في بلدةٍ بعيدةٍ.. كانَ هنالك ولدٌ صغيرٌ اسمهُ علي..
عاش عليٌّ في بلدته الهادئة التي تنتشر في سهولها وعلى تلالها وجبالها الأشجار المثمرة على أشكالها وأنواعها.. وتزينها الورود.. ويكسو أرضها بساط أخضر يملأ أنحاء البلدة معظم شهور السنة.. فتبدو البلدة في أجمل صورة وأبهى حلة على الدوام...
نشأ عليٌ في هذا الجو البديع.. يلهو ويلعب.. ويتعلم في مدرسة البلدة..
***
في أحد الأيام.. كان علي يلعب مع أصدقائه الصغار في باحة المسجد الخارجية لعبة (كرة القدم).. وكان الأولاد يصرخون ويرفعون أصواتهم من شدة حماستهم.. وفرحهم باللعبة.. وفي ركلة قوية من عليّ أصابت الكرة أحد أصدقائه الذي لم يتمالك نفسه فوقع أرضاً من قوة الركلة.. فنشبت بينهما مشادَّة.. فغضب علي وهمّ بضرب الفتي.. وقد كان علي أقوى منه..
وكان رجل شيخ يراقب هذا المشهد.. فنادى علياً بصوت المحب:
إهدأ يا ولدي.. وكن كأبي تراب.. فأنت تحمل اسمه..
***
عنما سمع الصغار هذا الصوت تجمَّدوا في مكانهم..
لم يتوقعوا وجود أحد قرب المسجد في هذا الوقت الحار من النهار، فقد مضى على صلاة الظهر أكثر من ساعة.. وذهب المصلون إلى بيوتهم.. لكن شقاوة الصغار تأبي أن ترتاح في وقت الظهيرة.. حيث يحلو اللعب والمرح والصراخ بعيداً عن الآخرين..
****
نظر الصغار نحو الشيخ الكبير.. كانوا يعرفونه جيداً.. فهو يحافظ على الصلاة دائماً في المسجد.. لكنهم لم يروه سابقاً في غير أوقات الصلاة.. فنادراً ما يخرج من بيته لغير الصلاة..
لم يكن كثير الكلام..
يؤدي الصلوات في أوقاتها...
يجلس في زاوية من زوايا المسجد.. يقرأ صفحة أو صفحتين من القرآن الكريم.. ثم يعود إلى بيته مستنداً إلى عكازه.. يستند عليها وقد انحنى ظهره إلى الأمام، وتطاولت لحيته البيضاء الناعمة.. التي كانت تلمع تحت أشعة الشمس، فتبدو في حسنها وجمالها مثل الذهب اللامع المضيء..
***
نظر الأولاد نحو الشيخ باستغراب.. وتحوّل ما كان من صخبهم ولعبهم إلى هدوء وسكينة..
وتوقف الأصدقاء عن اللعب وتركوا الكرة... ولم يكونوا قد لاحظوا من قبل وجود الشيخ قربهم، ولم ينتبهوا إلى أنّه كان يتابع لعبهم ومرحهم.. وكذلك خصامهم..
وكان علي وصديقه خجلين من نفسيهما لرفعهما صوتهما عالياً وهم في ظلال المسجد.. وقريباً من مئذنته..
****
لم يتكلم الصغار كلمة واحدة..
لم يكن المشهد بالنسبة لهم عادياً..
الرجل لم يعتد أن يجلس مرة واحدة في هذا المكان.. ربما كان يجلس في الماضي، وليس على أيامهم وفي حدود أعمارهم الصغيرة..
كان الرجل طويل القامة ممتداً.. وبشرته تميل إلى الاسمرار.. ويكلل رأسه شيب مثل الثلج الأبيض... وكان شعر رأسه ولحيته ناعماً غزيراً.. وفي ملامحة قوة الرجولة.. وفي كلامه بلاغة الرصانة والحكمة.. لذا لم يكن أحد من الصغار وربما الشباب، يجرؤ على التحدث إليه.. مع أنّ الرجل لم يكن مخيفاًً.. لكن كبر سنه.. ونحول جسمه، وندرة خروجه من المنزل.. كل ذلك كان حائلاً بينه وبين الجيل الجديد من أبناء البلدة.. خاصة أنّه من بين أكبر رجال البلدة سناًَ.. إن لم يكن أكبرهم على الاطلاق..
****
عندما سمع الأطفال صوت الرجل ورأوه ينظر إليهم؛ نظر بعضهم إلى بعض أن "هيا نغادر المكان".
عليٌ كان إحساسه غير ذلك..
وفي الوقت الذي تراجع الأطفال فيه إلى الخلف.. ظلّ علي واقفاً في مكانه يترقب..
فناداه الأصدقاء ليذهب معهم كل إلى بيته.. لكنّه ظل واقفاً ولم يتحرك..
كان الرجل يتأمّل المشهد بصمت، راسماً ابتسامة طيبة على شفتيه..
أراد علي الاقتراب من الرجل ليسلم عليه ويصافحه بيده..
طلب منه أصدقاؤه أن يبقى بعيداً عنه..
