في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله لبطلت بنوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم، وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه، في قوله: (جاء بالحق وصدق المرسلين) فإن المرسلين بشروا به، وأخبروا بمجيئه؛ فمجيئه هو نفس صدق خبرهم.
فكأن مجيئه تصديقا لهم، إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا، وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم، وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله: ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله.
ومثل هذا قول المسيح: (ومصدقا لما بين يديه من التوارة، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقا لها، ثم بشر برسول يأتي من بعده فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له كما كان ظهوره تصديقا للتوراة، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق.
فلو لم يظهر محمد بن عبد الله ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله، والله سبحانه لا يخلف وعده ولا يكذب خبره، وقد كان بشر إبراهيم وهاجر بشارات بينات، ولم نرها تمت ولا ظهرت إلا بظهور رسول الله .
فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أن مريم بشرت به مرة واحدة، وبشرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبشر به إبراهيم مرارا، ثم ذكر الله سبحانه هاجر بعد وفاته، كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء، ففي التوراة أن الله تعالى قال لإبراهيم: «قد أجبت دعائك في إسماعيل وباركت عليه وكبرته وعظمته» هكذا في ترجمة بعض المترجمين.
وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرا من أحبار اليهود فإنه يقول: «وسيلد اثني عشر أمة من الأمم».
وفيها: «لما هربت هاجر من سارة ترائى لها ملك الله وقال: يا هاجر أمة سارة من أين أقبلت وإلى أين تذهبين؟ قالت: هربت من سيدتي، فقال لها الملك: ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا تسميه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع بذلك خشوعك، وهو يكون عين الناس ويكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته».
وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في برية فاران.
وفيها: «فقال لها الملك: يا هاجر ليفرح روعك، فقد سمع الله تعالى صوت الصبي، قومي فاحمليه، وتمسكي به، فإن الله جاعله لأمة عظيمة، وإن الله فتح عليها، فإذا ببئر ماء، فذهبت وملأت المزادة منه، وسقت الصبي منه، وكان الله معها، ومع الصبي حتى تربّى، وكان مسكنه في برية فاران».
فهذه أربع بشارات خالصة لأم إسماعيل: نزلت اثنتان منها على إبراهيم، واثنتان على هاجر.
وفي التوراة أيضا بشارات أخرى بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدا وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته.
فإن «بني إسحاق» كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين، خولا للفراعنة والقبط حتى أنقذهم الله بنبيه وكليمه موسى بن عمران، وأورثهم أرض الشام، فكانت كرسي مملكتهم ثم سلبهم ذلك، وقطعهم في الأرض أمما مسلوبا عزهم وملكهم: قد أخذتهم سيوف السودان وعلتهم أعلاج الحمران. حتى إذا ظهر النبي تمت تلك النبوات وظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل، وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فهشموهم هشما وطحنوهم طحنا وانتشروا في آفاق الدنيا، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع وعلوهم علو الثريا فيما بين الهند والحبشة، والسوس الأقصى وبلاد الترك والصقالبة والخزر. وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين، وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم، فليس صبي من بعد ظهور النبي ولا امرأة ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم وآل ابراهيم.
وأما النصرانية وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة فإنه لم يكن لهم في محل إسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر ولا عز قاهر البتة، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع ولا امتدت إليهم أيدي الأمم بالخضوع.
وكذلك سائر ما تقدم من البشارات التي تفيد بمجموعها العلم القطعي بأن المراد بها محمد بن عبد الله وأمته، فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره لبطلت تلك النبوات؛ ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين إلا بالإيمان بالنبي الذي بشروا به قالوا: نحن في انتظاره، ولم يجئ بعد.
ولما علم بعض الغلاة في كفره وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد إسماعيل أنكروا أن يكون لإبراهيم ولد اسمه إسماعيل وأن هذا لم يخلقه الله.
ولا يكثر على اليهود مثل ذلك، كما لم يكثر على النصارى الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا . ونحن نبين أنهم لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة ولا آية ولا معجزة إلا بإقرارهم أن محمدا رسول الله؛ وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شيء من ذلك البتة.
فنقول: إذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن وبمحمد ، فمن أين لكم أن تثبتوا لعيسى فضيلة أو معجزة، ومن نقل إليكم عنه آية أو معجزة؟ فإنكم إنما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين أخبرتم عن منام رؤى فأسرعتم إلى تصديقه، وكان الأولى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم لأنه لا يقبل قول اليهود فيه، ولا سيما وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم.
فأخبار المسيح والصليب إنما شيوخكم فيها اليهود، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعظم اختلاف، وأنتم مختلفون معهم في أمره، فاليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعين يوما، و قالوا ما كان لك أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثم تقتلوه إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم لأنه كان يداخله في صناعة الطب عندهم.
