الموضوع منقول عن الأخ أبى ريحانة فى ملتقى أهل الحديثالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين .
بسم الله الرحمن الرحيم
1- (جُرحٌ لا يَنْدمِل)
لقد أشرقت شمس الإسلام على الدنيا وبسط نوره على البشرية ببعثة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، مخاطباً أهل الكتاب : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍقَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِبِإِذْنِه ِوَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) [سورة المائدة 15-16].
من يومها وصدور الرهبان والقساوسة تغلي بالحقد والغضب وتفور ، فقد أبطل الله عز وجل بآيات واضحات بينات أصل عقيدتهم في تأليه المسيح وقرر بشريته بما يضطر إليه العقلاء من النظر والاستدلال .
فمن ذلك أن أول ما نطق به المسيح عليه السلام (( قَالَ إِنِّي عَبْدُاللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا )) [سورة مريم : 30] .
ومنه قوله تعالى : (( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّرَسُولٌ قَدْخَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْكَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُم َّانظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) [سورة المائدة : 75 ـ 76].
ومنه قوله تعالى : (( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوا ْإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَابَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَايَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) [سورة المائدة : 17] .
ومع أن الآيات في هذا الباب كثيرة جداً يصعب حصرها إلا أن هذه الآية الأخيرة هي التي استفزت هذه الأيام مكرم اسكندر المعروف بالأنبا بيشوي الرجل الثاني في الكنيسة الارثوذكسية المصرية ؛ فوقف أمامها يتوجع ويطالبنا بحذفها مما أُنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ مما حرك الساكن بهذه الكتابة والله المستعان .
إذن فقد أبطل الله نظرية تأليه المسيح بأدلة لا يضام عقلاء البشر في النظر إليها؛ إذ يكفي الإنسان أن يكون غير مغلوب على عقله بالجنون حتى يسلم لهذه الأدلة وينقاد ، فهذا جرح القرآن لأهل التثليث على مر الزمان ، وهناك جرح الفطرة وبدائه العقول وأصول اللغات ، فما من لغة من لغات البشر إلا وتقف مع مفرداتها عاجزة حائرة أمام هذا المحال الممتنع لذاته .
ومن اللطائف في هذا الباب ما جرى بين الشيخ أحمد ديدات ـ رحمه الله ـ وبين القس سوجارت من المناظرة ، إذ قال له ديدات : أنت تقول : شخص، وشخص، وشخص ، وهذا في كل اللغات يعني ثلاثة، ومع ذلك أنت تقول لي : هؤلاء الثلاثة أشخاص واحد ، فبأي لغة تتحدث !؟ هل تتحدث الانجليزية !؟
ومنذ أن أشرقت شمس الإسلام بحججه الرصينة البليغة وجرح الكنيسة يتسع ويتمدد فلم يغمض لحقدها جفن ، ولم تذق للتسامح معه طعماً ، لكن ظل سيف الإسلام وحسمه الذي لم يسبق إليه حائلاً بين ضعفة المسلمين وبين طوفان الغضب الكنسي ، وفي كل موضع سقط فيه سيف الإسلام كان سيف الثالوث يفجع البشرية بمذابح يندى لها جبين الإنسانية ، فلم يرحم شيخاً ولا امرأة ولم يترفع عن طفل ، والتاريخ والحاضر شاهدان من الأندلس إلى البوسنة والهرسك ؛ إذ لم يغفر سيف الكنيسة أبداً للإسلام وضوح بيانه وصراحته وتلعثمها أمامه ، فضلاً عن تلك الأصول الدموية للاعتقاد في الإله المصلوب .
ولم يشفع لضعفة المسلمين أبداً بر الإسلام وقسطه بأهل الكتاب ، : (( لايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )) [سورة الممتحنة : 8] . وأنه الدين الوحيد الذي نعمت في ظلاله الطوائف المختلفة بالأمن والأمان .
ولم يشفع لضعفة المسلمين أبداً شرف سيف الإسلام وعدله وورعه أيام مجده وعزه .