لكن علياً سار نحو الشيخ وكأنه لم يسمع كلمة واحدة.. وبسط يده مصافحاً... فرحب به الشيخ ودعاه للجلوس معه على مقعد قريب.. ونادى الأصدقاء الصغار للتقدم.. فتقدموا وهم على رهبة من هذا الشيخ الوقور..
فقال مطئناً: أجلسوا يا أحبائي.. ما بكم هكذا تجمدتم في مكانكم؟؟ أنا مثل جدكم.. اجلسوا ولا تخافوا..
فجلس الصغار.. متعجبين من صوت الرجل الرخيم.. ونطقه البليغ السليم..
****
قال عليٌّ بعد أن اطمأنَّ هو واطمأنَّ مثله الجميع:
لماذا قلت لي يا جدّنا كنْ كأبي تراب..
قال الشيخ الوقور والابتسامة تزيِّن وجهه الجميل:
يا بنيّ الحبيب.. أنا أعرف كل أبناء بلدتنا تقريباً.. وجدك (علي) رحمه الله كان صديقي.. وأنت يا عزيزي تحمل اسم جدك.. لقد مات صغيراً - رحمه الله - كان طيباً وأنت طيب مثله.. وقد ساءني أن تتعارك مع صديقك وابن بلدتك.. وانتما تصليان في مسجد واحد..
قال عليٌ: نحن لم نكن نتعارك.. وهذا ما يحدث مع كل الصبيان وفي كل مناسبة.. وقد اعتدنا على ذلك.. نتعارك ثم نتصالح.. ولكن ما علاقة عراكنا باسمي وبكنية أبي تراب؟؟!
قال الشيخ: بارك الله بكم يا أحبائي... ونحن أيضاً كنا مثلكم..
ثم ضحك الشيخ ضحكة من القلب شعر كل الصغار بعدها أنّه قريب منهم..
فقال الشيخ: آه يا أبنائي.. يا ليتني كنتُ أستطيع اللعب معكم كرة قدم.. إنَّها لعبة جميلة.. لكن كيف ألعب وأنا احمل هذه العصا الغليظة..
وقال ممازحاً: لو لعبت معكم سأغلبكم جميعاً لذا لا توجهوا الكرة نحوي بل نحو عصاتي... فسوف أقع على الأرض فوراً..
فضحك الصغار من لطف الشيخ..
****
هنا قالَ علي: با شيخنا.. أكرّر سؤالي لو سمحت لي؛ كنيتني بأبي تراب.. لماذا يا شيخ.. ولماذا قلت لي كن كأبي تراب.. وما علاقة ذلك باسمي..
قال الشيخ بعدما أجال بصره في البستان القريب.. ثم عدّل عمامته على جانب راسه.. وأمسك لحيته بحركات متتالية:
عندما شاهدتكما تتعاركان.. قلت لك كن كأبي تراب.. لأنّ اسمك علي.. وكنية ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، علي بن أبي طالب رضي الله كانت (أبا تراب).
فقال الأطفال جميعاً: صلى الله وسلم على رسولنا الكريم وآله الكرام الأطهار ورضي الله عن صحابته أجمعين..
وتابع الشيخ يقول: لقد كان علي رضي الله عنه قوي البنية فارساً من الفرسان الأشداء.. لكنَّه مع قوته وشدّته كان لطيفاً مع أصدقائه وأقرانه، وخاصة الضعفاء منهم، وكان يسامح من أساء إليه، ويساعد من يحتاجه..
تأمّل عليّ كل ما قاله الرجل العجوز ففهم مقصده..
****
التفت الرجل إلى صديق علي وقال له: وأنت يا بني.. اسمك عمر أليس كذلك..؟
فقال الصغير وقد أصابته الدهشة: نعم يا عمي.. ولكن كيف عرفت اسمي؟
قال الرجل: ألم أقل لكم إني أعرف معظم أبناء بلدتنا.. لكني في الحقيقة لا أعرف كل الأطفال.. أعرف فقط من يرتاد المسجد بانتظام.. أحفظ اسماءهم من مناداتهم لبعضهم بعضاً..
نظر الشيخ إلى الأطفال وكانوا يستمعون إلى كلامه بدهشة.. ثم راح يشير بطرف عكازه نحوهم واحداً واحداً ويقول: أنت اسمك عامر، وأنت شهاب، وأنت عبد العزيز، وأنت محمد، وأنت عبيدة.. وسماهم جميعاً بأسمائهم وكانوا أكثر من عشرة أولاد...
نظر الأولاد إلى الرجل العجوز مستغربين من شدة انتباهه وقوة ذاكرته..
***
وتابع حديثه قائلاً: عندما رأيت علياً وعمر يتجادلان.. صحت وقلت لعلي: كن كأبي تراب.. وأقصد أن يكون صديقاً صدوقاً محباً وفياً وحامياً ومدافعاً عن صديقه عمر، كما كان عليٌ رضي الله عنه صديقاً صدوقاً وفياً مخلصاً لصديق عمره عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعاً.. لا أنْ يكونا خصمين يكره أحدهما الآخر..
