الفقر وحقوق الإنسان
د. الطيب البكوش
رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان لقد جرت العادة أن يقع تناول قضية الفقر من حيث هو ظاهرة اقتصادية واجتماعية عادية مألوفة موجودة في جميع المجتمعات وفي جميع العصور، وإن بدرجات متفاوتة. وتزخر آداب الشعوب بالإشارات إلى الفقراء والأغنياء كما لا تخلو الأديان من ذكر واجب الأغنياء تجاه الفقراء باعتبار الفقر والغنى محنة لهؤلاء وامتحانا لأولئك.
وخلال النصف الثاني من القرن العشرين كثر الحديث عن الفقر والفقراء في أدبيات الأمم المتحدة بالتوسّع من الظاهرة الاجتماعية في المجتمع الواحد إلى الظاهرة العالمية بتصنيف البلدان إلى غنية وفقيرة وبتحديد مقاييس ومؤشرات للفقر في مستوى البلدان وكذلك الأفراد مع مراعاة النسبيّة، فالفقير في الصومال لا يُقاس بالمقاييس نفسها التي يقاس بها الفقير في أمريكا الشمالية.
وهكذا توسّع الاهتمام بظاهرة الفقر من المجال الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع من المجتمعات إلى مجال العلاقات الدولية. فهل ثمة في هذا التوسّع ما يبرّر ربط ظاهرة الفقر بحقوق الإنسان بمفهومها الحديث ؟
يقتضي الجواب عن هذا السؤال أن نحدد أولا ماهية الفقر وأنواعه وأن نحلّل أسبابه ومظاهره لنبيّن طرائق مقاومته والقضاء عليه.
أوّلا: ماهية الفقر
1 - الدلالة :
المعاني التي يدل عليها الفقر لغة تتلخص في النقص والحاجة. فالفقير إلى الشيء لا يكون فقيرا إليه إلاّ إذا كان في حاجة إليه لغيابه تماما أو لوجوده دون الحاجة. والمعنى السائد الذي يتبادر إلى الذهن قبل غيره هو نقص المال الذي يمكّن من تحقيق الحاجات من مأكل وملبس ومسكن، الخ.
وقد ميّز بعض الفقهاء قديما بين الفقير الذي لا يملك قوت عامه والمسكين الذي لا يملك قوت يومه، وهي مقابلة لها علاقة بواجب الزكاة.. وقد يكون ثمة ما يبرّرها قديما، ولكنها لم تعد اليوم مناسبة لأن جميع الأجراء الذين لا دخل لهم غير أجورهم، مهما علت، يعدّون عند ذلك فقراء، وهو ما لا يستقيم بالمقاييس الاقتصادية والاجتماعية الحديثة.
ولعل نسبية الفقر هي التي تبرّر وصف الفقر أحيانا بالمدقع في العربية وبالشديد في ألسن أخرى.
ولئن كان المفهوم الاقتصادي والاجتماعي هو الطاغي، فإن الفقر كثيرا ما يضاف، حقيقة أو مجازا، إلى أشياء أخرى، لدلالة الجزء على الكل، أو العكس، مثل فقر الدم، والفقر الذهني والفقر العاطفي، الخ.
ومن المظاهر الهامة لتطوّر مفهوم الفقر في العصر الحديث، الانتقال من الحاجة إلى الشيء الغائب أو الناقص إلى غياب القدرة على تحقيق الحاجة. وهذا التحول الدلالي هام لأن غياب القدرة لا يعني بالضرورة غياب الإرادة، وهو ما يطرح قضية المسؤولية الموضوعية.
2 – مقياس الفقر وأنواعه
تنزع المؤسسات الأممية إلى تحديد عتبات الفقر حسب مستوى المعيشة في كل بلد، ولكنها تورد غالبا معدّلا يطبق على البلدان الفقيرة، مقدّرة عتبة الفقر بمعدّل دخل فردي دون الدولارين في اليوم، ومعتبرة ما دون الدولار الواحد علامة فقر مدقع.
ويمكن التمييز بين الفقر الثابت المتواصل، وهو جماعي هيكلي، والفقر الطارئ أو الظرفي الناجم عن أزمة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية عابرة أو جائحة من الجوائح أو الكوارث الطبيعية وهو عادة ما يمكن تجاوزُه بالتضامن الشعبي والدولي.
ويقودنا ذلك إلى تحليل أسباب الفقر المتعددة.
