{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }البقرة196
فَذْلَكَ(1) هذين العددين بقوله: [تلك عشرة كاملة]، وليست هذه الجملة زائدة، بل فيها من الفوائد ما يمنع القول بإمكان الاستغناء عنها، وقد أكثر العلماء في بيان فوائدها، ويمكن تقسيم الكلام على هذه الجملة قسمين:
القسم الأول : الكلام على [تلك عشرة].
القسم الثاني : الكلام على [كاملة].
----------------------------------------------------------
أما القسم الأول، ففيه وجوه، أهمها وجهان: أ ـ فائدة هذه الفذلكة نفي توهم التخيير بين صيام الأيام الثلاثة في الحج أو السبعة بعد الرجوع، جاء في الكشاف: "فإن قلتَ: فما فائدة الفذلكة ؟ قلتُ: الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين، إلا أنه لو جالسهما جميعاً أو واحداً منهما كان ممتثلاً، ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة"(2).
وقد تعقّب أبو حيان كلام الزمخشري هذا وصححه قائلاً: "وفيه نظر، لأنه لا تتوهم الإباحة هنا؛ لأن السياق إنما هو سياق إيجاب، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير؛ لأن التخيير قد يكون في الواجبات، وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة"(3).
ويبدو أن الخلاف بين العالِمَين خلاف لفظي، فقد يكون مقصود الزمخشري ـ كما قال ابن عاشور ـ من الإباحة: " أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع، ولا يتعين"(4)، أي أن حكم الصيام في أصله واجب لا مباح، ولكن الإباحة التي قد تقع في الوهم هي في إباحة الجمع بين الأمرين أو عدمه، فجيء بالفذلكة، لبيان تعين الجمع .
وقد ردّ الزمخشري منشأ توهم معنى التخيير إلى أن الواو قد ترد للإباحة، ومع أن توهم معنى التخيير وارد، إلا أنه لا يرد من هذا السبيل، فالواو في عرف النحويين لا تأتي للإباحة، فلو قيل: (جالس الحسن وابن سيرين)، لكان المأمور به مجالستهما معاً ولم يخرج المأمور عن العهدة بمجالسة أحدهما، حتى قال ابن هشام: إن مقالة الزمخشري لا تُعرف لنحوي(5).
وقد نشأ توهم معنى التخيير من حيث إن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين، وجعل أقل العددين لأشق الحالتين، وأكثرهما لأخفهما، فيمكن أن تقوم الثلاثة مقام السبعة، فأراد الله أن ينفي هذا الوهم(6).
ب ـ ووجه آخر يُفهم من الفذلكة، وهو أنها جاءت للتأكيد، على طريقة العرب لتقرير الحكم في الذهن مرتين، كما تقول: كتبت بيدي، فـ"العرب تؤكد الشيء وقد فُرغ منه، فتعيده بلفظ غيره؛ تفهيماً وتوكيداً "(7)، وذكر الثعالبي هذه الآية في فصل (الإشباع والتوكيد)، وقال: "العرب تقول: عشرة وعشرة، فتلك عشرون كاملة"(8)، وقد نقل ابن عطية عن أستاذه أبي الحسن علي بن أحمد أن المعنى: تلك كاملة، وكرر الموصوف؛ تأكيداً، كما تقول: زيد رجل عاقل(9).
ومثله قول الشاعر:
ثلاثٌ واثنتان فهن خمسٌ ** وسـادسةٌ تميـل إلى شِمامي(10)
وقول الآخر :
ثلاثٌ بالغداة فهنّ حسبي ** وستٌّ حين يدركني العشاءُ
فذلك تسعة في اليوم ريّي ** وشربُ المرءِ فوق الريّ داءُ(11)
قال صاحب الكشاف: "فائدة الفذلكة في كل حساب أن يُعلم العدد جملة كما عُلم تفصيلاً؛ ليُحاط به، ومن جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: علمان خير من علم"(12).
وأضاف بعض المفسرين أن هذه الفذلكة؛ لأن أكثر العرب لا يعرف الحساب، فاللائق بالخطاب العامي ـ الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع لا أهل الارتياض بالعلم ـ أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام(13).
وقد ردّ ابن كمال باشا هذه الإضافة، واصفاً هذا الكلام بأنه لا يناسب بلاغة القرآن؛ لأن المراعى فيها مقتضى المقام، نظراً إلى الخواص دون العوام(14).