عندها قال عبيدة.. وكان الجميع يريدون أن يعرفوا سر هذه الصداقة بين هذين الرجلين العظيمين التي يتحدث الشيخ عنها، وأحدهما من آل بيت النبي الكريم والآخر من كبار صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
قال عبيدة: حدثنا يا عمي عن سر هذه الصحبة المباركة؟
****
سُرّ الشيخ من نباهة عبيدة وذكائه.. وحبّه للتعرف والتساؤال عمّا يريد معرفته..
فقال له: سؤالك طيب يا عبيدة.. وسأجيبك بكلّ بساطة ويسر إنّ شاء الله تعالى.. لقد كان الرجلين شديدا الشجاعة والحكمة والصّلابة في الدفاع عن الدين.. وكانا متقاربين في كلّ المناسبات.. في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبعد وفاته.. وبقيا صديقين حتى استشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد لؤلؤة المجوسي الذي اغتاله وهو يصلي في الناس إماماً.. فأوصى عمر بالخلافة بين ستة رجال يتشاورون ليختاروا من بينهم خليفة للمسلمين.. وكان علي رضي الله عنهم جميعاً واحداًً منهم.. وبعد وفات عمر لم يكن علياً عليه السلام يذكره إلا بخير..
****
وسكت الرجل قليلاً.. وطلب أن يحضر له أحد الصغار قليلاً من الماء ليشرب.. فهبوا جميعاً يتسابقون إلى ذلك.. فسبقهم علي.. وأحضر كوباً من الماء.. شربه الرجل وقال لعلي: اسقاك الله من ماء الجنة يا أبا الحسن..
فتعجب علي وقال: ها أنت تكنيني بكنية أخرى..
فضحك الشيخ وقال: هذه كنية ثانية لعلي رضي الله عنه.. هل نسيت أنّه والد سيدي شباب الجنة.. الحسن والحسين عليهما السلام..
قال علي: نعم.. نعم.. هذا صحيح.. أعذرني يا عم، فقد كنت مأخوذاً بكلامك السابق..
ضحك الشيخ من أعماق قلبه ثم قال: جزاك الله خيراً يا ولدي.. فأنا لم أضحك هكذا منذ زمن بعيد..
ورفع الرجل رأسه عالياً..
كانت الشمس تتخلل لحيته البيضاء الكثة الطويلة.. فتلمع كالذهب الأبيض.. ثم قال: اسمعوا يا شباب.. وخاصة أنت يا أبا الحسن.. وأيضاً يا أبا تراب.. إنّ الإمام علي كرّم الله وجهة.. كان من أشد الناس قرباً إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه..
فقال عمر الصغير عندها: لقد أثرت فضولي يا جدي.. وأريد أن تخبرنا المزيد عن هذه العلاقه بين علي وعمر رضي الله عنها..
****
أحنى الشيخ الكبير رأسه خشوعاً وتواضعاً حتى لامست ذقنه عصاته.. وغطت لحيته أطراف يديه وهو يضعهما على رأس العصا ويسند ذقنه على قبضة يديه..
ثم قال: هما معاً رمزٌ الشجاعة والبطولة معاً.. هما شعارٌ للأخوة في الإسلام.. الأول ابن عم رسول الله ومن آله الكرام.. والثاني نسيب آل البيت؛ من جهة محمد (صلى الله عليه وسلم) ومن جهة علي رضي الله عنه.. وعمر الفاروق أعدل من مشى على الأرض يومها.. وإذا ذكر العدل.. يذكر عمر.. وإذا ذكر عمر.. يذكر العدل..
فقال الجميع: اللهم صل على محمد وآل محمد وأصحاب محمد..
قال الشيخ وقد غمرت وجهه وقلبه علامات الرضا والسعادة: بارك الله بكم يا أبنائي.
****
ثم قال الشيخ: لقد كان الحب يربط قلبَيّ هذين الشيخين الجليلين..
فقال عمر بعد أن صمت الشيخ متأملاً: يا عمّاه، قلت إنّ عمر رضي الله عنه ناسب آل بيت النبي عليه وعليهم السلام.. من جهة النبي الكريم ومن جهة علي؟؟ كيف ذلك؟
أجبابه الشيخ: نعم يا بني.. فقد تزوج عمر بن الخطاب ابنة علي بن أبي طالب (أم كلثوم) رضي الله عنهم جميعاً، وأمّ كلثوم هي ابنة السيدة فاطمة ابنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وهذا يعني أنّ جدَّ فاطمة هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وفي هذا تشريف عظيم لا يناله إلا المقربون.. وهل يفعل ذلك إلا المحبون لبعضهم؟؟ وهل يتزوج الرجل أو يزوج ابنته رجلاً لا يحبه أو يشكّ في أمره.. فكيف ونحن أمام ابن عم رسول الله.. وصاحب رسول الله.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..
فقال أبو تراب الصغير: صدقت يا عمي..
وقال صديقه محمد: شوقتنا يا جدي للمزيد.. أخبرنا عن هذه القصة..
****
فقال الشيخ: اعلموا يا أبنائي، أنّ هذا الزواج كان نموذجاً مميزاً للعلاقة الحميمة بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين آله الأطهار.. سلام الله عليهم أجميعن.. ومنه هذا الارتباط القوي بينهما.. وهو خير دليل على متانة العلاقة بين الاثنين.. أي بين آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين صحابته الكرام.. وخاصة بين علي وبين عمر..
