الحمد لله, ما كنا لنهتديَ للهدى لولا هداه, وأفضل صلاة وأتم تسليم على نبي الرحمة المُهداة, وعلى آله وصحبه ومن والاه. تحية طيبة, وبعد:
لا يخفى على من تبصَّر فينا بأحكام الإسلام, وفَهِمَهَا حَقَّ فَهْمِهَا, أن الله_ Y _قد أمر بأوامر, ونهى عن نواهٍ. والأوامر التي أمرنا الله بها هي التي على فعلها مدار العزة بالدنيا والآخرة, : ]فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[, (طه: 123). وعليه, هذا يستوجب منَّا أن نتقن تأدية هذه الأوامر؛ لأن الله سيحاسبنا على ما قدمت أيدينا, : ]وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[, (التوبة: 105).
ورد في الطبري في تفسير هذه الآية:" يقول: فسيرى الله إن عملتم عملكم، ويراه رسوله والمؤمنون، في الدنيا. (وستردون)، يوم القيامة، إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركم وظواهرها؛ (فينبئكم بما كنتم تعملون)، يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون: وما منه خالصًا، وما منه رياءً، وما منه طاعةً، وما منه لله معصية، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ".
وعوداً على بَدْءٍ, فإن القيام بهذه الأوامر يقتضي منا كل جهد؛ لإتقانها, فالله يحب إذا عمل عبده عملا, أن يتقنه, ولا بد للعمل حتى نتقنه من شروط, وهي:
أولا_الإخلاص:
الحديث عن الإخلاص كثير وواسع، وكُتُبُ العُلماءِ_ رحمهم الله _المتقدمينَ منهم والمتأخرينَ, قد مُلئت وشُحنت, بذكر فضله, وعِظَمِ أثره, والحث عليه, ومراقبة النفس فيه.
خلص خلوصاً خلاصاً، أي صفى وزال عنه شوبه. وخلص الشيء: صار خالصاً. وخلصْتَ إلى الشيء: وصلْتَ إليه. وخلاصُ السَّمنِ ما خَلُصَ منه؛ فكلمة الإخلاص تدل على الصفاء والنقاء والتنزه من الأخلاط والأوشاب. والشيء الخالص هو الصافي الذي ليس فيه شائبة مادية أو معنوية. هذا معنى هذه اللفظة في كلام العرب، تدور حول تنقية الشيء مما يشوبه من الشوائب، وتخليصه من الأكدار ومما يداخله. وقال الفيروز أبادي: أخلص لله ترك الرياء.
هذا لغةً, أما في الاصطلاح, فالإخلاص هو: تصفية العمل من كل شائبة، بحيث لا يمازج هذا العمل شيء من الشوائب في الإرادات، ونعني بذلك إراداتِ النفس، إما بطلب التزين في قلوب الخلق، وإما بطلب مدحهم، والهرب من ذمهم، أو بطلب تعظيمهم، أو بطلب أموالهم، أو خدمتهم، أو محبتهم، أو أن يقضوا له حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب والإرادات السيئة التي تجتمع على شيء واحد، وهو: إرادة ما سوى الله عز وجل بهذا العمل، وعليه: فالإخلاص هو توحيد الإرادة والقصد، أن تفرد الله عز وجل بقصدك وإرادتك فلا تلتفت إلى شيء مع الله تبارك وتعالى.
وكلمة التوحيد, كلمة (لا إله إلا الله) هي كلمة الإخلاص, ولا شك أن عظمة هذه الكلمة لا تدرك, ولا يحاط بها, ألا إنها لو وضعت في كفة, ووضعت السموات السبع, والأرضين السبع في كفة لرجحت بهن. لقد روي عن قتادة, أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:" إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله: فهي كلمة الإخلاص التي لم يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها", فلا عجب إذن, أنه لما سأل عمر بن الخطاب معاذَ بنَ جبلٍ بقوله: يا أبا عبد الرحمن, ما رأس هذا الأمر؟ يقصد الإسلام, فأجابه معاذ:" الإخلاص, وهي شهادة أن لا إله إلا الله ".
كل ما سبق ذكره هو وصف للإخلاص وحقيقته, وهذا المقام يقتضي منا سوق بعض الأدلة التي تبين أن الله_ Y _لا يقبل العمل الذي أريد به غير وجهه, وقبل الخوض في غمار هذه الأدلة, وسبر غورها ودلالاتها, لا بد من أن نبين أن ضد الإخلاص هو الشرك, وهو نوعان: شرك كبير, وشرك صغير؛ فالشرك الصغير هو الذي يبطل العمل الذي اعتراه هذا الشرك_ وهو الرياء _دون التأثير على غيره من الأعمال, أما الشرك الكبير فهو الذي ينسف أعمال العبد جملة وتفصيلا, ما صح منها وما لم يصح, وفي هذا يقول الله_ Y _: ]وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا[, (الفرقان: 23). ويقول: ]وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[, (الزمر: 65). والآن, نورد هذه الأدلة:
عن أبي أمامة, قال: جاء رجل إلى رسول الله, فقال: يا رسول الله, أرأيت رجلا يلتمس الخير والذكر, ما له؟ قال_ e _:" لا شيء له_ يقول ذلك ثلاث مرات _, إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما خلص له وابتغي به وجهه ", أخرجه النسائي بإسناد جيد. فهذا الحديث يبين أنه على المرء المسلم أن يبتغي بعمله وجه الله, ولا يبتغي مع وجهه شيئا آخر.
