منذ العصر الأيوبي ولا تزال قائمة:
قـــلاع صــــلاح الديـن.. عمـــــــارة وحضــــــارة
بقلم : أحمد أبو زيد
تعتبر القلاع من أهم المنشآت الدفاعية التي ظهرت في العصور الوسطى، وخاصة في العصر الأيوبي الذي ازدهرت فيه العمارة الحربية والدفاعية، ولا سيما القلاع والأبراج والأسوار، وانتشرت في الكثير من المدن العربية والإسلامية، وكانت القلاع تبنى على تلال وجبال مرتفعة وتطل على المدينة لتحقق لها هدف الدفاع والتحصين ضد المعتدين، وقد اهتم بها الحكام والسلاطين، وتسابقوا في تشييدها وعمارتها حتى غدت من المعالم الأثرية البارزة للحضارة الإسلامية في عصور القوة، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم في بعض المدن الإسلامية لتشهد على ما وصلت إليه العمارة الدفاعية خلال العصور السابقة من تقدم وشموخ وازدهار.
القلاع من أهم الآثار المعمارية العسكرية في العالم
وكان اختيار مكان القلعة يتم بشكل دقيق بحيث تحتل أعلى موقع في المدينة، لتمكن حاميتها من الجنود الدفاع عن المدينة ضد الغارات الخارجية المحتملة، كما كانت هذه القلاع تستخدم كمقر للحكم، حيث يسكنها الحكام من الملوك والسلاطين والأمراء، ومعهم عائلاتهم وجنودهم.
والبطل المسلم صلاح الدين الأيوبي ممن اهتموا ببناء القلاع واتخذها وسائل تحصين ودفاع في أكثر من قطر إسلامي وخاصة مصر وبلاد الشام التي مازالت تضم هذه القلاع حتى اليوم، وتعتني بها من حيث الرعاية والترميم باعتبارها أثراً تاريخياً ومعلماً سياحياً مهماً يجذب الكثير من السياح من مختلف دول العالم.
قلعة الجبل بالقاهرة
تضم مصر قلعتين من القلاع التي بناها صلاح الدين وحملت اسمه ضمن مجموعة من القلاع الحربية التي شيدت في عصور مختلفة مثل العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني، وأشهرها قلعة الجبل بالقاهرة، التي أنشأها السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي عام 1176م، في بداية العصر الأيوبي، وهو العصر الذي ازدهرت فيه العمارة الحربية من قلاع وأسوار.
وتقع هذه القلعة الشامخة فى حي "القلعة" وقد أقيمت على إحدى الربى المنفصلة عن جبل المقطم على مشارف مدينة القاهرة، وتعتبر من أفخم القلاع الحربية التى شيدت فى العصور الوسطى فموقعها استراتيجي من الدرجة الأولى بما يوفره هذا الموقع من أهمية دفاعية لأنه يسيطر على مدينتي القاهرة والفسطاط، كما أنه يشكل حاجزاً طبيعياً مرتفعاً بين المدينتين .
وقد أسس صلاح الدين هذه القلعة على ربوة من جبل المقطم، وأكمل بناءها أخوه الملك العادل عام 1208م، بهدف تأمين القاهرة ضد الغزوات المحتملة، فعندما دخل صلاح الدين القاهرة أدرك بحسه الحربي عدم وجود قلعة تحميها من الأخطار، وتكون مقراً لحاكم مصر، ولذا أمر وزيره بهاء الدين قراقوش ببناء هذه القلعة، وأقيمت بنفس التصور المعماري لقلاع سوريا، وظلت هذه القلعة مقراً للحكم في مصر منذ عام 1208م إلى عام 1874م، وهو تاريخ بناء قصر عابدين على يد الخديوي إسماعيل حيث نقل مقر الحكم إليه.