ثانيا: أسباب الفقر
رأينا أنّ الفقر يُعتبر تقليديا قدرا، وهو من طبيعة الأشياء، فالرزق على الله ، يعطيه من يشاء، متى شاء. لذلك لا أحد يستغرب وجود الفقر في مجتمع ما لأنه موجود في جميع المجتمعات، وكأنما هو من خصائص كل مجتمع، إلا أن الفرق يبقى في درجة الفقر ونسبة الفقراء في المجتمع.
أما اليوم، فإن الرأي الذي أخذ يسود في العقود الأخيرة ولا سيما في السنين الأخيرة، هو أن الفقر شكل من أشكال الإقصاء والتهميش ومسّ بكرامة الإنسان، ومن ثمّ فهو انتهاك لحق جوهري من حقوق الإنسان ينجرّ عنه انتهاك لعديد الحقوق المتفرعة، منها الحق في الشغل والدخل المناسب والعيش الكريم والضمان الاجتماعي والصحة، الخ. وهي حقوق اقتصادية واجتماعية أساسية.
ويمكن من هذه الزاوية أن نتبيّن أسبابا داخلية وأخرى خارجية.
1 - الأسباب الداخلية
من أهم الأسباب الداخلية طبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد في بلد ما. فالنّظام الجائر لا يشعر فيه المواطن بالأمن والاطمئنان إلى عدالة تحميه من الظلم والعسف. ويستفحل الأمر إذا تضاعف العامل السياسي بعامل اقتصادي يتمثل في انفراد الحكم وأذياله بالثروة بالطرق غير المشروعة نتيجة استشراء الفساد والمحسوبية، فيتعاضد الاستبداد السياسي بالاستبداد الاقتصادي والاجتماعي، وهي من الحالات التي تتسبب في اتساع رقعة الفقر حتى عندما يكون البلد زاخرا بالثروات الطبيعية كما حدث ويحدث في عدة بلدان إفريقية أو في أمريكا اللاتينية، هذا فضلا عن الحروب الأهلية والاضطرابات وانعدام الأمن.
2 – الأسباب الخارجية
الأسباب الخارجية متعددة، وهي أعقدُ وأخفى أحيانا. من أكثرها ظهورا الاحتلال الأجنبي كما حدث في العراق أخيرا بعد حصار دام أكثر من عقد تسبب في تفقير شعب بأكمله رغم ثرواته النفطية. ويتعقد الأمر كثيرا إذا كان الاحتلال استيطانيا كما في فلسطين حيث تتدهور حالة الشعب الفلسطيني يوما بعد يوم وتتسع فيه رقعة الفقر نتيجة إرهاب الدولة الصهيونية وتدميرها المتواصل للبنية التحتية وهدم المنازل وتجريف الأراضي الفلاحية فتتحول مئات العائلات بين يوم وليلة من الكفاف إلى الفقر المدقع.
ومن الأسباب غير الظاهرة للعيان نقص المساعدات الدولية أو سوء توزيعها في البلدان التي يسود فيها الفساد في الحكم.
ومن الأسباب التي لا يعرفها عادة غير أهل الاختصاص، لأنها من أخفى عوامل التفقير للبلدان النامية التي يعتمد اقتصادها خاصة على المنتوج الفلاحي وبعض الصناعات التحويلية، الحمايةُ الكمركية التي تمارسها البلدان الغنية في وجه صادرات البلدان النامية، وبالخصوص الدعم المالي الذي تقدّمه لفلاحيها حتى يُنافس منتوجُهم الفلاحي صادراتِ البلدان النامية، وقد بلغ مقدار هذا الدعم رقما مهولا يقارب المليار دولار يوميا. هذا فضلا عن عرقلة التبادل الأفقي جنوب- جنوب، وعن التلاعب بأسعار المواد الأوّلية التي لا تستطيع البلدان النامية التحكم فيها وإنما تضطر إلى الرضوخ لإرادة الأقوى.
ولذلك اقترح بعضهم بعث هيكل مستقل يضبط أسعار المواد الأولية والفلاحية بالعدل مع مراعاة تكلفة الإنتاج الحقيقية.
على أنه توجد رغم ذلك بعض المؤشرات الإيجابية في هذا الصدد. من ذلك قرار اللجنة الخاصة في منظمة التجارة العالمية يوم 26 – 4 – 2004 مساندة البرازيل ضد الولايات المتحدة الأمريكية في قضية القطن.
إلا أن البلدان الغنية كثيرا ما تتخفى وراء الشركات الكبرى العابرة للحدود، وهي ذات نفوذ كبير خفي، قد يتجاوز نفوذ الدول والحكومات، مما يقتضي التفكير في إقرار قواعد سلوك تحدّ من استبدادها وفسادها وإضرارها بالدول النامية وتعميق الفقر فيها، في ضوء ما أصبح يسمّى العولمة. فهذه الشركات الكبرى التي جلها أمريكية، تنتعش بالحروب وبالعولمة المتوحشة، فقد تمكنت من مضاعفة نشاطها خلال العقد الأخير وضرب أرباحها في ثلاثة. وقد بلغت أوج أرباحها سنة 2003.
