قوله تعالى: "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا" قال كثير من العلماء: هذه الآية دليل على وجوب ستر العورة؛ لأنه قال: "يواري سوآتكم". وقال قوم إنه ليس فيها دليل على ما ذكروه، بل فيها دلالة على الإنعام فقط.
قلت: القول الأول أصح. ومن جملة الإنعام ستر العورة؛ فبين أنه سبحانه وتعالى جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودل على الأمر بالستر. ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس. واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما. وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة والطبري؛ لقوله تعالى: "لباسا يواري سوآتكم"، "بدت لهما سوآتهما" [الأعراف: 22]، "ليريهما سوآتهما" [الأعراف: 27]. وفي البخاري عن أنس: "فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر - وفيه - ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم". وقال مالك: السرة ليست بعورة، وأكره للرجل أن يكشف فخذه بحضرة زوجته. وقال أبو حنيفة: الركبة عورة. وهو قول عطاء. وقال الشافعي: ليست السرة ولا الركبتان من العورة على الصحيح. وحكى أبو حامد الترمذي أن للشافعي في السرة قولين. وحجة مالك قوله عليه السلام لجرهد: (غط فخذك فإن الفخذ عورة). خرجه البخاري تعليقا وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط حتى يخرج من اختلافهم. وحديث جرهد هذا يدل على خلاف ما قال أبو حنيفة. وروي أن أبا هريرة قبل سرة الحسن بن علي وقال: أقبل منك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منك. فلو كانت السرة عورة ما قبلها أبو هريرة، ولا مكنه الحسن منها. وأما المرأة الحرة فعورة كلها إلا الوجه والكفين.. على هذا أكثر أهل العلم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها). ولأن ذلك واجب كشفه في الإحرام. وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وروي عن أحمد بن حنبل نحوه. وأما أم الولد فقال الأثرم: سمعته - يعني أحمد بن حنبل - يسأل عن أم الولد كيف تصلي؟ فقال: تغطي رأسها وقدميها؛ لأنها لا تباع، وتصلي كما تصلي الحرة. وأما الأمة فالعورة منها ما تحت ثديها، ولها أن تبدي رأسها ومعصميها. وقيل: حكمها حكم الرجل. وقيل: يكره لها كشف رأسها وصدرها. وكان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء على تغطيتهن رؤوسهن ويقول: لا تشبهن بالحرائر. وقال أصبغ: إن انكشف فخذها أعادت الصلاة في الوقت. وقال أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من الأمة عورة حتى ظفرها. وهذا خارج عن أقوال الفقهاء؛ لإجماعهم على أن المرأة الحرة لها أن تصلي المكتوبة ويداها ووجهها مكشوف ذلك كله، تباشر الأرض به. فالأمة أولى، وأم الولد أغلظ حالا من الأمة. والصبي الصغير لا حرمة لعورته. فإذا بلغت الجارية إلى حد تأخذها العين وتشتهى سترت عورتها. وحجة أبي بكر بن عبدالرحمن قوله تعالى: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن" [الأحزاب: 59]. وحديث أم سلمة أنها سئلت: ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: تصلي في الدرع والخمار السابغ الذي يغيب ظهور قدميها. وقد روي مرفوعا. والذين أوقفوه على أم سلمة أكثر وأحفظ؛ منهم مالك وابن إسحاق وغيرهما. قال أبو داود: ورفعه عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمر: عبدالرحمن هذا ضعيف عندهم؛ إلا أنه قد خرج البخاري بعض حديثه. والإجماع في هذا الباب أقوى من الخبر.
قوله تعالى: "أنزلنا عليكم لباسا" يعني المطر الذي ينبت القطن والكتان، ويقيم البهائم الذي منها الأصواف والأوبار والأشعار؛ فهو مجاز مثل "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" [الزمر: 6] على ما يأتي. وقيل: هذا الإنزال إنزال شيء من اللباس مع آدم وحواء، ليكون مثالا لغيره. وقال سعيد بن جبير: "أنزلنا عليكم" أي خلقنا لكم؛ كقوله: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أواج" أي خلق. على ما يأتي. وقيل: ألهمناكم كيفية صنعته.