وأقول: إن إحدى المزايا التي يمتاز بها القرآن أن خطابه يناسب العامة الخاصة، ولكن في هذه الإضافة التي أضافها بعض المفسرين نزول عن خطاب الخاصة، وكأن الحديث موجّه إلى العامة فحسب، وكأن القرآن الكريم جاء لِيُعَلِّمَ الحساب، وحين ردّ ابن كمال باشا على قولهم جعل الخطاب كأنه موجّه إلى الخاصة فقط؛ لاقتضاء المقام، والذي يبدو لي أن المقام مقام خطاب للمتمتعين بالعمرة إلى الحج، وفيهم مَن هو مِن الخاصة، وفيهم دون ذلك، والخطاب موجّه للمتمتع بكل مستوياته، وليس لفئة دون أخرى ؛ ولذلك فإنه من الممكن الاستغناء عن هذه الإضافة ؛ حتى لا نبعد بلاغة النظم القرآني عن مراعاته مقتضى المقام.
-----------------------------------------------
القسم الثاني : الكلام على [كاملة]
[كاملة] صفة لـ[عشرة]، وفائدة ذكرها من وجوه، ذكر بعضها القاضي عبد الجبار، فقال: "إن المراد أنها كاملة في الأجر؛ لأنه كان يجوز أن يُقَدَّر أن الهدي أعظم أجراً من هذا الصيام إذا لم يجد الهدي، فبين تعالى أنه مثل ذلك في الأجر، ويحتمل أن يكون المراد أن أجرها في الكمال كأجر من أقام على إحرامه ولم يتحلل، ولم يتمتع، وقد قيل: إن المراد أن صوم السبعة وإنْ فارق صوم الثلاثة، فهو كامل كما يكمُل لو اتصل، وقيل: إن المراد قطع التوهم بوجوب شيء آخر بعدها، وقيل: إن المراد بـ[كاملة] مكمَّلة، فكأنه : فأكملوا صومها"(15).
والمقصود من هذا الوجه الأخير أن الصيغة جاءت خبرية، ومعناها الأمر، أي: أكملوا صيامها فذلك فرضها، "وعُدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر؛ لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً خلافاً لظاهر دخول المكلف به في الوجود، يعبّر عنه بالخبر الذي وقع واستقر"(16)، فهذا تحريض على صيام الأيام كاملة، لا يُنقص منها شيء، فرعاية العدد من المهام التي لا يجوز إغفالها، بل يجب المحافظة عليها دون نقص في عددها، ولا تهاون في أدائها، فالكمال هنا مستعمل على الحقيقة .
وقد أوجز القاضي البيضاوي هذين الوجهين حين جعلهما من الأغراض البيانية للتقييد بالصفة، وأضاف إليهما وجهاً ثالثاً، فقال: "[كاملة]: صفة مؤكِّدة تفيد المبالغة في محافظة العدد، أو مبيِّنة لكمال العشرة؛ فإنه أول عدد كامل؛ إذ به تنتهي الآحاد، وتتم مراتبها، أو مقيِّدة، تفيد كمال بدليتها من الهدي"(17).
وخلاصة ما تقدم أن هذه الفذلكة: [تلك عشرة كاملة] من الإطناب الذي جاء فيه زيادة لفظ؛ ليؤدي معنى بلاغياً، يتمثل في دفع توهم التخيير بين صيام ثلاثة أيام وسبعة، فالمطلوب هو صيام عشرة أيام، جَمَعَهَا النظم بعد تفريقها؛ لتأكيدها في الذهن على طريقة العرب في إعادة اللفظ بغيره توكيداً، ثم جاء بتوكيد آخر، فوصفها بأنها[كاملة]؛ كي لا يُتهاون في صيامها، ولتطييب خاطر الفقراء في بيان كمال ثوابها بدلاً من الهدي، وقد يُفاد التوكيد من هذا الوصف بأنه جاء بصيغة الإخبار، والمعنى الأمر.
"وبهذه الفوائد التي ذكرناها رُدَّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة، فهو إيضاح للواضحات، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة، وذلك محال، والكمال وصف نسبي لا يختص بالعددية كما زعموا لعنهم الله"(18).
