الحمد لله البعيد في قُربه، القريب في بعده، المتعالي في رفيع مجده، عن الشيء وضده، الذي أوجد بقدرته الوجود بعد أن كان عَدماً، وأودع كل موجود حكماً، وجعل العقل بينهما حَكَماً، ليميز بين الشيء وضدّه، وألهمه بما علّمه فعلم مُرّ مذاق مصابه من حلاوة شهده. فمن فكر بصحيح قصده، ونظر بتوفيق رُشده، علم أن كل مخلوق موثوق في قبضتي شقائه وسعده، مرزوقٌ من خزائن نعمه ورفده، : (مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ) فلو صفت عين بصيرتك، وانجلت مرآة سريرتك، وأصغيت بسمع يقظتك، لأسمعك كل شيء موجود ما يجده من
منتقدات وجده، وما يكابده من وجدان بعده، ألم تسمع للنسيم كيف تنسّمَ أسفاً لبكآء السحاب على جزره ومّده، وتأوّه لهفاً على تبسم البرق لما سمع قهقهة رعده؟ ألم تسمع للربيع ما هو يبشرك بورود ورده، وأخبرك بنشور ورده وشرود برده، وسعي إليك بانقلاب الشتآء لجرده ومُرده، ووشى اليك القبول بوشي الروض وبرده، وشكى إليك البان ما بان من تمايل قده، وأنهى إليك الأقحوان ما حاز من ألوان الزهر وجُنده، وحقوق أعلامه المعلمة بسعده، ووثب النرجس قائماً للقيام بورده، وأقبل الشقيق على تشقيق ثوبه وقده، فكأنه ثلكى لا طماً على حمرة خدّه، ووصف إليك الجلنار جُل نار هجوه وصده، وناح العندليب
على عوده الرطيب ورنده، وباح العاشق الكئيب بما يكابده من هوى زينبه وهنده، وهام في فلوات خلواته طرباً بما سمعه عن طيب نجده، وفرَّ هارباً إلى من يعلم خفايا ما أبداه وما لم يُبده، فالعارف من شكر سوابغ النغم، واحتقر معادن الحكم، ولم يقنه من اللبن إلا بزبده، وعلم أن الله تعالى ما أحدث حدثاً، وأهمله عبثاً، بل كلّ واقف عند حّده، باقٍ على حفظ عهده، مقرٌّ بتصديق وعيده ووعده (وَإِن مِّن شَيْءِ إِلاَّ يُسَبَّحُ بِحَمْدِهِ) أحمده على كل حال وأسأله توفيق حمده، وأُصلي على سدينا محمد رسوله وعبده، الذي أنزل عليه في مُحكم كتابه العزيز مخبراً برفيع مجده (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ..) صلى الله عليه وآله وصحبه وعشيرته وجنده.
إشارة النسيم
فأول ما سمعت همهمة النسيم، يترنّم بصوته الرخيم، يقول بلسان حاله، عن صريح لفظه ومقاله: أنا رسول كل محب إلى حبيبه وحامل شكوى كل عليل إلى طبيبه، إن استودعت سِرّاً أديته كما استودعته، وإن حُمّلتُ نشراً رويته كما سمعته، وإن صحبتُ مصحوباً اتّحدتُ فيه بلطافة إيناسى، ومازجته بصفاء أنفاسى، فإن طاب طبت، وإن خبث خبثت، كما قال الشاعر:
الرَّاحُ كالرِّيّحِ إن مرَّت عَلَى عَطرٍ ... طَابت، وتَخْبُثُ إنْ مَرَّت على الجيفِ
ثم إني إن اعتللت صحّ بي العليل، وحيث حللت طاب بي المقيل، وإن تنفّست تنفّس المشتاق، وإن نمّت توسوست العشّاق،
فأنا لّين الإعطاف، هيّن الانعطاف، سريع الائتلاف، ولولا وجودي في الوجود لما كان مخلوق موجود، يعرف لطفى ذوو الألطاف فلا تظن اختلاف هوائي سبب إغوائي، بل أختلف في الفصول الأربع، لما هو أصلح لك وأنفع، فأهبُّ في الربيع شمالاً لألقح الأشجار، وأُعدّل فصلى الليل والنهار، وأهب في الصيف صبّاً لأنمّى الثمار، وأُصفّى الأنهار، وأهب في الخريف جنوباً فتأخذ كل شجرة حد طيبها، وتستوفى حق تركيبها، وأهبّ في الشتاء دبوراً فآخذ عن كل شجرة حملها وأوراقها ويبقى أصلها. فأنا الذي تنمو بي الثمار، وتسمو بي الأزهار، وتتسلسل الأنهار، وتلقّح بي الأشجار، وتتروح بي الأسرار، وأبشرك في الأسحار بقرب المزار، وفي ذلك أقول:
يَاطِيب ما نقلَ النَّسيمُ لمَسْمعى ... عن طِيبِ ذيَّاك المحلّ الأرفعِ
وَافى لينشرَ ما انْطَوَى من نَشْرِهِ ... فَسَكِرتُ مِنْ طِيبِ الشَّذَا المتضوّعِ
ولربما أعتلّ النَّسيم إذا بَدَتْ... أنفاس شوقي المستكنُ بأضلعِي
هبَّ الصَّبا سَحَراً لتُبرَد عُلّتي ... فَأثارَ نار تَحرّقي وتَوجّعى
مَا ذَاكَ إِلاَّ أنَّهَا لِمَا سِرْتُ ... مرّتْ عَلى تِلْكَ الرُّبَا الأَرْبَعِ
فَتَحَمَّلتْ نَشْرَ الصَّبَا في طّيّهَا ... فَسَكرتُ وسَمِعْتُ مَا لم يُسْمَعِ
وَآفتْ تُبَشّرنى بِلَيْلى أَنَّهَا ... في حُسْنهَا سَفَرتْ فَلَم تَتَبَرْقَعِ
وَجَلتْ عَلَى عُشّاقِهَا في حَانِهَا ... وَجْهاً تمنّع في حِمىً متمنّعِ
يتبع ..........
ليس مما جادت به قريحتي ..........p;l hg'd,v , hgH.ihv , hg'fdum
المفضلات