قرأ أبو عبدالرحمن والحسن وعاصم من رواية المفضل الضبي، وأبو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي "ورياشا". ولم يحكه أبو عبيد إلا عن الحسن، ولم يفسر معناه. وهو جمع ريش. وهو ما كان من المال واللباس. وقال الفراء: ريش ورياش، كما يقال: لبس ولباس. وريش الطائر ما ستره الله به. وقيل: هو الخصب ورفاهية العيش. والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. وأنشد سيبويه:
فريشي منكم وهواي معكم وإن كانت زياتكم لماما
وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة: وهت له دابة بريشها؛ أي بكسوتها وما عليها من اللباس.
قوله تعالى: "ولباس التقوى ذلك خير" بين أن التقوى خير لباس؛ كما قال:
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عيانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وروى قاسم بن مالك عن عوف عن معبدالجهني قال: "لباس التقوى" الحياء. وقال ابن عباس: "لباس التقوى" هو العمل الصالح. وعنه أيضا: السمت الحسن في الوجه. وقيل: ما علمه عز وجل وهدى به. وقيل: "لباس التقوى" لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له خير من غيره. وقال زيد بن علي: "لباس التقوى" الدرع والمغفر؛ والساعدان، والساقان، يتقى بهما في الحرب. وقال عروة بن الزبير: هو الخشية لله. وقيل: هو استشعار تقوى الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه.
قلت: وهو الصحيح، وإليه يرجع قول ابن عباس وعروة. وقول زيد بن علي حسن، فإنه خض على الجهاد. وقال ابن زيد: هو ستر العورة. وهذا فيه تكرار، إذ قال أولا: "قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم". ومن قال: إنه لبس الخشن من الثياب فإنه أقرب إلى التواضع وترك الرعونات فدعوى؛ فقد كان الفضلاء من العلماء يلبسون الرفيع من الثياب مع حصول التقوى، على ما يأتي مبينا إن شاء الله تعالى. وقرأ أهل المدينة والكسائي "لباس" بالنصب عطفا على "لباسا" الأول. وقيل: انتصب بفعل مضمر؛ أي وأنزلنا لباس التقوى. والباقون بالرفع على الابتداء. و"ذلك" نعته و"خير" خبر الابتداء. والمعنى: ولباس التقوى المشار إليه، الذي علمتموه، خير لكم من لباس الثياب التي تواري سوآتكم، ومن الرياش الذي أنزلنا إليكم؛ فألبسوه. وقيل: ارتفع بإضمار هو؛ أي وهو لباس التقوى؛ أي هو ستر العورة. وعليه يخرج قول ابن زيد. وقيل: المعنى ولباس التقوى هو خير؛ "فذلك" بمعنى هو. والإعراب الأول أحسن ما قيل فيه. وقرأ الأعمش "ولباس التقوى خير" ولم يقرأ "ذلك". وهو خلاف المصحف. "ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون" أي مما يدل على أن له خالقا. و"ذلك" رفع على الصفة، أو على البدل، أو عطف بيان.
الآية: 27 {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}
قوله تعالى: "لا يفتننكم" أي لا يصرفنكم الشيطان عن الدين؛ كما فتن أبويكم بالإخراج من الجنة. "أب" للمذكر، و"أبة" للمؤنث. فعلى هذا قيل: أبوان "ينزع عنهما لباسهما" في موضع نصب على الحال. ويكون مستأنفا فيوقف على "من الجنة". "ليريهما" نصب بلام كي. وفي هذا أيضا دليل على وجوب ستر العورة؛ لقوله: "ينزع عنهما لباسهما". قال الآخرون: إنما فيه التحذير من زوال النعمة؛ كما نزل بآدم. هذا أن لو ثبت أن شرع آدم يلزمنا، والأمر بخلاف ذلك.
