تعالى نسقى أبانا خمرا
( قصة قصيرة )
بقلم / محمود القاعود
يُدعى ” لطفى ” يصفه الناس ب ” الرجل البار ” ، لا يتحدث الكذب ، لا يغتاب أحدا ، يؤدى فرائض ربه ، يأمر الناس بالتقوى والصلاح ، يقصده الجميع فى حل المشكلات ، يُقدّر الكبير ويعطف على الصغير ، يُحسن إلى المُسيئ ، ويُبارك المحسن ..
توفت زوجته بعدما أنجب منها بنتين يتمتعان بجمال فائق ، أولاهما رعايته وأخذ على عاتقه أن يجعلهما صالحتين مثله وأن يُضرب بهما الأمثال فى الطهر والعفاف وحب الخير والإخلاص ، جعل لهما من نفسه أب وأم فى آن واحد.
أخذ الأب العطوف يراقب ابنتيه ويتابع نموهما وتربيتهما ، بلغت الكبرى الثالثة والعشرين من عمرها والصغرى الثامنة عشرة .
كان جمال ابنتى الرجل يجلب له الكثير من المتاعب ، فطالما استوقفه أحد الشبان وهو يسير فى الشارع ليُحدثه عن ابنته الجميلة التى أخذت عقله وجعلته ينسى الدنيا وما فيها !
ولم يقتصر الأمر على الشباب فقط ، فقد أخذ أصدقاء الرجل الصالح يُحدثونه عن البنتين وجمالهما الذى يُطير عقل اللبيب ويودى بحياة السليم !
بات الأب فى حيرة من أمره ؛ فالأمر لم يعد يطيقه أحد وقال لنفسه فى ضجر : ياليتنى لم أنجبهما !
بعدها بدقائق أخذ يستغفر الله : استغفر الله العظيم .. استغفر الله العظيم .. استغفر الله العظيم .
وأخذ الأب يُفكر فى طريقة تنجيه من العذاب الذى يحيا فيه ليل نهار ، فهاتف منزله لا يتوقف عن الرن ، وكذلك ” الموبايل ” وباب البيت لا تمر دقائق إلا ويأتيه طارق ليتحدث مع الأب فى شأن إحدى ابنتيه !
وخرج الرجل الصالح بعيداً عن البيت والشارع والناس ، فحكى لصديقه الأثير وزميل طفولته ” رفقى ” ما يشعر به من ضيق وضجر بسبب ” الهوس ” الذى سبّبه له كثرة الخطاب والمتقدمين لابنتيه ..
فقال ” رفقى ” : وهل هناك عاقل يكره أن تتزوج بناته ويُخففن عنه المسئولية ؟!
أجاب الرجل الصالح محتداً : يارفقى أنا أريد أن أوهب البنتين للعبادة والتبتل !
رفقى : يارجل لا تفرض على بناتك ما تفرضه على نفسك ، ودع حياتهم تسير طبيعية بعيداً عن التبتل والرهبنة !
- لا أستحمل يارفقى أرجوك ساعدنى أُريد أن أبعد عن تلك المنطقة كلها .. أُريد أن أذهب إلى منطقة لا يُلاحقنى فيها الناس بحديثهم عن بناتى ..
- ألهذه الدرجة أنت غاضب وساخط على الناس وتُريد أن تذهب بعيداً عن أعينهم ؟!
- نعم .. هذا هو الحل ومن فضلك ساعدنى دون ثرثرة !!
- لك ماتريد ياصديقى ، سأعطيك مفاتيح الفيلا الخاصة بى فى الطريق الصحراوى ، وفيها ستصل لما تريد من الابتعاد عن الناس ؛ فمساحتها صغيرة ومحاطة بأسوار عالية لا يستطيع أحد معرفة ما يجرى بداخلها وستكون بناتك فى مأمن بعيداً عن المتطفلين والمتلصصين والطُلاب والخُطّاب وما شابه !
- هذا جميل لن أنساه لك يا صديقى الأثير ، اسأل الله أن يجزيك عنى وبناتى خير الجزاء
ذهب الرجل إلى بيته فرحاً مسروراً : هيا يا بنات إلى الحياة الجميلة البعيدة عن الصخب واللغو الفارغ !
أجابتا فى نفس واحد : إلى أين ؟
- سنقيم فى مكان آخر لبعض الوقت .. المهم الآن أن تُجهزا كل المتطلبات وأن تُحكما إغلاق النوافذ والأبواب حتى لا يتسخ المنزل ولا تنسيا أن تُطفئا الأنوار ، وسأذهب الآن إلى الجراج لإخراج السيارة ..
البنتان يردان بدهشة وصوت خفيض يكاد لا يُسمع : حاضر يا أبتاه ..
ركب الأب وابنتيه فى السيارة ، وظل الأب طوال الطريق يُحدثهما عن الله وحب الله والخوف من الله وعدم معصية الله والتفانى فى عبادة الله ..
غلب النعاس عيون ابنتيه ، وظل هو يعزف منفرداً ويناجى ربه !
وصلت السيارة المكان المقصود وفتح الأب باب ” الفيلا ” وأيقظ ابنتيه وحملوا الأمتعة جميعاً ودخلوا السكن الجديد الذى هو عن الناس بعيد !
البنتان لا تشعران بالراحة وتتمنيان لو أن ما حدث كان حلما سخيفا !