وفي الحديث القدسي:" من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ", رواه الشيخان: بخاري ومسلم. وهذا الحديث جلي واضح, يدل على أن المرء إن قصد الله وأمرا آخر في القيام بعمله فلا يقبله الله, فكيف بمن قام بالعمل وقد أفرد غير الله في عمله؟ لا شك أنه قد خسر خسرانا مبينا.
هذا, وإن النبي, محمداً_ e _قد جاء بأمثلة تبين كيفية هذا الشرك, فقد روي عنه قوله:" أول الناس يقضى لهم يوم القيامة ثلاثة: رجل استشهد فأتي به, فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت, قال: كذبت, ولكنك قاتلت؛ ليقال فلان جريء, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه, وقرأ القرآن, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته, وقرأت فيك القرآن, قال: كذبت, ولكنك تعلمت العلم؛ ليقال عالم, وقرأت القرآن؛ ليقال قارئ, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه, وأعطاه من أصناف المال كله, فأتي به فعرفه نعمه فعرفها, فقال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك, قال: كذبت, ولكن؛ ليقال إنه جواد, فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار ", صححه الألباني. فالأمر جد خطير, ألا فاتقوا الله القائل: ]مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ[, (الشورى: 20).
لفتة: بعض الناس لا يعرف نفسه: أهو مخلص لله أم لا؟ فنخبره بأن الإخلاص أن تكون في الخَلوة كالجَلوة، بل خير من ذلك، ضحك في الملا، وبكاء في الخلا, وهذا يقتضي منك أن تكتم حسناتك, وتظهر تقصيرك. قال الفضيل: العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
ثانيا_الاتباع (كيفية الأداء):
تَبِعه واتَّبعه أي قفا أَثره؛ وذلك تارة بالجسم، وتارة بالارتسام والائتمار, وعلى ذلك قوله تعالى: ]فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ[, (طه: 123). و تَبِعَ الإمام إذا تلاه, و تَبِعَهُ: لحقه, و تَابَعَهُ على الأمر: وافقه, و تَتَابَعَ القوم: تَبِعَ بعضهم بعضا.
هذا في اللغة, أما في الشرع, فالاتباع: هو أن تقوم بأوامر الله وفق ما جاء به الشرع, من غير نقص أو زيادة أو تغيير. وأخص من الاتباع التأسي, وهو: أن نفعل مثل فعل النبي_ e _على وجهه, من أجل فعله.
وقد جاءت أحاديث تبين أن الشرع لا يقر بفعل لم يؤت به حسب الشرع, فقد قال النبي_ e _:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ", رواه الشيخان. وهناك رواية أخرى, وهي:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد", رواه مسلم. فهذان الحديثان دلالتهما واضحة, وهي وجوب التقيد بكيفية الشرع في القيام بالأحكام الشرعية. وهذا المعنى يقرره في النفس قولا النبي_ e _, فأما الأول:" صلوا كما رأيتموني أصلي ", رواه البخاري. وأما الثاني:" خذوا عني مناسككم ", رواه مسلم. وهذه المعاني تجتمع بقول الله_ Y _: ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[, (آل عمران: 31).
ثالثا_أن يكون الفعل غير محدث:
لم يعتد العلماء_ رحمهم الله _من ذكر هذا الشرط, فلقد كانوا يكتفون بالشرطين السابقين؛ لأنهم لم يتصوروا أنه سيأتي من يأمر بأوامر لم يأذن بها الله, وعليه, لا بد من إلقاء الضوء_ ولو قليلا _على هذا الشرط.
أصل الحدث في اللغة: التجدد، يقال: حدث حادث، أي: هذا أمر حادث غير قديم. الحدث مرتبط بشيء خاص وهو الدين وليس متعلقاً بالدنيا، ومن هنا لا يجوز لإنسان أن يقول عن أمر من أمور الدنيا: هذا محدث هذا ممنوع هذا رد. من قبل كنا نسافر على الأقدام ونركب الدواب، ثم جاءت السيارات والطائرات، فهل يقول قائل: هذه أحدثت, وهذه محدثة, لم تكن موجودة زمن النبي_ e _؟ لا، وليس لأحد حق في ذلك، بل جاء ما يرد عليه من قوله_ e _:" أنتم أعلم بدنياكم مني", صححه النووي. وأمور الدنيا في العالم كله ليست على وتيرة ومنهج واحد، بل لكل بلد منهجه في حياته، وحتى الصناعات لا تتفق في أنحاء العالم. فالشرع الحنيف ترك أمر الدنيا للناس في دنياهم على ما تقتضيه مصالحهم، أما أمر الدين فهذا لله.
