثيب لابد من نطقها , بحديث " الثيب تعرب عن نفسها " رواه أحمد
[ 4 / 192 ] وغيره .
وبحديث " لا تنكح الأيم حتى تستأمر.. " الحديث .
ثم قال " يدل على أنه لابد من نطق الثيب , لأنه قسم النساء قسمين , فجعل السكوت إذنا لأحدهما , فوجب أن يكون الآخر بخلافه " اهـ باختصار .
وقال ابن حجر في الفتح [ 9 / 192 ] " كذا وقع في هذه الرواية : التفرقة بين الثيب والبـكر , فعبر للثيب بالاستئمار , وللبكر بالاستئذان , فيؤخذ منه فرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكيد المشاورة , وجعل الأمر إلى المستأمرة , ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد , فإذا صرحت بمنعه امتنع اتفاقا . والبكر بخلاف ذلك , والإذن دائر بين القول والسكوت , بخلاف الأمر , فإنه صريح في القول , وإنما جعل السكوت إذنا في حق البكر لأنها قد تستحي أن تفصح " اهـ .
مســألة : ماذا تفعل البنت إذا أكرهت على الزواج ؟
يكثر في هذا الزمان ، خاصة في الوسط القبلي ، إكراه البنات على الزواج بمن لا يرغبن فيه من الرجال ، وتحجر البنات على أبناء العمومة قسراً ، مع كونهن بالغات عاقلات راشدات ، أبكاراً أو ثيبات .
وقد تقدم أن إكراه الفتاة وإجبارها على من لا ترغبه يعد ظلماً لها ، وتعدِّياً على حقوقها ، أعظم جرماً من التعدي على مالها من غير وجه حق .
وقد ردّ النبي صلى الله عليه وسلم نكاح الخنساء بنت خدام ، لما أكرهها أبوها ، وبوب البخاري لهذا الحديث بقوله " باب : إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود " . صحيح البخاري مع الفتح [ 9/194 ] .
وقد جاء في السنن أحاديث أخرى تؤيد حديث الخنساء ، منها :
1 – حديث ابن عباس رضي الله عنهما " أن جارية بكراً أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة , فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه أبــو داود [ 2096 ] وابن ماجه [ 1875 ] و أحمد في المسند [ 1/273 ] .
لكن أعله أبو داود وغيره بالإرسال . وانتصر له ابن القيم في تهذيب السنن [ 3/40 ] وصحح الحديث .
2- حد يث عائشة رضي الله عنها في قصة الفتاة التي أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أباها زوجها من ابن أخيه ليرفع بها خسيسته , فجعل الأمر إليها , فقالت " قد أجـزت ما صنع أبي , ولكن أردت أن أعلم الناس أن ليس للآباء من الأمر شيء " . رواه النســائي [ 6/87 ] وابن ماجه [ 1874 ] .
قلت : وفي هذه الأحاديث فائدة : أن الفتاة لها أن ترفع أمرها إلى القضاء إذا أكرهت على الزواج , بكراً كانت أم ثيباً , وأنه لا حرج عليها في ذلك ولا لوم , فقد فعله من هو أفضل منها من النساء , في أفضل القرون , ولو كان عيباً لما أقرهن النبي صلى الله عليه وسلم على مقاضاة آبائهن .
وليس في اعتراض الفتاة على أبيها , أو غيره من الأولياء , ومقاضاته عقوق أو شبهة عقوق , بل هو أمر محمود ممدوح أن ترفض من تكرهه ولو كان كفئاً لها , لأنها إن عاشرت من تكرهه , فقد لا تؤدي حقه , وقد تعصيه , أو تنشز عليه , أو تمنعه من نفسها , وكل ذلك من الذنوب التي تقربها إلى النار , وتجعلها عرضة لسخط الجبار .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء " رأيتكن أكثر أهل النار " ثم ذكر سـبب ذلك فقـال " تكثرن اللعن وتكفرن العشير " . رواه البخاري [ 3/257 ] .
ولهذا خالعت امرأة ثابت بن قيس بن شماس زوجها , وعللت ذلك بقولها " إني أكره الكفر في الإسلام " . رواه البخاري . انظر الفتح [ 9/400 ] .
