عبد الرحمن لملوم
في فيلته بالمريوطية بحي الهرم دعاني صديقي المسيحي لإحتساء الشاي في حديقته الوارفة الظلال .. صديقي رجل أعمال طموح هادئ متأمل و قرّاء .. هو مسيحي "تقريبا ً" و مسلم تقريبا ً أيضا ً إذ يعتقد في بعض الأفكار و إن كانت غريبة بالنسبة إلىّ إلا أنها في منتهى التناغم في نظره .. و ..
دعونا نستمع إلى الحوار..
يقول صديقي : أعترف أن عقيدة التوحيد في الإسلام هي الأفضل و الأعلى .. و أعترف أن فكرة الثالوث في المسيحية فكرة فقيرة و سطحية .. و القساوسة أنفسهم لا يفهمونها .. و لهذا فإن كثيرا ً منهم صاروا يخجلون منها إذ يستهلوا حديثهم بـ "بسم الإله الواحد الذي نعبده جميعا ً" عوضا ً عن الصيغة المعروفة : "بسم الآب و الإبن و الروح القدس" التي ابتعدت شيئا فشيئا ً من الخطاب الديني المسيحي العربي على كافة أقسامه.
نعم أوافقك بطبيعة الحال لكوني مسلما ً و أضيف أن ما لاحظته في الخطاب التنصيري أنه يبتعد تماما ً أن هذه الجزئية في أحاديثه لأنه ببساطة يشعر أنه لن يكسب في هذا المضمار أبدا ً .. و يحوِّل حديثه إلى مضمار آخر مثل "الرب يسوع مات لأجلك" .. فهو يحاول التأثير من خلال إثارة "غدد الشفقة و إنزيمات التعاطف" لدى المستمع عوضا ً عن إثارة "الغدد العقلية الفلسفية" في المفهوم الكلي الجامع لـ "إله إلا الله".
يقول صديقي : و لكن - يجب أن أكون صريحا ً معك - إن كنت أرى أن مفهوم التوحيد في الإسلام هو حق و ظاهر و نقي و أنه في المسيحية باهت و شاحب و مرتبك إلا أنني على الجانب الآخر أرى أن مفهوم "الله محبة" قوي و ظاهر في المسيحية و أنه في الإسلام غير ظاهر أو واضح .. و على هذا فقد اخترت طريقا ً وسطا ً يريحني .. و أعرف تماما ً أنه لن يريح الجانب الإسلامي كما لن يريح الجانب المسيحي أيضا ً .. أنا يا عبد الرحمن مسلم عقيدة ً و مسيحي التعاليم .. أخذت لا إله إلا الله الواحد الأحد الذي لم يلد و لم يولد من الإسلام و أخذت الله محبة من المسيحية .. فماذا ترى في إيماني ؟!
مفهوم الله محبة جذاب و رومانسي و لكن هل هو حق و صدق فعلا ً .. يقول نقاد الشعر أن خير الشعر أكذبه .. فهل لي أن أقول أن خير الرومانسية أكذبها !!
و لكن دعنا نحلل هذا المفهوم بطريقة سقراطية .. لنرى هل يصمد تحت مبضع التفكر و التدبر أم تراه سينهار عند أول محاولة ..
ماذا يعني تحديدا ً هذا المفهوم أن "الله محبة" ؟!
يقول صديقي : يعني ببساطة أن الله يحب المخلوقات التي خلقها ..
أعلى يقين أنت أن هذا ما يعنيه المفهوم !؟ .. هل الله مثلا ً يحب الشيطان ؟ أو ليس الشيطان مخلوقا ً من خلق الله !؟
يقول صديقي مبتسما ً : الآن بدأت ماكينتك المنطقية في العمل .. نعم الشيطان مخلوق من عند الله .. و خلق الشيطان قيل فيه الكثير .. أومن أن الشيطان رمز الشر ..
و هو مخلوق لا محالة و لو لم يكن مخلوقا ً لكان لدينا إلهان .. إله للخير و إله للشر .. و هو ما يتعارض مع لا إله إلا الله التي تستريح إليها نفسي ..
