من كتاب الاسلام محرر العبيد التاريخ السود للغرب لحمدي شفيق
فَـك رقبـة
آية حكيمة خالدة مكونة من كلمتين فقط حَرَّر الله تعالى بها عشرات الملايين من الأنفس على مدار 14 قرناً من الزمان . كلمتان فقط: "فك رقبة" - فى سورة البلد الآية:13- هما دستور الحرية والإعلان الإلهى لعتق المعذبين فى الأرض قبل الإسلام .. ولا ندرى كيف لا يخجل الزاعمون أن الإسلام يؤيد الرق من أنفسهم ، رغم وجود كل تلك النصوص الصريحة فى القرآن عن "تحرير رقبة" و"فك رقبة" ؟!! والمراد هنا العتق الاختيارى تقرباً إلى الله تعالى .أما حالات التحرير الوجوبى فقد سبق الكلام عنها فى الفصل السابق.
يؤكد المفسرون(1) تعليقاً على تلك الآية الخالدة التى جاءت فى سياق قوله تعالى : "فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة" (البلد : 11-13) أن اجتياز العقبة التى هى أهوال يوم القيامة – أو جهنم أو جبل فى جهنم حسب رأى آخرين– لا يكون إلا بالأعمال الصالحة فى الدنيا ، وعلى رأسها "فك رقبة" أى تخليص نفس من الرق ، إما بالعتق لها كلّيا بأن يحرّر السيد رقيقه بلا مقابل ، أو أن يشترى رقبة فيعتقها، أو بإعانة مكاتب على دفع المستحق لمالكه نظير تحريره (2).
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه إلى أن العتق أفضل من الصدقة ، مستدلاً بهذه الآية الكريمة التى جاء ذكر فك الرقبة فيها قبل باقى الحسنات الأخرى مثل "أو إطعام فى يوم ذى مسغبة" (البلد : 14) . وهو رأى عبقرى يدل على سعة أفق الإمام وإدراكه للقيمة العظمى للحرية فى الإسلام ، حتى أن الله تعالى قدمها على إطعام الفقراء والمساكين بل والأيتام من ذوى الأرحام .. وأورد الإمام القرطبى رضى الله عنه فى تفسير الآية أن رجلاً سأل الشّّعْبى : أين يضع فضل النفقة ، فى ذى قرابة أم يعتق رقبة ؟ فقال الشّعبى : عتق الرقبة أفضل ، مستدلاً بالحديث الشريف "من فك رقبة فك الله بكل عضو منها عضواً منه من النار" . وقال القرطبى رضى الله عنه : الفك : حل القيد، والرق قيد ، وسُمى المرقوق رقبة لأنه بالرق كالأسير المربوط فى رقبته ، وسُمى عتقها فكاً مثل فك الأسير من قيوده" . وأورد القرطبى كذلك حديثاً عن عقبة بن عامر الجُهنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار" . والأحاديث الشريفة فى العتق وفضله كثيرة ومتواترة فى كل كتب السُنِّة والصحيحين . كما أنه لا يخلو كتاب منها ولا من كتب الفقهاء القدامى من باب أو كتاب كبير يُسمى "العتق" .
وقد سأل رجل النبى عليه السلام عن عمل يُقرِّبه إلى الجنة ويباعده عن النار فأرشده قائلاً : "أعتق النسمة . وفك الرقبة" فقال الرجل : أو ليسا واحدا ؟ فأجابه عليه السلام: "لا . عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها"(3).
ومن الأحاديث الواردة فى فضل العتق ما رواه الشيخان البخارى ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"أيَّما امرئ مسلم أعتق امرءًا مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار" وتمامه فى البخارى : "حتى فَرْجه بفَرْجه" (4).
وقال الصنعانى فى سبل السلام : عتق الكافر يصح أيضاً ، وفى تقييد الرقبة المعتقة بالإسلام دليل على أن هذه الفضيلة لا تُنال إلا بعتق المسلمة ، وإن كان فى عتق الرقبة الكافرة فضل ، لكنه لا يبلغ ما وعد به هنا من الأجر . انتهى (5) .
وروى أبو داود "وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار". ويرى بعض الفقهاء أن عتق الذَكَرِ أفضل ، لكننا نرى صواب رأى فريق آخر ذهب إلى أن عتق الأنثى أفضل ، لأن ولدها كلهم يكونوا أحراراً سواءً تَزَوَّجت بِحرًّ أو عبدٍ ، فالأولاد يتبعون الأم فى الحرية ، وبذلك تكون دائرة التحرير أوسع نَطاقاً وأكثر عدداً . ونحن نرى كذلك أن الرق أشد وأقسى على الجارية ، لضعف المرأة ورقة حالها ، فتخليصها من الرق أولى عندنا من الذكر الذى يمكنه التحمل أكثر من أخته إلى أن يُيَسِّر الله له سبيلاً إلى التحرير بدوره بالمكاتبة أو غيرها . وروى البخارى ومسلم أيضاً عن أبى ذر رضى الله عنه : سألت النبى صلى الله عليه وسلم: أى العمل أفضل ؟ قال : "إيمان بالله وجهاد فى سبيله" قلت: فأى الرقاب أفضل ؟ قال : "أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها" متفق عليه (6) .