وتعني : أنها تكره أن تكفر العشير , وهو الزوج , وأن لا تؤدي حقه .
وإذا جاز للمرأة أن تخالع زوجها , بعد زواجها , وربما يكون لها منه أولاد , ولا يعد ذلك منها إثماً ولا عيباً , إذا خافت أن لا تقيم حدود الله معه , فلأن تقاضي أباها ووليها قبل ذلك وترد نكاح من لا ترغب , من باب أولى .
وفي الحديث الآخر " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان , لعنتها الملائكة حتى تصبح " . رواه البخاري [ 9/258 ] ومسلم [ 1436 ] .
وفي لفظ " إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها " .
وروى الترمذي [ 1174 ] من حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين : لا تؤذيه , قاتلك الله , فإنما هو دخيل عندك , يوشك أن يفارقك إلينا " .
قال ابن تيمية " ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد ، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً ، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه ، مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه ، كان النكاح كذلك وأولى ، فإن أكل المكروه مرارة ساعة ، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه كذلك ، ولا يمكن فراقه " اهـ . مجموع الفتاوى [ 32/30 ] .
قلت : وأنا أنصح كل فتاة ، أكرهت على زواج من لا ترغب ، أن تطالب بفسخ هذا النكاح قبل أن يدخل بها ، وعليها أن تجاهد في ذلك وتحتسب ، فإنها إن أصرت على موقفها فسيرضخ الأب والولي لرأيها ، ولن يستطيع أحد أن يدخلها بالقوة على زوج تكرهه ، وهي مأجورة - إن شاء الله - في رفضها ، إذا خافت أن لا تقيم حدود الله مع من تكرهه .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل القتال دون المال ، نوعاً من الجهاد ، فإن بضع المرأة ونفسها أولى بأن تجاهد من أجله من المال ، ولن تحتاج – إن شاء الله – في جهادها هذا إلى قتال . لكنها قد تتعرض لبعض الأذى والضرر المؤقت من وليها أو أهلها وقرابتها ، فلتصبر ولتحتسب ، فإن الصبر على ألم ساعة أو يوم ، أهون من الصبر على ألم العمر كله .
إن المرأة تختلف عن الرجل ، فهي لا تملك أمر نفسها إذا تزوجت ، حتى في الاستمتاع ، فإنها ستظل رهينة رغبته هو .
ولو فرض أن الرجل تزوج بمن لا يرغبها ، فهذا أهون ، لأنه لن يستمتع بها إلا برغبته ، وبإمكانه البعد عنها بقلبه وجسده متى أراد ، وبإمكانه أن يقضي وطره مع غيرها من النساء ، لأن الشرع قد أحل له نكاح أربع .
أما المرأة فعلى العكس من ذلك تماماً : ستظل رهينة من لا تطيقه على الدوام ، وكلما نظرت إليه زاد كرهها له ، لأنها قد غصبت عليه ، وكلما اقترب منها ليستمتع بها زادت كراهيتها له ، وربما فضلت الموت على أن تعاشره .
وأما إذا أنجبت منه أولاداً ، فقد يسوء الحال أكثر ، وربما قصرت في تربيتـها ورعايتـها لأولادهـا ، وتكون بذلك قد ضيعت الأمانة .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " والمرأة في بيت زوجها راعية ، وهي مسئولة عن رعيتها " الحديث . رواه البخاري ومسلم وغيرهما . انظر جامع الأصول [ 4/50 ] .
وهذا كله لو فرض أن الخاطب كان كفؤاُ للفتاة ، أما إذا كان فاسقاً أو معيباً ، فإن رفضها له يتأكد ، لأنه لا يؤمن عليها ، وقد تفتن في دينها ، فإصرارها على الرفض حينئذ أظهر في كونه من أنواع الجهاد ، لأن الجهاد إنما شرع حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله .
فامتناعها عن معاشرة من قد يفسد عليها دينها جهاد دفع ومنع ، ورايته كلمة : لا ، والإصرار عليها .
وبعد ، فقد أطلت في هذا البحث وسأفرد الكلام عن المسألة الأخرى : الكفاءة في النكاح ، في بحث آخر .
والله الموفق والهادي إلى الصواب ، وصــلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وسائر الأصحاب .
"p;l hgY;vhi td hgk;hp"
المفضلات