إذن أسحب التفسير السابق أن الله يحب كل المخلوقات .. و أقول أن ما تعنيه "الله محبة" أن الله يحب كل البشر .. فشمس الله تشرق على الأبرار و الأشرار كما يقول الكتاب المقدس .. فهات ما عندك ..
أعلى يقين أنت أن هذا ما يعنيه مفهوم الله محبة !؟
هل تؤمن أن حسابا ً سينصب لبني آدم في نهاية الدنيا ؟
يقول صديقي : نعم بطبيعة الحال .. و يتفق الإسلام و المسيحية في ذلك .. ربما تختلف التفاصيل و الأسماء من يوم الدينونة إلي يوم القيامة و من الحياة الأبدية إلى الفردوس و جنات عدن و من بحيرة الكبريت و الذبح أمام الرب إلى جهنم و السعير بئس المصير .. و لكن المفهوم واحد .. هناك دار الثواب و دار العقاب ..
فهل يحب الله من سيعاقبهم من بني آدم !؟؟ قطعا ً لا .. إذن مفهوم "الله محبه" مفهوم باطل إذا كان يعني أن الله يحب كل البشر !!
إذا كنا نتفق أن مصير البشر إما الجحيم و إما الجنة أو الأبدية .. فهذا يعني أن الله يحب طائفة معينة من البشر .. فمحبة الله إذن ليست لكل الناس ..
أما بخصوص شمس الله التي تشرق على الأبرار و الأشرار .. فالنص صحيح .. ولكن الإستدلال به أن الله يحب الأبرار و الأشرار استدلال غلط .. و غلط فادح جدا ً..
إذ لا معنى أن الله يحب الأشرار في الحياة الدنيا ثم يدخلهم دار العقاب و الندامة في الآخرة !!
ألا توافقني ؟!
يقول صديقي : أوافقك و لكن .. أعترف أن الثواب و العقاب في الآخرة يتعارض مع محبة الله لكل البشر .. و لكن ألا ترى معي أن الإنسان لا يعرف سكان الجحيم من سكان الفردوس و أن الله وحده هو الذي يعرف !؟
أنا أتكلم عن مفاهيم كلية و لا أتكلم عن أسماء بعينها .. مفهوم الله محبة مفهوم غلط و متهافت .. إذ أنه يساوي بين الأخيار و الأشرار .. و ذلك لعمري ظلم بيّن ..
يقول الحق تبارك و تعالى :( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون - القلم 35) ..
أكد الإسلام على وجهي الحقيقة أي ثنائية الحق و الباطل .. الجنة و النار .. البشير و النذير .. بخلاف الحقيقة "المزيفة" ذات البعد الواحد في الخطاب المسيحي .. وجه البشير و تجاهل وجه النذير .. وجه محبة الله و تجاهل وجه آخر انتقام الله في عذاب الآخرة.
مفهوم (الله محبة) لن تجده في الإسلام .. و السبب ببساطة لأنه مفهوم باطل !
يقول صديقي : و لكن ماذا عن نصوص المحبة في الإسلام ؟
هي آيات لطائفة معينة من البشر .. لست من هواة الإسراف في الإستشهاد بالنصوص الدينية .. و لكن أذكر منها :
( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ -البقرة 222)
( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ - هود 90 )
( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ - المائدة 54 )
و طائفة أخرى لا يحبها الحق تعالى :
(إنه لا يحب المستكبرين - النحل 23 )
بالمناسبة تتفق المسيحية المعاصرة و العلمانية في تجاهل الوجه الآخر من الحقيقة أي وجه النذير و العذاب .. مفهوم الله محبة في المسيحية المعاصرة يتجاهل و يتناسى الله المعذب في الآخرة .. و العلمانية في أصلها لا تعترف ولا تهتم إلا بالحياة متجاهلة الحياة الأخرى .. كلاهما أحادي البعد .. و لكن
و لكن هذا موضوع آخر .. شرحه يطول ..
يقول صديقى مبتسما ً : و أنت الليلة مشغول .. كما يقول البرنامج الإذاعي المشهور قال الفليسوف .. تعدني بلقاء آخر ؟
أعدك بلقاءات أخرى .. لك هذا .. السلام عليكم.hggi lpfi
المفضلات