عندها تنهار الجدران
العلاقة الزوجية من أسمى العلاقات التي حثَّ عليها الإسلام الحنيف، وجعلها الله - سبحانه وتعالي - آيةً من آياته ؛ فقال عَزَّ من قال : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )[ سورة الروم: 22].
ويقوى كيان الأسرة بالمودة والرحمة،وتضبطه الأخلاق والسلوكيات الإسلامية التي بيَّنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العلاقة بين الزوجين.
والتسامح والتغافر بين الزوجين هو بلسم العلاقة الزوجية المحفوفة بالمبادرة إلى تنازل كل طرف عن بعض حقوقه للآخر حرصًا على دوام العلاقة بينهما، وسعيًا لتحقيق الرسالة المرجوة في بناء الأسرة المسلمة.
وتقوى الروابط الزوجية بالحبِّ الذي يزداد بين الزوجين مع إشاعة روح البهجة والسرور في أركان عُشِّ الزوجية، وتظهر روح التعاون في عطاء الزوج وتدبير الزوجة لنفقات بيتها اليومية.
وتمرُّ الأيام في هذا الجوِّ الأسري السعيد، ويمنُّ الله عليهما بالذرية الصالحة ،أو يمنعها إن شاء - سبحانه وتعالى - رحمةً بهما، فأيـَّنْ كان العطاء أو المنع فمِن الله تعالى : ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إنَاثاً ويَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإنَاثاً ويَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)[الشورى : 49،50 ].
ومن طبائع بعض الأزواج أنهم يحبُّون المنح ولا يحبُّون المنع، فيفرحون لعطاء الله لهم بالذرية، ويحزنون إذا أجَّل الله منحه لهم، وينظر كل منهما للآخر على أنه الْمُتَسَبِّبُ في عدم الإنجاب، فتتولد بينهما الشحناء، ويتدخل الشيطان بحباله وأدواته حتى يدبَّ الخلاف بينهما، ويتحول البيت من سعادة إلى كآبة، ومن فرح إلى حزن، فتسير الأمور إلى الندم على هذه العلاقة، ولسان حالهما يقول: ( يا ليتها لم تكن! )، وينسَون حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " )رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق(.
وينتظر كل منهما الآخر أن يبدأ بطلب االطلاق حتى يرتاح قلباهما، ويبحثا عن الذرية مع زوج آخر (ويا ليتها تُوجد!) وعندها ينهار الجدران.
وبيت آخر يسير بصورة طبيعية، بعد أن عرف كلٌّ من الزوجين ما له من حقوق وما عليه من واجبات، ولكن المفارقة حينما يعترض الزوج على أمْرٍ ، أو يتناقش مع زوجته ، فينطلق لسانها طالبًا الطلاق!، في كل صغيرة وكبيرة تجد الزوجة طالبة الطلاق، الطلاق!، الطلاق!، حتى يفيض الكيلُ ويقع المحظورُ ، فيلبي الزوج طلبها، عندها تنهار الجدران.
وبيت ثالث تجد فيه الزوج لا يتحدث حديثًا مع زوجته أو مع أصحابه إلا ويزينه بعبارة: (وعَلَيَّ الطلاق) ، ولا يبيع بيعًا ، ولا يشتري شراءً إلا بالطلاق!.
وتمرُّ الأيام على الزوج الذي لا يكاد يشرب شربة أو يأكل لقمة إلا بالطلاق، وَيْكَأَنَّ لفظ الطلاق له كالماء والهواء، فلا يبالي بتبعات ما يقول حتى يقع في المحظور فيُطَلـِّق على أَتْفَهِ الأقوال، عندها ينهار الجدران.
والخطأُ كل الخطأ أن يستخدم أحد الزوجين الطلاق وسيلةً للضغط أو العناد حتى يصل إلى بغيته.
فالطريق الأفضل أن يحفظ كل منهما لسانه من أن ينطق بالطلاق أو يطلبه، وأن يتخذ كل منهما الإقناعَ وسيلةً مع الآخر.
لا شك أن الطلاق هوالحلُّ الفيصل في العلاقة التي تصل إلى الطريق المسدود ، أو عندما تَفقد الرابطةُ الزوجيةُ هدفَها وقيمتَها، وهو مشروع في الإسلام ، على الرغم من بغضه؛ فالله - سبحانه وتعالى - لا يحب هذا ؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أَبْغَضُ الْحَلالِ إِلَىاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلاقُ ")رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديثمحارب بن دثار عن ابنعمر مرفوعًا(.
وليس من الضروري أن ينجح كلُّ زواجٍ ، فيختار المرء شريك حياته ويظنُّ أنه سينجح ويوفق فيه ، ويتبين له عكس ذلك ، فالاختلاف في الطِّبَاع أو العادات أو التقاليد أو المفاهيم قد يكون من منغِّصات الحياة الزوجية ، فيُحِيلها إلى جحيم لا يُطاق، وإذا لم يُشْرَع الطلاق في هذه الحالة ستكون النتيجة أن يعيش المرء مع من يكره ، فيكبت غيظه، ويُمْسِي في نكد، ويصبح في كبد، وهذا ليس المراد من الحياة الزوجية.
وعبَّر عن ذلك المتنبي بقوله : ( وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى **** عَدُوًّاً لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ )، وهذا ما فعلته بعضُ الأديان والمذاهب ؛ فالمسيحية مثلا ترى أن الطلاق لا يجوز ، وأن الزواج عشرة دائمة، وبعض الأناجيل تُجيز الطلاق لعلَّة الزِّنا ، إذا ثبت على المرأة ، وقال بعض المسيحيين: إن المرأة أحيانًا تتخلَّص من زواجها باتهام نفسها بالزِّنا ، وبعضهم لا يجيز الطلاق حتى لعلة الزِّنا.
إن الهمَّ والنكد نتيجة عدم التوافق بين الزوجين قد يستمرُّ لسنة أو اثنتين ، ولكن من المستحيل أن يستمرَّ طول العمر ، وفي هذا قال حكيم: ( إن من أعظم البلايا مصاحبة من لا يوافقك ولا يفارقك ).
حينما شرع الإسلام الطلاق كان واقعيًّا بعد أن يستنفد كل من الزوجين جميع الوسائل المتاحة لديهما ، ولم يشرعه لأوَّل مشكلة أو أوَّل نَفْرَةٍ ، كلَّا ؛ فقد قال الله تعالى : (وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء : 19].
فالإنسان يجاهد نفسه ويحاول قدر الإمكان المحافظة على هذه العلاقة، ولا يظنُّ أن صمت الآخر وصبره ضعفًا أو قلةَ حيلةٍ ، ولكنه محاولة للمحافظة على الأسرة التي بُنِيَتْ، فإن لم يكن وِفَاقٌ ففراق : (وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً) [النساء : 130].
والإنسان قبل حالة الطلاق كالذي يشعر بألم في جسده، فلا يُسَارِعُ الطبيبُ بإجراء عملية جراحية له، إنما يحاول علاجه بالأدوية المناسبة، فإن لم يُشْفَ واحتاج لإجراء جراحة حينئذ فلا بد من أن تُجرى له ، فالطلاق آخر الحلول بعد أن يستنفد الزوجان والمصلحون كل الطرق والوسائل في الإصلاح ، وعندها تنهار الجدران.
منقول
uk]ih jkihv hg[]vhk
المفضلات