وقد وفق صلاح الدين تماماً في اختيار مكان القلعة، إذ إنها بوضعها المرتفع حققت الإشراف على القاهرة إشرافاً تاماً، لدرجة أن حاميتها كانت تستطيع القيام بعمليتين حربيتين في وقت واحد، هما إحكام الجبهة الداخلية وقطع دابر من يخرج منها عن طاعة السلطان، ومقاومة أي محاولات خارجية للاستيلاء على القاهرة.
ويعتبر السور الذي أقامه صلاح الدين حول القاهرة للدفاع عنها ضد أي اعتداء خارجي، من المنشآت الحربية المهمة التي أكملت دور القلعة في العصور الوسطى، وهو السور الذي تم اكتشافه مؤخراً، فبعد أن تولى صلاح الدين (1171 - 1193م) حكم مصر اهتم بعمران المنطقة الواقعة خارج القاهرة الفاطمية بين باب زويلة وجامع أحمد بن طولون، وقسمها إلى خطوط عدة بينها خط الدرب الأحمر الذي لايزال يعرف بهذا الاسم حتى اليوم. ويتصدر هذه المنطقة جامع الصالح طلائع بن رزيك الذي يعتبر آخر أثر من عصر الفاطميين في مصر.
وفي عام 1176م بدأ صلاح الدين في بناء هذا السور حول القاهرة بعد اتساعها العمراني في بداية عهده وظل السور لسنوات طويلة مطموراً تحت تلال من الأتربة والمخلفات والعديد من المباني الحديثة العشوائية.. حتى جرى اكتشافه حالياً بالتعاون بين المجلس الأعلى المصري للآثار وبرنامج دعم المدن التاريخية التابع لمؤسسة الآغاخان للثقافة ومقرها في جنيف، ويأتي هذا الاكتشاف التاريخي في إطار مشروع لترميم الجهة الشرقية للسور والتي تمتد بطول خمسة كيلومترات ونصف من برج الظفر شمالاً وحتى قلعة صلاح الدين جنوباً.
سياحة وثقافة
وقد تحولت منطقة قلعة صلاح الدين الأثرية بالقاهرة في السنوات الأخيرة إلى منطقة جذب سياحى للمصريين والعرب والأجانب فى ليالي الصيف الساخنة التى تشهدها القاهرة، وعادت الحياة الثقافية إلى النشاط من جديد بمنتدى دولي للكتاب عقد العام الماضي، وتبعه مهرجان القلعة للموسيقى، وأقيمت أمسيات ثقافية فى رحاب تلك المنطقة الأثرية المهمة المقامة على ربوة عالية في مواجهة جبل المقطم، وذلك بهدف تنشيط السياحة الداخلية وتعظيم الدور السياحى للمناطق الأثرية كمناطق جذب، وضمت أنشطة المنتدى أنشطة ثقافية وفنية واقتصادية وسياسية شاركت فيها دور النشر المصرية والعربية والأجنبية وقدمت فيها الحفلات الموسيقية والغنائية والمسرحية والعروض السينمائية إلى جانب الندوات واللقاءات التى شارك فيها العديد من المسؤولين.
وشهد مسرح سارية الجبل بالقلعة عرضاً لكورال الأطفال بقصور الثقافة المصرية إلى جانب العديد من العروض المسرحية الأخرى، فيما استطاع المقهى الثقافي أن يجذب أعداداً كبيرة من الجمهور خاصة من الشباب للحديث عن هموم الوطن والأمة والعالم فيما يشبه ما يحدث فى حديقة هايد بارك فى بريطانيا.
وقد بدأ استكشاف إمكانات قلعة صلاح الدين - التي يزيد عمرها اليوم عن نحو 600 عام -، كموقع فريد للإنتاج الثقافي منذ نحو عشر سنوات بتحويل أحد مقالب القمامة الكثيرة التي كانت متناثرة وراء أسوارها إلى "محكي" القلعة الشبيه بمسرح نصف دائري شاسع مكشوف ليصبح أحد القلاع الثقافية لمصر، حيث تعد قلعة القاهرة مع الخلاء المترامي تحتها خاصة في الجهة الشمالية الشرقية وسفحها النازل نحو الجمالية والحسين ثم في جانبها الغربي النازل إلى ميدان صلاح الدين حتى مسجد الإمام الشافعي أثراً غير عادي ومورداً بكراً للصناعة الثقافية والفنية الشعبية في مصر.