وهنا مسألة قد ترد على الذهن، وهي: ما الفائدة من توزيع العشرة على عددين متفاوتين لا متساويين، وما الفائدة من جعل بعض الصيام في مدة الحجّ، وبعضه بعد الانتهاء منه ؟
أُجيبَ عن الأول بأن فائدة التوزيع إلى عددين متفاوتين لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة، وحالة الاستقرار بالمنزل، والفدية مبنية على التيسير، فجعل العدد الأقل مع المشقة الأكبر، والعدد الأكبر مع المشقة الأقل، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة بشكل خاص؛ لأن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال، دينية وقضائية(19).
أما فائدة جعل بعض الصيام في مدة الحجّ، وبعضه بعد الانتهاء منه، فلم يجعل كل الصوم بعد الانتهاء مثلاً؛ وذلك لجعل بعض العبادة عند سببها، فهذه فائدة الصوم في الحجّ(20)، ولإبقاء صلة القلب بالله بعد الفراغ من الحجّ، فلا يكون هذا الفراغ مخرجاً للقلب من جو العبادة، وهذه حكمة الصيام بعد الحجّ، والله أعلم .
وفي التعريف باسم الإشارة [تلك] دلالة على أهمية المشار إليه، وتفخيم أمره؛ كي لا يُتهاون به. ومميِّز العدد محذوف في [سبعة] و[عشرة]، والتقدير: وسبعة أيام إذا رجعتم، تلك عشرة أيام كاملة، والمحذوف واضح من السياق، استُعيض عنه بالتنوين .
وفي إيثار وصف الأيام العشرة بـ(الكمال) بدل (التمام)(21) ؛ "دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكماً مستقلاً . . . فالثلاثة عمل تام في نفسه، وإنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها"(22).
وقد فُصِلَتْ هذه الجملة [تلك عشرة كاملة] عما قبلها؛ لكمال الاتصال بين الجملتين، فقد جاءت مؤكِّدة للأولى تأكيداً معنويـاً، وترك العطف ـ كما قال الشيخ عبد القاهر ـ إما للاتصال إلى الغاية، أو الانفصال إلى الغاية(23)، والأول هو الذي وقع هنا.
________________________________________
(1) فائدة : الحاسب إذا ذكر عددين فصاعداً، قال عند إرادة جمع الأعداد: فَذَلِكَ ـ أي المعدود ـ كذا، فصيغت لهذا القول صيغة نحت، مثل: بسمل إذا قال: بسم الله، فحروف (فذلكة ) متجمعة من حروف (فَذَلِكَ)، فكلمة (فذلكة) كلمة مولدة لم تُسمع من كلام العرب= = غلب إطلاق اسم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة (ذلك). ينظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، (228:2) .
(2) الزمخشري، الكشاف، (239:1) .
(3) أبو حيان، البحر، (269:2) .
(4) ابن عاشور، التحرير والتنوير، (229:2) .
(5) ابن هشام، مغني اللبيب، (123:1) و (498:1) .
(6) فضل عباس، لطائف المنان، ص(28) .
(7) أبو عبيدة، مجاز القرآن، ص(70) .
(8) الثعالبي، فقه اللغة، ص(463).
(9) ينظر: ابن عطية، المحرر الوجيز، (118:2) .
(10) نُسب هذا البيت إلى الفرزدق، ينظر: ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص(295)، ولم أجده في ديوان الفرزدق.
(11) نسب ابن عاشور هذا البيت إلى الأعشى. ينظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير، (228:2)، ولم أجده في ديوان الأعشى .
(12) الزمخشري، الكشاف، (239:1) .
(13) ينظر : البيضاوي، أنوار التنزيل، (130:1)، البقاعي، نظم الدرر، (371:1)، وأبو السعود، إرشاد العقل السليم، (207:1).
(14) تفسير ابن كمال باشا ـ سورتي الفاتحة والبقرة ـ (دراسة وتحقيق وتعليق نوح الربابعة)، ص(501)، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية .
(15) القاضي عبد الجبار، تنزيه القرآن عن المطاعن، ص(48) .
(16) أبو حيان، البحر المحيط، (269:2) .
(17) البيضاوي، أنوار التنزيل، (130:1) .
(18) أبو حيان، البحر المحيط، (269:2) .
(19) ينظر: الألوسي، روح المعاني، (480:1)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (229:2) .
(20) ابن عاشور، التحرير والتنوير، (229:2) .
(21) ينظر الفرق بين (الكمال) و(التمام)، ص(88) من الرسالة .
(22) الطباطبائي، الميزان، (77:2) .
(23) ينظر: الجرجاني، الدلائل، ص(243)jg; uavm ;hlgi
المفضلات