عن بقعة يختلط فيها الماضى بالحاضر، والخيال بالواقع، يمكن وصفها بأنها لؤلؤة فى قلب محار، هذه المدينة التى نشتمّ فيها عبق الحضارات التى يتنفسها البحر عبر نسيمه فى وجه السماء، أما عن رمال شاطئها فنجدها متانثرة لترسم ملامح من قطنها عبر السنين مصورة أجمل اللوحات الفنية.
بين هذه الأسطر تكون لبدة بطبيعتها الأخاذة، وسكانها المختلفين، وموقعها الذى جعلها تمتاز عن سواها من المدن.
تقع مدينة "لبدة" الأثرية شرقى مدينة الخمس اذ تبعد عنها مسافة 3 كم، أما عن العاصمة طرابلس فنحو 123 كم، وكانت بداية لبدة عندما استخدمها البحارة والتجار الكنعانيون "الفينقيون" كمرفأ يلجأون إليه أثناء رحلاتهم، وقد أخذ هذا المرفأ بالنمو إلى ان أصبح من أهم ما وجد على حوض المتوسط.
سميت "لبدة" الكبرى بغية تمييزها عن مدينة تحمل نفس الإسم واقعة فى تونس، وقد ورد ذكر لبدة فى كثير من المصادر التاريخية القديمة بأسماء شتى منها "لبتس ماجلي" باليونانية، و"ليبتس ماجنا" باللاتينية إذ يعتقد أن الأخير مشتق من إسمها البونيقى "لبقي"، كما أطلق عليها اليونانيون أيضا ليبتس "تيابوليس" أى المدينة الجديدة.
من مميزات موقع لبدة قربها من مناطق زراعية مهمة مثل مرتفعات الحسان الثلاثة: ترهونة ونهر السنبس ووادى كعام.
ولإبراز هذا الثراء الذى تجود به المنطقة يذكر أن الأمبراطور الرومانى يوليوس قيصر أنزل بها عندما ساندت خصمه بومبى الذى هزمة عقوبة بلغت 3 ملايين رطل من زيت الزيتون سنويا، الأمر الذى يكشف عن مكانة لبدة من الناحية الزراعية والإنتاجية حينها، إذ أنها كانت محاطة بغابات فسيحة من شجر الزيتون وما التلال الواقعة فى منطقة ترهونة إلا دليل على ذلك.
ولكن رُبّ ضارة نافعة فبالرغم من الجزية المجحفة بحق لبدة الا أنها استطاعت أن تبصر النور أكثر من ذى قبل، حيث ازدهرت وبلغت شأنا كبيراً خاصة عندما اعتلى عرش الإمبروطورية الرومانية
"سبتموس سفيروز" الذى ترجع أصوله ونشأته إلى هذه المدينة، والذى إهتم بها كثيراً حيث نشر العلم والأمن لدرجة جعلت سكان لبدة يطلقون على أنفسهم إسم "السبتميين" نسبةً له، وقد بلغت ذروة ازدهارها من ناحيتى العمران والحضارة فى عهد كل من سبتموز سفيريوس "211-139م" وإلكساندر سفيريوس "225-222م"، ففى هذه الفترة تم تشييد الساحة السويرية والإيوان السورى "البزيلكة" والشارع المعمد ونبع الحوريات وقوس النصر لسبتموز سفروس.
والجدير بالذكر أن الميدان القديم وأطلال المعابد المحيطة به والمجاور تماما للميناء كان مركز المدينة قبل أن تشهد عملية الإتساع، حيث تمت عملية التطوير والتوسيع وفقا للتسلسل التاريخى الآتي: أولا كان مبنى السوق البونيقية الذى أنشئ فى السنة 7 ق. م، تلاه مباشرة المسرح نصف الدائرى الذى شيد فى السنة الأولى ق.م.
أما مبنى "الكالكيديوم" فقد كان بين عامى "11-مو12م" ثم توالى إنشاء المبانى خلال القرنين الأول والثانى ميلادي، وقد كان من بين هذه الإنشاءات حمامات الإمبراطور هدريان التى أنشئت بين عامى "126- 128 م" وتم تجديدها فى عهد الامبرطور "سبتموز سفروز"، ونظرا لكثرة الحمامات ولأن الماء العنصر الحياتى الأساسى الذى لا يمكن دونه لهذه المنشآت أن تقوم، فقد استخدموا مياه الأمطار التى كانت تجمع فى آبار أرضية، ولكن اعتمادهم الأكبر كان على الماء الآتى من وادى لبدة – من سد بنى على هذا الوادي- حيث يتم تجميع المياه فى صهاريج ضخمة لا تزال بقاياها ماثلة حتى الوقت الراهن على جنوب الطريق الرئيسى بالقرب من الجسر، بالإضافة إلى وجود آثار للقناة المرسلة من الصهاريج الواقعة جنوبى الحمامات، واستخدمت فى عملية نقل المياه أنابيب من الرصاص لا تزال أجزاء منها موجودة.
وما يستوجب الإشارة اليه أن تاريخ نشأة مدينة لبدة كما يذكر بعض علماء الآثار يرجع إلى بعد تأسيس قرطاجة الكائنة الآن فى الضاحية الشمالية لمدينة تونس العاصمة، وذلك سنة 814ق.م، وفى رواية أخرى يتم إرجاع تأسيس لبدة إلى القرن السادس ق. م، وما يؤكد ذلك ما تم العثور عليه من خلال الحفريات التى قامت بها جامعة بنسلفانياسنة 1961م، حيث عثروا على قطع فخارية بالقرب من ميدان المدينة ترجع إلى ذلك العهد، ولكن لم يتم العثور حتى الآن على مبانى المدينة التى تعود إلى العهود الفينقية، حيث لم يخلف هذا العهد سوى المقابر البونيقية تحت منصة مسرح لبدة الرماني، وهذه المقابر تضم أوانى وأوعية فخارية من القرنين الرابع والخامس ق. م.
فى الفترة التى كانت فيها خاضعة للسلطة القرطاجية صمدت المدينة فى وجه نوميديا الافريقية، حتى أنها استطاعت أن تبقى واقفة حتى بعد خراب قرطاج على يد الرومان، ثم انضوت تحت حكم المملكة النوميدية بصفة استقلالية، ويذكر أحد الكتاب الرومانيين فى إحدى مذكراته عن لبدة بأنها حافظت على الشرائع والعادات الفينقية ولم يطل التأثير سوى لهجتهم، ويعلل ذلك باندماج أهل المدينة مع الأفارقة من خلال التزاوج.
وفى الوقت الذى دخلت فيه روما فى حرب مع نوميديا رغبت لبدة فى أن تكون حليفة لها وبالفعل فقد تجاوبت روما معها وأصبحت لبدة جزء من أفريقيا الرومانية وهنا كان السبب فى ما فرضه يوليوس قيصر من غرامة والتى أشرنا إليها سابقا.
إن ما كشفت عنه التنقيبات فى آثار لبدة يقتصر فقط على المدينة بأدوارها الرومانية المتعاقبة شاملة التحصينات التى أقامها البيزنطيون فى آخر مرحلة من حياة المدينة، كذلك أقواس النصر والطرق الرئيسية وأهمها الطريق الطولى والطريق العرضى وما سبق ذكره من معالم.
فيحاء العاقب
gf]m>> gcgcm hg`h;vm hgjhvdodm
المفضلات