قلعة صلاح الدين بسيناء
وإلى جانب قلعة الجبل بالقاهرة اهتم صلاح الدين الأيوبي بإنشاء عدة قلاع في سيناء لتأمين طريق الحج الذي كان يعبر صحراء سيناء إلى الأراضي الحجازية، فقد أنشأ طريقاً حربياً كان يسمى طريق "صدر آلة"، وأنشأ عليه سلسلة قلاع أهمها: قلعة صلاح الدين بجزيرة فرعون، و"قلعة الجندي" في وسط سيناء في منطقة تقع على الحدود الإدارية بين محافظتي شمال وجنوب سيناء، وأنشئت القلعة هذه على ارتفاع 156 مترًا للتحصين، وقد هجرت هذه القلعة بمجرد استعادة صلاح الدين لبيت المقدس عام 583هـ (1187م) .
أما القلعة الأولى فمازالت موجودة حتى اليوم، وقد أنشئت عام 566هـ - (1170م)، وتقع على مسافة 60 كم من مدينة نويبع وإلى الجنوب من طابا بمسافة 8 كيلومترات، لتكون نقطة حصينة لحماية الطرق البرية والبحرية بين مصر والشام والحجاز، وتأمين طريق الحج، وكقاعدة بحرية متقدمة لتأمين خليج العقبة والبحر الأحمر من أي غزوة بحرية.
وهي عبارة عن تحصينات شمالية وجنوبية كل منهما عبارة عن قلعة مستقلة تستطيع أن تستقل بمفردها إذا ماحوصرت إحداهما، أما السهل الأوسط فقد أقيمت فيه المخازن والغرف والمسجد، وتقع على نتوءين بارزين وتحيط بها الأسوار والأبراج، وتحتوي على ثكنات للجند وفواصل للتخزين وحجرات للمعيشة وخزان للمياه وحمام ومسجد، كما عثر بها على أبراج الحمام التي استخدمت لنقل الرسائل في العصور الوسطى.
وتتميز هذه القلعة بأنها محاطة بالمياه من كل جانب، وبعيدة عن الشاطيء بنحو 250 كيلومتراً وقريبة من مصادر المياه الصالحة للشرب ويسهل إمدادها بالذخائر والمؤن وكشفها للطرق على أرض سيناء.
وقد استمرت هذه القلعة في أداء دورها في العصرين المملوكي والعثماني من حماية الطرق التجارية والسيطرة على البحر الأحمر، وحماية خليج العقبة وبلاد الحجاز من الوقوع تحت سيطرة الجيوش المعادية.
وقد حاول أرناط أمير حصن الكرك تجهيز حملة بحرية عام 1182م للاستيلاء على الجزيرة وقلعتها وشواطيء البلاد الحجازية، وحاصر جزيرة أيلة والقلعة، فقامت الحامية العسكرية الموجودة بالقلعة أثناء الحصار بإبلاغ الموقف إلى القاهرة عن طريق الحمام الزاجل، فقام الملك العادل أبو بكر أيوب نائباً عن أخيه صلاح الدين الأيوبي الذي كان بالشام في ذلك الوقت بإعداد أسطول حربي وشحنه بالمقاتلين وأبحر به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الأساطيل المصرية، فبدأ بأسطول الفرنج الذي يحاصر الجزيرة وحقق انتصاراً عليه، وفك الحصار عن الجزيرة والقلعة.
وقد تعرضت هذه القلعة التاريخية المهمة لترميم شامل منذ سنوات، وهناك قلعة أخرى في سيناء تحمل اسم صلاح الدين، وتوجد في سدر، وقد بدأ تشييدها عام 1182م وتم بناؤها عام 1187م، وتقع على مسافة 20 كم من طريق الحج القديم: السويس - نخل - العقبة.
