وقفة للمحاسبة
بداية كل عام وأنتم إلى الله أقرب وعلى طاعته أدوم بمناسبة العام الهجرى الجديد
أيها الأحباب عام مضى وكل يوم يمضى يدنى من الأجل واعلموا أن رؤوس أموالنا أعمارنا هذه الأيام التي نعدها والشهور التي نقضيها والسنين التي نعيشها. نتاجر مع الله بأعمارنا، والأعمال الصالحة مكاسبنا وأرباحنا، والسيئات والمعاصي هي خسائرنا. الحسيب علينا في هذه التجارة لا يفوته شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يكتب كل ما نعمله من خير أو شر في صحائف ثم يعرضها علينا مع الشهود من أنفسنا، فتشهد يد الإنسان عليه ورجله وعينه وأذنه ولسانه حتى لا يستطيع أن ينكر شيئاً مما عمل. قال الله -جل الله-: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ النور:24].
ألسنا بعد هذا أحق من تجار الدنيا بالمراجعة والمحاسبة! فما لنا إذاً عن هذا غافلون وفي اللهو غارقون وفي الغي سادرون، وكأننا نسينا ما سوف يكون.
إخوة الإيمان ، وقفات المحاسبة هنا تهون علينا وقفتنا للمحاسبة هناك. من حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه.
المحاسبة الصادقة هي ما أورثت عملاً، فعليك يا عبد الله أن تستدرك ما فات بما بقي، فتعيش ساعتك ويومك، ولا تشتغل بالندم والتحسر من غير عمل. واعلم أن من أصلح ما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وبما بقي.. والأعمال بخواتيمها.
الموت يأتيك بغتة ولا مفر منه .. : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ [آل عمران:185]. فأعط كل لحظة حقها وكل نَفَس قيمته، فالأيام مطايا، والأنفاس خطوات، والصالحات هي رؤوس الأموال، والربح جنات عدن، والخسارة نار تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، وأنت حسيب نفسك.
قرأ الحسن البصري ـ رحمه الله ـ قوله تعالى: عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ [ق:17]. فقال: بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك فصاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، فإذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك فتخرج يوم القيامة فيقال لك: ٱقْرَأْ كَتَـٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]. قال رحمه الله: عدل والله من جعلك حسيب نفسك. : وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلاْزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَـٰظِمِينَ مَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ ٱلاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ وَٱللَّهُ يَقْضِى بِٱلْحَقّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [غافر:18-20].
عجبا لك يا ابن آدم وقد أراك الله آيات قدرته وآيات عظمته في نفسك وفي كل ما حولك من الكائنات ثم تعصيه.
فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كـل شيء لـه آيـة تـدل على أنه واحـد
ابن آدم لو عرفت نفسك وقدرها لعلمت مدى ظلمك حين تؤمر فلا تفعل، وتنهى فتفعل. فهل ظننت أن الله غافل عنك فلا يعلم ما تفعل؟ أم ظننت أن الله غير قادر عليك فيمنعك مما تفعل؟ إلى متى تظل سادراً في غيك؟ بعيداً عن ربك؟ ناس ليوم حشرك؟ غافلاً عن ساعة قبرك؟
علمت أن الله يحصي عليك عملك وما توقيت الحساب. نسيت معاصيك فظننت أنها نُسِيَت، والله قد كتبها وأحصاها يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَـٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]. أنسيت يوم المعاد؟ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
ابن آدم ويحك تركت العمل الصالح حتى إذا أتاك أجلك قلت: قَالَ رَبّ ٱرْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـٰلِحاً [المؤمنون:99-100]. فها أنت فيها، أفلا تعمل، قبل أن تطلب الرجوع فلا يُقبل. أما سمعت قول الخاسرين يوم القيامة رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ [المؤمنون:107].
أوما سمعت الجواب عليهم بعد طول انتظار قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]. فاحذر من ذلك اليوم وتوق الحساب، فمن نوقش الحساب فقد عذب.
فيا أيها المؤمنون متى التوبة؟ ومتى الأوبة؟ لا زال فينا من تلبس بأنواع من الشرك صغيره وكبيره، ولا زال فينا المتهاون بالصلاة، ولا زال فينا المانع للزكاة والمفرط في إعطائها لمستحقيها، ولا زال فينا المفطر في شهر الصوم، ولا زال فينا القاطع لرحمه، ولا زال فينا الظالم لنفسه، الآكل لأموال الناس بالباطل، وغير ذلك في قائمة طويلة من الإسراف على النفس والتفريط في جنب الله.
فهذا عباد الله عرض من رب العباد<< قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنِـيبُواْ إِلَىٰ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ >> [الزمر:53-54]. ويقول جل وعلا: << يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ>> [التحريم:8].,rtm gglphsfm
المفضلات