الثأر في الأســـلام
إن ظاهرة الثأر من أبشع الجرائم وأشنعها، ومن أسوأ الظواهر وأخطرها، إذا تفشَّت في مجتمع أو انتشرت في بيئة أوردت أهلها موارد الهلاك، إنها تفتح أبواب الشر، وتحوّل حياة الناس إلى صراعات لا تنتهي إلا بترميل النساء، ويُتْم الأبناء، والقضاء على الروابط الإنسانية، وتحويل الحياة إلى سلسلة من الاغتيالات على مذابح الأضغان العائلية، فيظهر في كل يوم دم من هنا ودم من هناك•
وظاهرة الثأر من العادات السيئة، ومن بقايا الجاهلية التي كانت منتشرة في الناس قبل الإسلام، فلما أشرق الإسلام بتعاليمه السمحة، قضى على هذه الظاهرة وشرع القصاص، حيث يطبق بالعدل، ويقوم به ولي الأمر، وليس آحاد الناس حتى لا تكون الحياة فوضى•
وما جرى في بعض بلدان المسلمين من قتل لعدد كبير معظمهم من الأبرياء شيء خطير، وشر مستطير، يندى له الجبين، لأنه يحدث في عصر وصلت فيه الثقافة المستنيرة، والحضارة الإسلامية قمتها.
ومن ذلك كان من واجب كل قطاعات المجتمع وهيئاته، الدينية منها والأمنية، والعلمية، والثقافية، والإعلامية، وغيرها، أن تؤدي الدور المنوط بها لمناهضة هذه الظاهرة، حتى لا تتكرر، فإن الإسلام قد طوى صفحة هذه الظاهرة حين أعلن رسول الله صل الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفي حُشود المسلمين، وضع دم الثأر، وإنهاء هذه الظاهرة إلى غير رجعة، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع•
كما أعلن ـ يومها أيضاً ـ حرمة الدماء والأموال والأعراض حين قال رسول الله صل الله عليه وسلم "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلَّغت اللهم فاشهد"
وقرّر القرآن الكريم مشروعية القصاص، وليس الثأر، وجعله بيد الحاكم أو وليّ الأمر ليس بيد أفراد المجتمع، صيانة للحرمات، وحَقْناً للدماء، وتطبيقاً للعدالة، ونشر للاستقرار والأمن بين ربوع الأمة•
قال الله تعالى: (يأيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحرُّ بالحرِّ، والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى فمن عُفِيَ لَهُ مِنَ أَخِيهِ شَيءٌ فاتباعٌ بالمعروفِ وأداء إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ مِنْ ربِّكُم ورحمةٌ فَمن اعتدى بعدَ ذلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أليمٌ• ولكم في القصاصِ حياةٌ يا أُولي الألبابِ لعلَّكُم تتقون) البقرة:178 ـ 179•
وكان في الجاهلية حيَّان من العرب اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منَّا الحر منهم، والمرأة منَّا الرجل منهم، فنزل فيه: (الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى.
ومذهب الجمهور والأئمة الأربعة، أن الجماعة يقتلون بالواحد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام قتله سبعة، فقتلهم، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم.
وحُكِيَ عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يُقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة•
وقد شرع القصاص لحكمة دقيقة وعظيمة وهي حياة النفوس، لأن القاتل حين يعلم أنه لو قُتل سيقتل قصاصاً منه ينكفَّ عن القتل، وينزجر فيكون في كفّه حياة لمن كان سيقتله، وحياة لنفسه التي كانت ستقتل قصاصاً منه•
ولقد عقَّب القرآن الكريم على أول جريمة قتل حدثت في الدنيا حين قتل أحد ابني آدم أخاه، ببيان حرية النفس الإنسانية وأن العدوان على نفس بغير حق عدوان على الإنسانية جمعاء، وأن الحفاظ على حياتها حفاظ على حياة الإنسانية، حيث قال الله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً المائدة:32•
ولابد من التعرف إلى أسباب ظاهرة الثأر، لإنهائها ومنعها وعدم تكرارها:
ـ فمن أسباب هذه الظاهرة:
<ضعف الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه، ولا شك أن ضعف الإيمان يكون بسبب ضعف الأعمال الصالحة وقلتها، وأن قوة الإيمان وزيادته تكون بزيادة الطاعات والقرب من الله سبحانه وتعالى، لأن الإيمان يزيد وينقص، فيزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها، فمن سمات المؤمنين الكاملين ما ذكره الله تعالى في قوله في وصف الكاملين في إيمانهم•
إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر اللهُ وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زداتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون• الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون• أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) الأنفال: 2 ـ 4 (الأنفال .)