قلعة صلاح الدين بسوريا
تضم سوريا وهي من البلاد الغنية بالمواقع الأثرية، قلعة من أشهر قلاعها تنسب إلى صلاح الدين الأيوبي، وتقع على بعد 35 كم شرقي اللاذقية، وترتفع 410 م عن سطح البحر.وهي واحدة من أهم القلاع في سوريا، ومن أكثر الحصون مناعة، وكانت توصف دائماً بأنها القلعة التي لا تقهر، فهندستها هي من أروع الهندسات العسكرية واشدها فعالية.
وهذه القلعة يعود تاريخها إلى ما قبل الدولة الأيوبية وأُعيد بناؤها سنة 513هـ (1119م)، وحررها الفاتح صلاح الدين الأيوبي سنة 1188م.
وهي قائمة على ذروة جبل قرب الحفّة، وعلى نتوء صخري شاهق ذي منحدرات عمودية وتحميها خنادق طبيعية عميقة جداً ووعرة، وترتفع جدرانها عالية فوق ملتقى جدوليْ ماء.
ورغم هذه المناعة الهائلة فقد تمكن البطل صلاح الدين الأيوبي من انتزاع القلعة خلال يوم واحد، وكان الاستيلاء عليها نموذجاً نادراً للعبقرية والاستبسال.
وحتى عام 1965م لم يكن الوصول إلى القلعة ممكناً إلا مشياً على الأقدام، أما اليوم فلها جسر وطريق عبور، وأصبح للزوار طريق جيدة توصلهم إليها بسهولة بعد إيقاف سياراتهم في قاع الخندق العجيب.
وقد خضعت هذه القلعة لترميم شامل، وزارها 29915 سائحاً عام 1999م.
وهي تقف اليوم كأثر تاريخي مهم إلى جانب عشرات القلاع التاريخية التي تضمها سوريا، مثل قلعة دمشق التي أنشئت عام 1205م في عهد الملك العادل وأولاده، وكانت مقراً لقيادة الجيش في العهد المملوكي والعثماني، ثم أصبحت مقراً للشرطة والسجن، ولقد تمكنت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا من إخلائها عام 1984م ووضعت برنامجاً لترميمها وباشرت ذلك في نهاية 1984م وتعتبر القلعة أهم الشواهد المعمارية العسكرية في العالم وهي مقر عتيد للنشاطات السياحية والثقافية.
وقلعة حلب وهي نواة المدينة القديمة، أنشئت في القرن التاسع أو الثامن ق.م، وتعود في وضعها الحالي إلى العهد الأيوبي، وقلعة الحصن التي تعتبر أجمل قلاع العصور الوسطى وأهمها وقد أنشئت عام 1110م، وقلعة المرقب التي تقوم على رابية ضخمة تشرف على بانياس والطريق الساحلي، وقلعة الرحبة التي تقع على مرتفع صخري وعلى بعد 5 كم جنوبي بلدة الميادين وتبعد مسافة 40 كم من دير الزور
المراجع
• في العمارة الاسلامية - الدكتور كمال الدين سامح - مطبوعات معهد الدراسات الاسلامية - القاهرة 1974م.
• آثار مصر الاسلامية ذ مطبوعات الهيئة المصرية العامة للتنشيط السياحي
• عواصم مصر الإسلامية - الجزء الثالث - حسن الرزاز - سلسلة كتاب الشعب - القاهرة 1996م.
• موسوعة المجالس القومية المتخصصة - ملامح ثروة مصر الأثرية والسياحية - المجالس القومية المتخصصة - مصر 1992م.
• جريدة الشرق الأوسط - العدد 11955 -23 ذو الحجة 1421هـ - 18 مارس 2001م.
• سور صلاح الدين بالقاهرة - الراية القطرية - 5 يناير 2000مrJJJghu wJJJJghp hg]dJk>> ulJJJJJJJhvm ,pqJJJJJJhvm
المفضلات