جلس الأب معهما وأخذ يشرح لهما طريق النجاة من المعصية والابتعاد عن الرذائل والفواحش ، مبررا ما قام به من مغادرة سكنه أنه يخشى عليهما من الوقوع فى الفتنة والمحظور عن طريق مخالطة الشبان .
ومرت الأيام طويلة ومملة لا يوجد بها أى جديد والضجر والضيق يملئان نفس البنتين ، فقد تقدم بهما العمر مثلما تقدم بأبيهما الذى بات فى مرحلة الشيخوخة .
قالت البكر للصغيرة : أبونا قَدْ شَاخَ وَلَيْسَ فِي الأرض رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأرض. هَلُمَّ نَسْقِي أبانا خَمْرا وَنَضْطَجِعُ مَعَهُ فَنُحْيِي مِنْ أبينا نَسْلا.
- ولكن كيف يا أختى سنقدم على هذا الفعل ؟؟ وهل أبينا سيعلم بذلك ؟
- هل أنت غبية إلى هذه الدرجة قلت لك سنسقيه خمراً حتى يفقد الوعى ولا يعلم بما يجرى
- آسف يا أختى .. أشعر أن قلبى يدق بعنف فأنا متخوفة للغاية من هذا العمل ..
لا تخافى كونى شجاعة مثلى ، فنحن نريد أن ننجب من أبينا الحبيب !
- ولكن ….
- هل مازلت تُجادلين ؟؟
- لا يا أختى
#................................................. .....................#
فَسَقَتَا أباهما خَمْرا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أبيها وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلا بِقِيَامِهَا وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أن الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: إني قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أبي. نَسْقِيهِ خَمْرا اللَّيْلَةَ أيضا فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ فَنُحْيِيَ مِنْ أبينا نَسْلا. فَسَقَتَا أباهما خَمْرا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أيضا وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلا بِقِيَامِهَا.
استيقظ الرجل الصالح وهو لا يدرى بما جرى لعضوه ” المفترى عليه ” ووجد ابنتيه فى حالة سعادة وفرح ومرح ، فسألهما بصوت مندهش :
ماذا جرى يابنات ؟
- نشعر بالسعادة الغامرة
- وماهو السبب ؟؟
- بدون سبب !!
مرت الأيام والشهور وظهر حمل الأختين وعلم والدهما بما حدث وترك المنزل وهو آسف غضبان ورجع إلى بيته القديم ولاحظ الجميع علامات الحمل على البنتين ، وظل الناس يتهامسون ويتعرضون للرجل الصالح ببذئ الأقوال وفحش الكلام ، ويسخرون منه كلما حدثهم عن الله والعمل الصالح !
لم يجد لطفى بد من مصارحة صديقه الأثير رفقى بما حدث ، وبعدما سمع رفقى الحكاية ، قال لصاحبه الصالح :
ماهذا الذى أسمعه ؟ كيف حدث ذلك ؟ وماذا سيقول لك أبناء البنتين ؟؟ هل يقولون لك ” يا أبى ” ؟؟ أم ” يا جدى ” ؟؟ ماذا جرى يا لطفى ؟؟ يا حسرة عليك يا لطفى !
وبعد تلك الأسئلة التى لا تجد جوابا فاضت عينى لطفى بالدموع الغزيرة الساخنة وقال لصديقه :
أرجوك يارفقى ساعدنى أُريد أن أرجع لسابق عهدى أريد أن أظل الرجل الصالح لست مسئولا عن خطأ البنتين !
- بل أنت المسئول ، وأنت الذى رفضت أن تزوجهما وآثرت أن ترملهما قبل أن يتزوجا !
- أرجوك ليس وقت عتاب ..
- ياصديقى أنت الآن الرجل الطالح ولن ترجع كسابق عهدك ، فبالله قل لى كيف سيسمعك الناس ويتقبلون نصائحك وحديثك عن الله وحب الله والابتعاد عن الخطأ وأنت غارق فى الخطأ وموصوم بالرذيلة ؟؟
شعر ” لطفى ” أن الأرض ضاقت عليه بما رحبت فآثر الجلوس فى منزله بجوار ابنتيه وأحفاده الذين هم أبنائه فى آن !
وظل لطفى يُعانى ويصرخ ويشتكى … ولكن دون جدوى ..
وحدث أن أعلن أحد رجال الأعمال عن مسابقة ليختار رجل صالح يوعظ الناس داخل مؤسسته الكبيرة التى تنتشر أفرعها فى جميع البلدان ، وتقدم لطفى لما عُرف عنه طوال تاريخه الطويل قبل الوقوع فى الرذيلة مع بناته .
وذهب لطفى فى الصباح الباكر وهو يعد نفسه ويُمنيها بأن يرجع كسابق عهده ..
قابل لطفى رجل الأعمال الذى بادره بسؤال :
ما اسمك أيها الرجل الطيب ؟
برهبة يُجيب :
لطفى …
- أنت الذى …..
يطرق لطفى حياء وخجلا
فيباغته رجل الأعمال : اتفضل مع السلامة .
وبعدما انصرف لطفى وهو كسير، راح رجل الأعمال يحدث نفسه :
هذا هو ما ينقصنا ، نُعين للناس رجل زنى بابنتيه ليحدثهم عن الله ! ما أوقحه .
( تمت )ggv[hg tr'
المفضلات