فأصحاب الإيمان الكامل قلوبهم وجلة عند ذكر الله تعالى، ويزدادون إيماناً على إيمانهم حين تُتلى عليهم آياته، ويتوكلون على ربهم ويفوِّضون الأمر إليه، ويُوثّقون صلتهم بالله عن طريق الصلاة ويوثقون صلتهم بالمجتمع فينفقون مما رزقهم الله•
فحيث وجد الإيمان، وجدت قِيَمُه ومبادئه، وأخلاقه التي يتحلَّى بها المؤمنون، حيث يصبح بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتواصَوْن بالحق وبالصبر، ويتحلّون بالخلق الفاضل والصفح والتسامح والعفو والمحبة•
ـ ومن أسباب ظاهرة الثأر:
رواسب الحقد والضغائن وحب التشفِّي والانتقام من الآخر، والتباغض والتقاطع والتدابر، وقد نهى الإسلام عن هذه الرذائل التي تشعل نار البغضاء والانتقام، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث رواه البخاري ومسلم•
إن الشحْناء التي تنْدلع في نفوس بعض الناس هي التي تؤجّج نار الثأر عند بعض الناس، ولذا كان الوعيد الشديد لأهل الشحناء، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال أَنْظروا هذين حتى يصطلحا أنظروا هذين حتى يصطلحا رواه مسلم، ومعنى أنظروا أمهلوا•
ـ ومن أسباب ظاهرة الثأر:
التَّحريش بين النفوس، والإفساد وتغيير القلوب عندما يستجيب أصحابها لوساوس الشيطان عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم رواه مسلم، والتحريش: هو الإفساد وتغيير قلوبهم وتقاطعهم•
وقد تبدأ ظاهرة الثأر في بعض قطاعات الحياة، وبعض دوائر الأعمال بين أفراد الناس ومن يتقلّدون بعض الأعمال فلا ينسى بعضهم حقده على الآخرين، فيبدو منه ما يُعرف عند البعض بتصفية الحسابات، فإن كان أخوه قد أساء إليه في شيء يسير يكيل له الصاع صاعين، ويثأر للماضي، ويسلك سبيل التشفِّي والظلم والعدوان•
وتتشكل ظاهرة الثأر وتتلوّن في كل بيئة أو موقع حسب أحوال الناس وعقولهم ونشأتهم، وما طُبعوا عليه من الخلال والصفات•
ـ ومن أسباب ظاهرة الثأر العصبية البغيضة، وهذه العصبية التي تظهر الآن، في بعض البلدان، هي من نوع العصبية القديمة التي كانت تتفجر بين الأوس والخزرج، إنها من بقايا الجاهلية ومن رواسب الماضي السحيق•
لقد كان بين الأوس والخزرج حروب كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة، وثارات وإحن، وضغائن وفتن، فكان بينهم قتال شديد، ووقائع كثيرة، حتى جاء الإسلام، فدخلوا فيه، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً•
وبعد أن أصلح الإسلام شأنهم وأصبحوا متحدين متعاونين، مرَّ رجل من اليهود بملأ من الأوس والخزرج، فساءه ما هم عليه من الألفة والتعاون والوفاق، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكّرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب، ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوسهم وغضب بعضهم على بعض، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم، وطلبوا أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرَّة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجعل يسكّنهم، ويقول: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!، وتلا عليهم هذه الآية: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيِّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون) آل عمران: 103، فعندما تلا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية ندموا على ما كان منهم، وتصالحوا وتعانقوا، وألقوا السلاح•
وهكذا نرى أن الإسلام قضى على تلك العصبية البغيضة، وقضى على الفرقة والشحناء، والحقد والبغضاء، وأسباب الصراعات التي يكون الثأر أحد نتائجها السيئة•
ومن عجب أن تطل هذه الظاهرة البغيضة برأسها في بعض مجتمعاتنا الإسلامية وهي أبعد ما يكون عن الإسلام، وأصحابها في إيمانهم ضعف، إنهم يتحلّوا بفضائل الإسلام التي تدعو إلى العفو والتسامح، وإلى الأمن والاستقرار•
ولقد صفَّى الإسلام نفوس المسلمين منها تماماً، حتى في حروبهم مع أعدائهم، وجه الإسلام إلى العدل والصبر والتسامح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة رضي الله عنه حين استشهد، وقد مُثِّلَ به، فقال: لأمثِّلنَّ بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف، بخواتيم سورة النحل: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين• واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) النحل 125 ـ 126•
فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عمَّا أراد رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل والبزَّار•hgeHv td hgHsghl>>>>frgl hgado su] hgyhl]d
المفضلات