قال النووي في هذا الشأن:" قال:" من أحدث في أمرنا ", أي: من أوجد وابتكر وأحدث شيئاً كان معدوماً، وجاء بشيء حادث لم يكن موجوداً من قبل في الدين، ( فهو رد ) بمعنى مردود.
ما هي الأحداث التي ليست من أمر الدين؟ باختصار: كل جديد تراه وتسمع عنه فيما يتعلق بالتعبد، ويرجى فيه ثوابٌ عند الله، أو يخشى بتركه عقاب من الله، أي: يفعله العبد تديناً لله، فينظر هل هو مما جاء به رسول الله_ e _أم لا؟ "
وقال مالك أيضاً:" من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[, (المائدة:3). فالذي يأتي بشيء جديد، ويقول: هذا من عندي، اعملوا به، وهو سنة حسنة، نقول له: هذا الذي جئتنا به، لماذا جئت به؟ هل الدين ناقص وتريد أن تكمله به، أو هو زائد على كمال الدين، فإن قال: الدين كان ناقصاً وأريد أن أكمله، نقول: كفرت بكتاب الله؛ لأن الله يقول: (أكملت) (وأتممت). وإذا قال: إنه زائد عما جاء من عند الله، فنقول: كذبت بكتاب الله؛ لأن الشيء الكامل والتام لا يقبل زيادة، إذاً: لا يمكن لأحد أن يأتي بشيء ويستحسنه ولا أصل له في الدين، ويكون حسناً أبداً ".
وأختم هذه الشروط بتفسير الفضل بن عياض لقوله تعالى: ]لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[, (تبارك: 2)؛ إذ يقول:" أحسن عملا: أخلصه وأصوبه؛ إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصاً صوابا. قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة. وقد دل على هذا قول الله تعالى: ]فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا[, (الكهف: 110).
هذه هي الشروط الثلاثة التي اشترطها الله على عباده حتى يقبل منهم أعمالهم, ويثيبهم عليها, ولا بد من أن يدرك المرء أن هناك أمورا إن قام بها, فإن الله ورسوله قد توعداه برد عمله حتى وإن استوفى من الشروط ما سبق ذكره, ومن هذه الأعمال:
1. قال النبي_ e _:" من أتى عرافا لم تقبل له صلاة أربعين يوما ", رواه مسلم. فهنا قد توعد النبي_ e _ من أتى العرافين فصلاته مردودة غير مقبولة, حتى وإن أخلص لله, وقام بها أحسن قيام.
2. قال النبي_ e _:" إن أعمال بنى آدم تعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم", رواه البخاري في الأدب المفرد. فهذا الحديث يشمل الأعمال كافة دون استثناء؛ لذلك يقول النبي_ e _:" لا يدخل الجنة قاطع رحم ", رواه البخاري.
ولا عجب من هذا الحرص على المعرفة التامة الكاملة بالأمور التي من شأنها أن تجعل أعمالنا متقنة لله حتى يقبلها, فهذه الأعمال هي التي جعلها الله سببا في دخول الجنة, وسببا في التفاضل بدرجاتها. يقول الله_ Y _: ]وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[, (الأعراف: 43). وقال: ]وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[, (الزخرف: 73). وقال: ]كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[, (الطور: 19). فهذ الآيات كلها تبين أن دخول الجنة مسبب, والسبب هو الأعمال الصالحة, التي بفضلها تجلب للمرء رحمة الله ورضاه, فمن ثقلت موازينه فقد فاز بجنان النعيم, ورضوان من الله أكبر.
والأعمال هي التي تمايز المنازل في الجنة, فهنيئا للسابقين في كل فضل وخير, وهنيئا لمن استزاد منهما, وليس أدل على هذا من قوله_ e _:" من أعطي ثلث القرآن فقد أعطي ثلث النبوة, ومن أعطي ثلثي القرآن فقد أعطي ثلثي النبوة, ومن قرأ القرآن كله فقد أعطي النبوة, غير أنه لا يوحى إليه, ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق, فيقرأ آية ويصعد درجة, حتى ينجز ما معه من القرآن, ثم يقال له: اقبض فيقبض. ثم يقال له: أتدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد, وفي اليسرى النعيم ", أسنده أبو بكر الأنباري عن أبي أمامة الحمصي.hg]vs hgH,g: (;dt drfg hggi hgulg)>
المفضلات