وفي النظر في إحدى مفردات الغل الصليبي والهوس الكنسي برهان ساطع على ما نقول ، فقد اتفق المؤرخون على أن عدد قتلى ضعفة المسلمين عند سقوط بيت المقدس في أيدي الصليبيين قد بلغ سبعين ألفاً، انظر : سبعين ألفاً من الأطفال والشيوخ والنساء وغير المقاتلين على خلفية معركة قد حسمت .
تأمل هذا تعرف معنى الحقد والهوس الديني ، وتعرف أيضاً مبلغ جرح الكنيسة وحيرتها بعقيدتها بين العقلاء .
وقد ذكر " غوستاف لوبون " في كتابه " الحضارة الغربية " - شهادة الراهب " روبرت " أحد الصليبيين - المتعصبين وهو شاهد عيان لما حدث في بيت المقدس - واصفاً سلوك قومه ص325 : ( كان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل ، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغـارها ! كانوا يذبحـون الأولاد والشباب ، ويقطعونهم إربا إربا ، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغيـة السرعة ، وكان قومنا يقبضـون كل شيء يجدونه فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية !!! " (1)اهـ.
وسجل المؤرخ الفرنسي ميشوا شهادة ريموند داجل كاهن مدينة لوبوي ، الذي ذهب لزيارة المذبح فإذا به أمام مذبحة بشرية ، فسجل أحد مشاهدها فقال: " ارتفعت الدماء إلى ركب الخيل وأعنتها في المسجد ، وكل الذين أبقى عليهم التعب من الذبح* أسروا طمعاً في أن يفدوا أنفسهم بالمال ثم قتلهم الصليبيون إذ أجبروهم على أن يلقوا بأنفسهم من أعالي البروج ، وكانوا يخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض ، حيث يذبحونهم فوق جثث السابقين من الهالكين ، إذ كانت الجثث مكدسة لا في القصور والمساجد والشوارع فحسب ، بل في أخفى الأماكن وأبعدها ، ولم تنته المذبحة إلا بعد أسبوع " (2)اهـ.
وقال الدكتور غوستاف لوبون : [ وكان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها قبل بضعة قرون ، قال كاهن مدينة لوبوي ، ريموند داجل ! " حدث ما هو عجيب بين العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها ، فقد قطعت رؤوس بعضهم ، فكان هذا أقل ما يمكن ان يصيبهم ، وبقرت بطون بعضهم ، فكانوا يضطرون الى القذف بأنفسهم من على الأسوار ، وحُرق بعضهم في النار . فكان ذلك بعد عذاب طويل ، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم ، فلا يمر المرء الا على جثث قتلاهم ، ولكن هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا . . . "
وروى ذلك الكاهن الحليم خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر ، فعرض الوصف اللطيف الآتي : " لقد أفرطنا وقمنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك ، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها ، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها ، وكان الجنود الذي احدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك الا بمشقة ".
ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك ، فعقدوا مؤتمراً أجمعوا فيه على ابادة جميع سكان القدس ، من المسلمين واليهود وخوارج النصارى** ، الذين كان عددهم نحو ستين ألفاً فأفنوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام ، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً " (3).
هذا ما نال مسلمو القدس فقط من غل أهل الصليب وهوسهم الديني ، ولم تكن سائر المدن المجاورة بأسعد حالاً ، ولم تقبل الكنيسة عبر عصورها المختلفة في هذه الجرائم بأقل من دور الشريك المحرض الذي يصوغ الجريمة ويصنعها على عينه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب الحضارة الغربية ص 325.
(*) يعني تعب القتلة من كثرة ما قتلوا .
(2) انظر كتاب صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ص 22 للدكتور محمد رجب البيومي، نقلاً عن ترجمة الدكتور أحمد أحمد بدوي لفقرات من كتاب المؤرخ الفرنسي ميشوا .
(**) الطوائف المختلفة بين النصارى يكفر بعضها بعضاً .
(3) انظر كتاب الحضارة الغربية ص 326-327.jHlghj tn hgaHk hg;ksn hglwvn
المفضلات