وفي الأناجيل التي بأيديكم «أنه أخذ صبح يوم الجمعة، وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه» فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره، واليهود مجمعون أنه لم يظهر له معجزة ولا بدت منه لهم آية غير أنه طار يوما وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم فعلاه في طيرانه فسقط إلى الأرض بزعمهم.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم في غير موضع ما يشهد أنه لا معجزة له ولا آية.
فمن ذلك أن فيه منصوصا أن اليهود قالوا له يوما: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله تعالى؟ فقال: أمر الله أن تؤمنوا بمن بعثه، فقالوا له: وما آيتك التي ترينا لنؤمن بك وأنت تعلم أن آبائنا قد أكلوا المن والسلوى بالمفاوز؟ قال: إن كان أطعمكم موسى خبزا فأنا أطعمكم خبزا سماويا» يريد نعيم الآخرة، فلو عرفوا له معجزة ما قالوا ذلك.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له: «ما آيتك التي نصدقك بها؟ قال: اهدموا البيت أبنيه لكم في ثلاثة أيام». فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا ولو كان قد أظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضا أنهم جاؤا يسألونه آية فقذفهم وقال: «إن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية، فلا تعطى ذلك».
وفيه أيضا أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم «إن كنت المسيح فأنزل نفسك فنؤمن بك» يطلبون بذلك آية فلم يفعل.
فإذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن لم يتحقق لعيسى بن مريم آية ولا فضيلة؛ فإن أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف وعدم تيقنكم لجميع أمره.
وكذلك اجتمعت اليهود على أنه لم يدع شيئا من الإلهية التي نسبتم إليه أنه ادعاها، وكان أقصى مرادهم أن يدعي، فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه، وهو أن أحبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره خافوا أن تصير عامتهم إليه إذ كان على سنن تقبله قلوب الذي لا غرض لهم فشنعوا عليه أمورا كثيرة ونسبوا إليه دعوى الإلهية تزهيدا للناس في أمره.
ثم إن اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من أخباره. فمنهم من يقول: إنه كان رجلا منهم ويعرفون أباه وأمه وينسبونه لزانية، وحاشاه وحاشا أمه الصديقة الطاهرة البتول التي لم يقرعها فحل قط، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ويسمون أباه الزاني باندرا الرومي وأمه مريم الماشطة.
ويزعمون أن زوجها يوسف بن يهودا وجد باندرا عندها على فراشها وشعر بذلك فهجرها وأنكر ابنها، ومن اليهود من رغب عن هذا القول وقال: إنما أبوه يوسف بن يهودا الذي كان زوجا لمريم.
ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنا عليه أنه بينا هو يوما مع معلمه بهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا فجاءت امرأة من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال بهشوع: ما أحسن هذه المرأة؟ يريد أفعالها، فقال عيسى بزعمهم: لولا عور في عينها، فصاح بهشوع وقال له: يا ممزار - ترجمته: يا زنيم - أتزني بالنظر، وغضب غضبا شديدا وعاد إلى بيت المقدس وحرم اسمه ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض قواد الروم وداخله بصناعة الطب فقوي بذلك على اليهود، وهم يومئذ في ذمة قيصر بتاريوش وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويعرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان.
وطوائف من اليهود يقولون غير هذا: أنه كان يلاعب الصبيان بالكرة فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشايخ فقوي عيسى، وتخطى رقابهم وأخذها، فقالوا له: ما نظنك إلا زنيما.
ومن اختلاف اليهود في أمره أنهم يسمون أباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف بن يهودا النجار.
وبعضهم يقول: إنما هو يوسف الحداد.
والنصارى تزعم أنها كانت ذات بعل، وأن زوجها يوسف بن يعقوب.
وبعضهم يقول: يوسف بن آل.
وهم يختلفون أيضا في آبائه وعددهم إلى إبراهيم، فمن مقل ومن مكثر.
فهذا ما عند اليهود، وهم شيوخكم في نقل الصلب وأمره وإلا فمن المعلوم أنه لم يحضره أحد من النصارى، وإنما حضره اليهود وقالوا: قتلناه وصلبناه، وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم، فإن صدقتموهم في الصلب فصدقوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذبتم فيما نقلوه عنه فما الموجب لتصديقهم في الصلب وتكذيبهم أصدق الصادقين الذي قامت البراهين القطعية على صدقه أنهم ما قتلوه وما صلبوه؛ بل صانه الله وحماه وحفظه، وكان أكرم على الله وأوجه عنده من أن يبتليه بما تقولون أنتم واليهود.g, gl d/iv lpl] gf'gj kf,m shzv hgHkfdhx
المفضلات