قوله تعالى: "إنه يراكم هو وقبيله" "قبيله" جنوده. قال مجاهد: يعني الجن والشياطين. ابن زيد: "قبيله" نسله. وقيل: جيله. "من حيث لا ترونهم" قال بعض العلماء: في هذا دليل على أن الجن لا يرون؛ لقوله "من حيث لا ترونهم" قيل: جائز أن يروا؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يريهم كشف أجسامهم حتى ترى. قال النحاس: "من حيث لا ترونهم" يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي؛ ليكون ذلك دلالة على نبوته؛ لأن الله جل وعز خلقهم خلقا لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم. وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم. وفي الخبر (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). و: "الذي يوسوس في صدور الناس" [الناس: 5]. وقال عليه السلام: (إن للملك لمة وللشيطان لمة - أي بالقلب - فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق). وقد جاء في رؤيتهم أخبار صحيحة. وقد خرج البخاري عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة طويلة، ذكر فيها أنه أخذ الجني الذي كان يأخذ التمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ما فعل أسيرك البارحة). وقد تقدم في البقرة. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لو لا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة) - في العفريت الذي تفلت عليه. وسيأتي في "ص" إن شاء الله تعالى. "إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون" أي زيادة في عقوبتهم وسوينا بينهم في الذهاب عن الحق.
الآية: 28 {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}
الفاحشة هنا في قول كثر المفسرين طوافهم بالبيت عراة. وقال الحسن: هي الشرك والكفر. واحتجوا على ذلك بتقليدهم أسلافهم، وبأن الله أمرهم بها. وقال الحسن: "والله أمرنا بها" قالوا: لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه. "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء" بين أنهم متحكمون، ولا دليل لهم على أن الله أمرهم بما ادعوا. وقد مضى ذم التقليد وذم كثير من جهالاتهم. وهذا منها.
الآية: 29 {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون}
قوله تعالى: "قل أمر ربي بالقسط" قال ابن عباس: لا إله إلا الله. وقيل: القسط العدل؛ أي أمر: العدل فأطيعوه. ففي الكلام حذف. "وأقيموا وجوهكم" أي توجهوا إليه في كل صلاة إلى القبلة. "عند كل مسجد" أي في أي مسجد كنتم. "وادعوه مخلصين له الدين" أي وحدوه ولا تشركوا به. "كما بدأكم تعودون" نظيره "ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" [الأنعام: 94] وقد تقدم. والكاف في موضع نصب؛ أي تعودون كما بدأكم؛ أي كما خلقكم أول مرة يعيدكم. وقال الزجاج: هو متعلق بما قبله. أي ومنها تخرجون كما بدأكم تعودون.
الآية: 30 {فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون}
قوله تعالى: "فريقا هدى" "فريقا" نصب على الحال من المضمر في "تعودون" أي تعودون فريقين: سعداء، وأشقياء. يقوي هذا قراءة أبي "تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة"؛ عن الكسائي. وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى "فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة" قال: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة، وإن عمل بأعمال الهدى. ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى، وإن عمل بأعمال الضلالة. ابتدأ الله خلق إبليس على الضلالة، وعمل بأعمال السعادة مع الملائكة، ثم رده الله إلى ما ابتدأ عليه خلقه. قال: "وكان من الكافرين" [البقرة: 34] وفي هذا رد واضح على القدرية ومن تابعهم. وقيل: "فريقا" نصب بـ "هدى"، "وفريقا" الثاني نصب بإضمار فعل؛ أي وأضل فريقا. وأنشد سيبويه:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
قال الفراء: ولو كان مرفوعا لجاز. "إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله" وقرأ عيسى بن عمر: "أنهم" بفتح الهمزة، يعني لأنهم.p]de [vi] ig i, uk hgli]n ?
المفضلات