وتوقف الشيخ قليلا عن الكلام ثم تابع قائلاً:
عندما خطب الفاروق عمر السيدة (أم كلثوم) من أبي تراب رضي الله عنهم جميعاً.. سئل الفاروق عن السبب، فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي)..
وهنا توقف الرجل عن الكلام.. بعد أن ارتجّ صوته..
ورأى الصغار دمعة تسيل من عين الشيخ الكبير..
****
وبعد قليل تابع الشيخ حديثه قائلاً:
ومن الروايات التي تروى عن خطبة عمر لأم كلثوم رضي الله عنهما أنّه لمّا جاء يطلب الزواج منها أخبره علي أنّه يريد تزويجها لابن اخيه عبدالله بن جعفر وهو يعدها لذلك.. فأصرّ عمر على الزواج منها.. ثم أتى عمر المهاجرين وطلب منهم أن يهنئوه..
فقالوا: بم نهنئك يا أمير المؤمنين..
فقال: بأم كلثوم.. بنت علي وابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي.
استمع الأصدقاء الصغار إلى هذه القصة الرائعة وكانوا صامتين هادئين وكأن على رؤوسهم طير..
وساد صمت لحظات.. لم يقطعه سوى صوت زقزقة الطيور وحفيف أغصان الشجر..
****
ثم تابع الشيخ قائلاً:
هكذا كان عزم عمر رضي الله عنه .. وقد قبل علي أن يزوِّج ابنته لعمر.. وبذلك أكرم الله عمر بأنْ أصبحَ أكثر قرباً لبيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
فاستغرب عبدالعزيز وقال: ماذا تقصد بأنّه أصبح أكثر قرباً يا شيخنا؟
فقال الشيخ بخشوع شديد: لقد أراد عمر أن يزيد في نسبه ومصاهرته لآل بيت النبوة، فمن المعروف أنّ الرسول الكريم كان قد تزوج من ابنة عمر أم المؤمنين (حفصة بنت عمر) رضي الله عنهما.. وبذلك تكون ابنة عمر أماً لعلي.. وفي الوقت نفسه يكون عمر زوجاً لابنة علي..
فقال علي: الله أكبر!!
وقال صهيب: كم أكرم الله عمراً الفاروق بذلك؟؟ فرسول الله زوج ابنته.. وهو زوج حفيدته..
فصاح شهاب: يا لها من علاقة عظيمة تربط عمراً ببيت النبوة..!!
هنا علق الشيخ بقوله: نعم يا أولادي.. ملاحظاتكم دقيقة جداً.. وصحيح ما ذكرتم... فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرى في عمر شيئاً فيه خطأ ولو بسيط لما قبل بمصاهرته.. وكذلك علي.. فهل هنالك حجة أقوى من هذه الحجة تثبت المحبة الكبرى التي كانت تربط بين عمر وآل بيت النبوة...
فقال عامر: صدقت يا جدنا.. صدقت..
فردد الصغار من بعده: نعم.. لقد صدقت يا جدنا..
****
وعاد الصمت من جديد..
لكنَّ محمداً أصغرهم سناً قطع هذا الصمت بحماسة قائلاً: هاتَ بعد يا شيخنا.. وزدنا يا جدنا علماً.. زدنا..
فقال الشيخ: الروايات كثيرة يا أبنائي.. وأنا رجل كبير في السن.. وذاكرتي ضعيفه.. أنهكتني السنين.. وبدأت أشعر بالتعب.. لكنكم تمنحوني قوة عجيبة وأنا أتحدث معكم.. أنتم تمدوني برائحة الشباب وأنا أرى هذا البريق في عيونكم.. حفظكم الله جميعاً..
سأتابع كلامي، وعندما أصاب بالإرهاق سأتوقف عن الكلام.. وأعود إلى البيت.. لأنتظر صلاة العصر ثم أعود إلى المسجد..
فقال أحد الأطفال باستعطاف: لم يتبقَ وقت طويل.. سيؤذن لصلاة العصر بعد فترة قليلة.. أبقَ معنا..
نظر الشيخ نحو الشمس.. وتنهد من أعماق قلبه.. ثم قال: هنالك دلائل كثيرة تؤكد عمق العلاقة الحميمة بين هذين الرجلين العظيمين، سأخبركم عن بعضها.. وعسى أن تسعفني ذاكرتي.. فما رأيكم؟
****
جميع الأصدقاء أكدوا رغبتهم بالمزيد..
شعر الشيخ بانشراح.. وأسند ظهره إلى الحائط وراءه.. وألقى ببصره نحو الأفق البعيد، ثم قال: اسمعوا ما أقول واحفظوه يا أبنائي:
- عندما بويع عمر بالخلافة لم يتأخّر علي بالمبايعة..
- لقد كان عمر رضي الله عنه يستشير علياً بصورة دائمة وخاصة عندما أصبح خليفة للمسلمين.. كما كان علياً يستشير عمر على الدوام..