قال النووى : محل الحديث فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة ، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلاً فأراد أن يشترى بها رقاباً يعتقها ، فوجد رقبة بألف واثنتين بألف درهم ، فتحرير الإثنتين أفضل من الواحدة . ويبدو لنا بوضوح سعة أفق الإمام النووى رضى الله عنه وإدراكه الصائب لفلسفة التحرير فى الإسلام ، وأن المنهج هو التوسيع وزيادة أعداد المعتقين بقدر الإمكان . ولكن الصنعانى يستدرك على ما قاله النووى فيقول : الأولى ألا يؤخذ هذا كقاعدة كلية ، بل يختلف بإختلاف الأشخاص ، فإن كان شخص بمحل عظيم من العلم والعمل وانتفاع المسلمين به أفضل ، فعتقه أفضل من عتق جماعة ليس فيهم هذه السمات ، فيكون الضابط إعتبار الأكثر نفعاً للمسلمين . ومعنى "أنفسها عند أهلها" أى ما كان سرورهم بها أشد ، وهو الموافق لقوله تعالى : "لن تنالوا البِرَّ حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران: 92) . انتهى (7) .
وروى البخارى عن أبى موسى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له جارية فَعَلَّمها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران" . ويقول الدكتور موسى شاهين لاشين : له أجر التربية والإحسان وأجر زواجها من الحرّ ورفع مكانتها (8) .
تعـليق
هذا الحديث الشريف فى رأينا يظهر بوضوح حرص الإسلام على مصير الجوارى حتى بعد التحرير ، كما أنه يحث السادة على تعليم الرقيق وحسن تربيتهم بالضبط كما يفعلون مع أبنائهم وبناتهم الذين هم من أصلابهم . فعليهم أن يحصّّنوا الرقيق بكل العلوم النافعة والأخلاق الحميدة ، ثم لا يترك الجارية بعد عتقها للضياع فى المجتمع ، وقد لا يكون لها مكان تذهب إليه أصلاً سوى بيت السيد السابق .. وحيث أنها صارت أجنبية لا تحل له بعد تحريرها ، فلا سبيل سوى أن يتزوّجها هو أو أحد أقاربه أو معارفه من الأحرار الصالحين .
وقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم جويرية وصفية وريحانة وتَزَوَّجَهن، فضرب بذلك المثل والقدوة لغيره من المسلمين . كما أعتق حاضنته أم أيمن وزَوَّجَهَا مولاه زيد بن حارثة كما سيأتى فى الفصل الأخير . ومن ذلك نلاحظ كيف يقضى المنهج العظيم تدريجياً على آثار الرق البغيض فى المجتمع . فإذا تحرّر الرقيق ثم اختلط بالأحرار عن طريق الزواج والوَلاَء الذى هو كالنسب – قرابة الدم – فلا تبقى هناك أية فروق بين الفريقين ، وخلال جيل أو اثنين فقط تتلاشى تماماً آثار الرق ، ويصبح مجرد ذكرى غابرة لا يهتم بها أحد .
التوسع فى إجازة العتق
وكذلك نلاحظ أن فقهائنا العظماء قد توسعوا فى قبول تصرف العتق ، لشدة الحرص على توسيع نطاق الحرية فى المجتمع . ومن ذلك أنهم أجازوا للصبى الذى عمره عشر سنوات فقط أن يعتق عبده أو جاريته . كما أجازوا للبنت المالكة أن تعتق عبدًا أو جارية وهى فى سن التاسعة فقط . بل يذهب الإمام مالك رضى الله عنه إلى أبعد مدى ، فيُجيز العتق حتى ولو كان المالك قد نطق بكلمة التحرير على سبيل الخطأ ، ويُجيز عتق الناسى . وكما رأينا قرر الفقهاء أن عتق السكران يصح عقاباً له من ناحية وحرصاً على حق المملوك فى الحرية من ناحية أخرى ، و عتق الهازل يكون سارى المفعول ، وهذا كله يأتى تغليباً لمصلحة المماليك فى الحصول على الحرية بأية وسيلة ولأى سبب ممكن .
يتيع;glm , hp]m t; vrfm jv] ugn hgHu]hx
المفضلات