- استخلف عمر علياً على المدينة في ظروف وأحوال مختلفة، ومن القصص التي تروى؛ أنّه عندما ذهب عمر ليتسلم مفاتيح بيت المقدس، استخلف علياً على المدينة المنورة، فأمّنه عليها وعلى المسلمين جميعاً، وكانت الرحلة طويلة، فقد كانوا ينتقلون مشياً وعلى الدواب.. وكان الطريق بعيداً ولا يسلم أحد من المسير الطويل.. فلو حدث أي مكروه للخليفة على الطريق فإنّ علياً رضي الله عنه كان سيصبح خليفة للمسلمين..
- علي رضي الله عنه سمّى أحد أبنائه باسم عمر.. وهذا دليل عظيم.. فالأبناء هم زينة الحياة الدنيا، وعندما يسمّي الرجل ابنه على اسم رجل آخر لا شك بأنّه يحبه حباً جماً..
- وكان عمر يردد: (أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن).. يعني علياً رضي الله عنهما.
- ومن الأقوال الثابتة عن الفاروق قوله: (لولا علي لهلك عمر)، من شدة تعلق عمر به وثقته بدوره في حياة الأمة.
- عندما حج عمر في آخر عهده وقبل أن يتعرض للاغتيال كان علي معه في الحج ورافقه في مواقف كثيرة..
- ولما طعن عمر رضي الله عنه وقبيل موته شهيداً أوصى بالخلافة لستة رجال، يكون الأمر شورى بينهم يكون الخليفة واحداً منهم، وكان من بين الرجال الستة (علي) رضي الله عنه.
****
وأراد الشيخ أن يقف.. فساعده الصغار على النهوض، فقال: شكراً يا أبنائي .. لقد تعبت من الجلوس لنمشي قليلاً..
ثم قال ممازحاً: لا تتعجبوا لو سبقتكم في المشي.. وأدهشتكم في السباق..
فضحك الصغار من لطف الرجل العجوز وبساطته معهم..
ثم تابع حديثه قائلاً:
من القصص الرائعة التي تدل على هذه العلاقة الحميمة الخاصة والثقة بين الاثنين، أنّه لما ولي عمر بن الخطاب الخلافة بعد أبي بكر الصديق مكث زمناً لا يأكل من بيت مال المسلمين شيئاً.. حتى ضعف جسمه.. ولم يعد يكفيه ويكفي مؤونة بيته ما كان يربحه من تجارته لانشغاله عنها بأمور الرعية.. فأرسل بطلب أصحاب رسول الله يسألهم ويستشيرهم.. قائلاً: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟
فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: كل وأطعم.
وقال غيره مثل ذلك.. لكن عمر لم يطمئن قلبه..
فتوجه نحو علي رضي الله عنه وقال له: ما تقول أنت في ذلك؟
فقال علي: غداء وعشاء.. (يعني ما يكفيه لوجبتين في اليوم فقط).
فأخذ عمر برأي علي..
وعقب ذلك بيَّن عمر رضي الله عنه حظه من بيت المال فقال: إنّي أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيّم اليتيم، إنْ استغنيت تركته، وإنْ افتقرت إليه أكلتُ بالمعروف..
****
وقال الشيخ بعد فترة من المشي طريق قرب المسجد:
أذكر أنّي قرأتُ منذ زمن طويل.. أنَّ عمر وعثمان كان يمدح بعضهماعلى بعض.. وكان يستشير الواحد الآخر في كثير من الأمور.. ولا يرضى واحد منهما أن يقول الناس عن صاحبه ما يسوءه..
ثم قال: ومن ذلك أنّ رجلاً ذكر علياً رضي الله عنه بسوء.. فسمعه عمر.. فقال له مشيراً إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أتعرف صاحب هذا القبر؟ إنّه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب.. وعلي هو ابن أبي طالب بن عبد المطلب!! ليذكِّره بأنَّ علياً من بيت النبوة الشريفة..
ثم قال له: لا تذكر علياً إلا بخير.. فإنّك إنّ أبغضته آذيت هذا في قبره (صلى الله عليه وسلم).
****
وهنا سأل صهيب الشيخ عن حبّ عمر لعلي وهل كان يتوقف على علي وحده أم يمتد لأبنائه؟؟
فسرّ الشيخ من هذا السؤال، وقال لصهيب: أنت ولد نبيه يا صهيب.. وأستطيع أن أؤكد لك أنّ حب عمر لعلي لم يكن ليتوقف عند حب علي فقط.. فقد كان حبّه يمتد إلى أبنائه.. عليهم صلوات الله وسلامه..
فقال محمد: أرو لنا يا شيخنا حادثة تبين بعضاً من هذا الحب؟
قال الشيخ: سمعاً وطاعة يا ولدي..
في أحد الأيام كسا الخليفة عمر أبناء الصحابة كسوة جميلة.. واكتشف أنّه لم يكن هناك ما يصلح للحسن والحسين، فبعث إلى اليمن فأتي بكسوة لهما.. ثم قال رضي الله عنه: الآن طابت نفسي.
ومن الأحداث أيضاً أنّ الحسين عليه السلام جاء يوماً لزيارة عمر رضي الله عنه في مقر الخلافة، وكان عمر مشغولاً ومعه معاوية رضي الله عنه.. وكان عبدالله بن عمر يقف على الباب دون أن يؤذن له بالدخول..
فرجع الحسين...
وعندما علم عمر بذلك سأله عن سبب عدم دخوله؟ فأجابه بأن عبدالله وهو ابن عمر نفسه لم يؤذن له..
فقال عمر كلمة تشير إلى مكانة الحسين في نفسه: (أنت أحق بالإذن من عبدالله بن عمر).
****
وتابع الشيخ حديثة والصغار متحلقين من حوله.. يتمنون إلا يتوقف عن الكلام..
فقال: ومن القصص الجميلة التي تجمع بين عمر وعلي وتؤكد على الصلة الكبيرة بينهما؛ أنّ أمير المؤمنين عمر حج بالناس سنة ثلاث وعشرين للهجرة، وقبيل استشهاده بفترة قليلة، وكان شغله الشاغل في حجّه البحث عن رجل من رعيته من التابعين يريد مقابلته.
وصعد عمر جبل أبا قبيس وأطلَّ على الحجيج، ونادى بأعلى صوته:
يا أهل الحجيج من أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟
فقام شيخ طويل اللحية من قرن، فقال:
يا أمير المؤمنين، إنّك قد أكثرت السؤال عن أويس هذا، وما فينا أحد اسمه أويس إلا ابن أخ لي يقال له: أويس، فأنا عمه، وهو حقير بين أظهرنا (أي ليس له أهمية)، خامل الذكر، وأقل مالاً، وأوهن أمراً من أن يرفع إليك ذكره.
فسكت عمر كأنه لا يريده ثم قال: يا شيخ وأين ابن أخيك هذا الذي تزعم؟ أهو معنا بالحرم؟
قال الشيخ: نعم يا أمير المؤمنين، هو معنا في الحرم، غير أنّه في أراك عرفة يرعى إبلاً لنا.
****
وتابع الشيخ القصة فقال:
ركب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما على حمارين لهما، وانظرا يا ابنائي.. كان يركبان حمارين وليس فرسين ليفخرا بنفسيهما، ولم يكن معهما حرس ولا حاشية..
ثم قال: وخرجا من مكة، وأسرعا إلى أراك عرفة وكانت منطقة معروفة ترعى فيها الماشية، ثم جعلا يتخللان الشجر ويطلبانه، فإذا هما به في طمرين من صوف أبيض، يصلي إلى شجرة وقد رمى ببصره إلى موضع سجوده، وألقى يديه على صدره والإبل حوله ترعى.
****
وتوقف الشيخ قليلا عن الكلام لتعب أصابه.. فتشوّق الأصدقاء الصغار أكثر لسماع باقي القصة.. وانتظروا حتى استراح الشيخ قليلاً ثم تابع كلامه:
بعد أن رأى عمر وعلي رضي الله عنهما أويس وهو يصلي.. قال عمر لعلي رضي الله عنهما:
يا أبا الحسن إنْ كان في الدنيا أويس القرني فهذا هو، وهذه صفته.
ثم نزلا عن حماريهما ثم أقبلا يريدانه.
فلما سمع أويس حسهما أوجز في صلاته، ثم تشهد وسلم..
فتقدما إليه وقالا له: السلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فقال أويس: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فقال عمر: من الرجل؟
قال: راعي إبل وأجير للقوم.
فقال عمر: ليس عن الرعاية أسألك ولا عن الإجارة، إنما أسألك عن اسمك، فمن أنت يرحمك الله؟
فقال: أنا عبد الله وابن أمته.
فقالا: قد علمنا أنّ كل من في السموات والأرض عبيد الله، وإنا لنقسم عليك ألا أخبرتنا باسمك الذي سمتك به أمك.
فقال: يا هذان ما تريدان مني؟ أنا أويس بن عبد الله.. وكان لا يعرف أنّه يتكلم مع أطهر من الأرض في زمنه.
فصاح عمر: الله أكبر، يجب أن توضح عن شقك الأيسر.
قال: وما حاجتكما إلى ذلك؟
فقال له علي: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفك لنا، وقد وجدنا الصفة كما خبرنا، غير أنّه أعلمنا أنّ بشقك الأيسر لمعة بيضاء كمقدار الدينار أو الدرهم، ونحن نحب أن ننظر إلى ذلك.
فأوضح لهما ذلك عن شقه الأيسر.
فلما رأى علي وعمر رضي الله عنهما اللمعة البيضاء تسابقا أيهما يقبله قبل صاحبه.
وقالا: يا أويس إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أنْ نقرئك منه السلام، وأمرنا أن نسألك أن تستغفر لنا، فإن رأيت أن تستغفر لنا يرحمك الله فقد أخبرنا بأنك سيد التابعين، وأنّك تشفع يوم القيامة في عدد من ربيعة ومضر.
فبكى أويس بكاء شديداً..
****
وتوقف الشيخ عن الكلام بعد، وقد تاثر بتذكر هذه القصة كما تأثر جميع الأصدقاء الصغار..
ثم قال له شهاب: تباع يا جدي.. فقد بلغ منا الشوق غايته لمعرفة باقي هذه القصة العجيبة:
فقال الشيخ: نعم يا ولد، يرحمك الله..
ثم تابع القصة بالقول: بعد أن بكى أويس بكاء شديداً وعلي وعمر معه.. قال ودموعه تسقط على وجهه تواضعاً لله وخشوعاً أمام هذا الحظ الذي لا يناله إلا من صدق الله في السر والعلانية: عسى أن يكون ذلك غيري.
فقال علي رضي الله عنه: إنّا قد تيقنا أنك هو، ولا شك في ذلك، فادعُ الله لنا رحمك الله بدعوة وأنت محسن.
فقال أويس: ما أخصّ باستغفار نفسي، ولا أحد من ولد آدم، ولكنّه في البر والبحر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات في ظلم الليل وضياء النهار..
ثم قال أويس: ولكن من أنتما يرحمكما الله؟ فإني قد خبرتكما وشهرت لكما أمري، ولم أحب أن يعلم بمكاني أحد من الناس.
فقال علي: أمّا هذا فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأمّا أنا فعلي بن أبي طالب. فوثب أويس فرحاً مستبشرأ فعانقهما وسلم عليهما ورحب بهما.
وقال: جزاكما الله عن هذه الأمة خيراً.
فقالا: وأنت جزاك الله عن نفسك خيراً.
ثم قال أويس: ومثلي يستغفر لأمثالكما؟
فقالا: نعم، إنّا قد احتجنا إلى ذلك منك، فخصّنا رحمك الله منك بدعوة حتى نؤمن على دعائك..
****
ثم قال الشيخ: هل ترغبون يا أبنائي بأن تسمعا دعاء أويس لعلي وعمر..
فصاح الجميع: بالتأكيد يا جدنا.. اخبرنا بما دعا لهما.
قال الشيخ:
بعد أن استمع أويس إلى ماقاله علي وعمر رفع رأسه، قال قولاً قليل الكمات ولكن عمر وعلي كان يتمنيان أن يسمعاه من أويس وهذا الدعاء هو:
(اللهم إنّ هذين يذكران أنّهما أنما يحباني فيك، فاغفر لهما وأدخلهما في شفاعة نبيهما محمد صلى الله عليه وسلم).
فقال عمر مكانك - رحمك الله - (أي انتظر) حتى أدخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي، وفضل كسوة من ثيابي، فإني أراك رث الحال، وهذا مكان الميعاد بيني وبينك غداً.
وهنا توقف فالشيخ وقال: ما رأيكم يا أبنائي.. ما هو الجواب الذي رد به أويس؟
فقال عبد العزيز: والله لا ندري يا شيخ.. قل لنا.. فقد بلغ فينا الشوق مبلغه..
****
قال الشيخ: لقد كان رد أويس رداً عجيباً.. فلو حدث ذلك مع شخص آخر لفرح وجلس ينتظر المكافأة.. ولكنه قال:
يا أمير المؤمنين، لا ميعاد بيني وبينك، ولا أعرفك بعد اليوم ولا تعرفني. ما أصنع بالنفقة؟ وما أصنع بالكسوة؟ أما ترى عليَّ إزاراً من صوف ورداءً من صوف؟ متى أراني أخلِفهما؟ أمَا ترى نعليَّ مخصوفتين، متى تُراني أبليهما؟ ومعي أربعة دراهم أخذت من رعايتي متى تُراني آكلها؟
وتابع قائلاَ: يا أمير المؤمنين.. إنّ بين يدي عقبة لا يقطعها إلا كلّ مخف مهزول، فأخف- يرحمك الله - يا أبا حفص، إنّ الدنيا غرارة غدارة، زائلة فانية، فمن أمسى وهمته فيها اليوم مد عنقه إلى غد، ومن مد عنقه إلى غد أعلق قلبه بالجمعة، ومن أعلق قلبه بالجمعة لم ييأس من الشهر، ويوشك أن يطلب السنة، وأجله أقرب إليه من أمله، ومن رفض هذه الدنيا أدرك ما يريد غداً من مجاورة الجبار، وجرت من تحت منازله الثمار.
فلما سمع عمر كلامه ضرب بدرته الأرض، ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت عمر لم تلده أمه، ليتها عاقر لم تعالج حملها..
فقال أويس: يا أمير المؤمنين! خذ أنت ها هنا حتى آخذ أنا ها هنا. ويقصد أن كل واحد يذهب في طريق مختلف كي لا يلتقيان مرة ثانية
ومضى أويس يسوق الإبل بين يديه، وعمر وعلي ينظران إليه حتى غاب فلم يروه، وتوجه عمر وعلي رضي الله عنهما نحو مكة.
وهنا علق الشيخ قائلاً: إن حديث فضل أويس القرني، وأنّه لو أقسم على الله لأبرّه، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمررضي الله عنه: ( إن استطعت أن يستغفر لك فافعل) حديث ثابت وصحيح.
****
قال علي: ما أروع ما رويت لنا يا شيخنا... وهذه القصة دليل أيضاً على أنّ عمراً كان صاحباً لعلي ولو لم يكونا كذلك لم يصحبه عمر معه للبحث عن أويس ليكسب معه الدعاء له..
فقال الشيخ: صحيح يا ولدي ما تقول..
فقال عبيدة: أخبرنا يا شيخنا عن قصة أخرى تشير إلى ذكاء علي رضي الله عنه وحرص عمر على الاستفادة من هذا الذكاء.. فقد سمعت أبي يقول يوماً إن عمراً كان يقول عن علي: (إنّه يصيب ويحسن).. فما قصة هذا القول؟
فقال الشيخ: نعم يا عمر.. سأحكي لك قصة هذه العبارة.. فقد روي عن سيدنا عمر أنّه لقي حُذيفة بن اليمان فقال له: كيف أصبحت يا حذيفة؟
فقال حذيفة أصبحتُ أحب الفتنة، وأكره الحق، وأصلي بغير وضوءٍ، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.
فغضب عمر غضباً شديدا..
وفي هذه اللحظة دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا أمير المؤمنين، على وجهك أثر الغضب!
فأخبره عمر بما كان له مع حذيفة.
فقال له: صدق يا عمر؛ يحب الفتنة يعني المال والبنين، لأنّ الله تعالى قال: {إنّما أموالكم وأولادكم فتنة}، ويكره الحق يعني (الموت)، ويصلي بغير وضوء يعني أنّه يصلي على النبي بغير وضوء في كل وقت. وله في الأرض ما ليس لله في السماء أي له زوجة وولد وليس لله زوجة وولد.
فقال عمر وقد أعجبه تفسير علي لما قال حُذيفة: أصبتَ وأحسنتَ يا أبا الحسن، لقد أزلتَ ما في قلبي على حُذيفة بن اليمان.
****
دهش الأصدقاء الصغار بعدما استمعوا إلى هذه القصة الرائعة.. وكان الشيخ قد تعب من المشي.. وطلب منهم أن يعودوا معاً إلى حيث كان يجلس.. لأن موعد صلاة العصر قد اقتربت، وقد تعب من السير..
وفي طريق عودتهم.. قال عبيدة:
نسمع يا شيخنا عن خلاف كان بين علي وعمر رضي الله عنهما.. فما صحة هذا الخلاف؟
فتنهد الشيخ تنهيدة المتألم الموجوع وقال:
يا بني.. عن أي خلاف تتحدث.. وأنت تسمع وترى كل ما رويته لك من أحداث تؤكد ما كان بين الرجلين من حب وود.. أمّا الخلافات فهي تحدث بين الناس جميعاً.. قد يختلف المحبون بالرأي لكنهم لا يتعاركون ويتخاصمون ويحارب بعضهم بعضاًَ..
كان عمر من شدة حبه لعلي وثقته به يقول عنه: (ما من معضلة ليس لها أبو الحسن).
****
ثم قال الشيخ: وانظروا يا أبنائي وتأمّلوا في رواية مسلم عن ابن عباس يقول فيها إنّه وبعد أن وضع عمر بن الخطاب على سريره بعد طعنه جاء الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وابن عباس فيهم.
ثم قال ابن عباس: فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم علي عمر وقال:
(ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك إني كنت أكثر أسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو ولأظن أن يجعلك الله معهما..
****
فقال محمد وقد دمعت عيناه: يا لهذه الواقعة يا شيخنا.. زدنا من بعض ما عندك أكثر فأكثر..
فقال الشيخ: يروي البخاري على لسان الإمام علي رضي الله عنه جواباً على سؤال ولده محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟
فقال: أبو بكر.
قلت ثم من؟
قال: ثم عمر.
وخشيت أن يقول عثمان فقلت ثم أنت؟
فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين..
وعلق الشيخ قائلا: لاحظوا يا أبنائي أن هاتين الروايتين الأخيرتين تثبتان رضا الإمام علي عن عمر ومودته له واعترافه بأفضليته عليه، وتظهران مدى تواضع علي ومكانة عمر في نفسه رضي الله عنهما.. مما ينفي وجود أي خلاف أو عداء بين هذهين الرجلين العظيمين..
****
وفي هذا اللحظة.. صدح صوت المؤذن في السماء ينطلق معلناً دخول وقت صلاة العصر..
فتوقف الرجل عن الكلام.. ثم قال: هيا يا أبنائي إلى المسجد.. نجدد وضوءنا ونستعد للصلاة..
فقال عمر: نرجو الله يا شيخنا أنْ نلتقي في يوم آخر لتحدثنا عن سيرة هذين الرجلين العظيمين.. والعلاقة الطيبة بينهما.. ففي كل ما حدثنتا عبر ودروس لا تنسى..
فصاح الأطفال جميعاً باستعطاف: نعم يا شيخنا.. نعم.
فقال الشيخ: سامحوني يا أبنائي.. فأنا رجل عجوز.. ولكني سأحاول كلما شعرت بقوة.. مثلما شعرت اليوم..
ثم قال: هيا بنا الآن.. وعسى أن يمنحنا الله القوة والعافية دائماً..
فصار الأصدقاء الصغار يدعون له.. ويرجون له الصحة الدائمة..
ثم دخلوا معاً إلى المسجد لأداء الصلاة..
قصة: د.طارق البكريhgado ,hgHw]rhx
المفضلات