3 – الفقر والعولمة
لقد تطوّر اقتصاد السوق ولاسيما بعد فشل الأنظمة الشيوعية إلى ما أصبح يسمى العولمة التي تتميز بتشابك المصالح والعلاقات الدولية ولاسيما في المجال الاقتصادي، ثم عمّ جميع الميادين تقريبا كنتيجة تبدو طبيعية للثورة التكنولوجية والمعلوماتية. وقد تسارع نسقها في العقد الأخير ورفعتها الدول الغنية شعارا كثيرا ما قُدّم حلاّ يكاد يكون سحريا لقضايا التخلف والفقر في العالم، وذلك بفضل ما تمّ التبشير به من رفع نسب النموّ وتحقيق التنمية للجميع.
لكن شتان ما بين الشعار والواقع، فجميع التقارير تؤكد عكس ذلك. فالعولمة لم يستفد منها إلا الأغنياء إذا استثنينا اثني عشر بلدا ناميا استفادوا منها فعلا.
فخلال هذه الفترة، أي منذ بداية التسعينات، حيث أخذ نسق العولمة في التسارع، تقلص الناتج الداخلي العالمي، واتسعت الهوة بين البلدان الغنية والفقيرة، وتزايد عدد الفقراء في العالم إذ فاق المليارين من البشر. وقد تزايد عددهم حتى في أغنى البلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة سوء التوزيع فقد ارتفع عدد الفقراء سنة 2001 من 32.9 مليون فقير إلى 34.6 أي بزيادة 1.7 مليون فقير في سنة واحدة.
وقد بينت التجارب أن تحقيق النموّ لا ينجر عنه ضرورة تحقيق التنمية البشرية إذا لم يصحبه توزيع عادل نسبيا. فالبشرية قد حققت في الثمانينات نسبة نموّ عام محترم لكن ذلك لم يمنع زيادة عدد الفقراء المدقعين في نفس الفترة زيادة قدرت بمئة مليون فقير جديد.
ولنا في الهند عبرة في الأشهر الأخيرة، فقد خسرت الانتخابات الحكومةُ التي حققت نسبة نموّ مرتفعة لأنها لم تعمل بما فيه الكفاية على ترجمة ذلك النمو إلى تنمية تشمل فئات شعبية أوسع.
يمكن القول إجمالا إن العولمة قد حققت لبعض البلدان نموّا اقتصاديا وزيادة ثروة، لكنها زادت في فقر بلدان أخرى، كما زادت – حتى في بعض البلدان المستفيدة – من فقر شرائح من المجتمع لم تشملها ثمار النمو ولم تتحول إلى تنمية بشرية.
ولعل هذا ما يبرّر ظهور حركات تناهض العولمة الوحشية وتعمل من أجل عولمة بديلة أو عولمة ذات وجه إنساني كما وصفتها ماري روبنسن المفوضة السامية لحقوق الإنسان سابقا لأن العولمة مسار طبيعي وليست خيارا، فجوهر القضية ليس أن نكون معها أو ضدها وإنما أن نوظفها لصالح الجميع، وهو أمر غير مستحيل وإنما يدعونا إلى التفكير في الحلول الناجعة لمقاومة الفقر.
ثالثا: مقاومة الفقر وتجريمه
رأينا أن معالجة الفقر كانت منذ القديم تعتمد حلولا إنسانية مثل الصدقة من منطلق العطف أو التضامن أو الإعانات الإنسانية التي اتخذت بعدا دوليا في حالات الحروب والكوارث.
إلاّ أن الجديد نسبيا هو ربط الفقر بحقوق الإنسان في المستوى النظري وذلك بتجاوز المفاهيم المرتبطة بالطبيعة والقدر إلى اعتبار الفقر انتهاكا لحقوق الإنسان، أي بتجاوز الحتمية، سواء أنظر إليها من الزاوية الدينية القدرية أم من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية كإفراز طبيعي للنمو.
وهكذا أصبح الفقر يُعتبر اليوم التحدّي الأخلاقي الأكبر في عالم اليوم. وهو تحدّ يستحث همم الحكام والمثقفين وعالم الأعمال وأعضاء المنظمات غير الحكومية من نقابات ومنظمات حقوق إنسان فضلا عن سائر المواطنين المهتمين بقضايا المجتمع. ذلك أنه لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة دون قضاء على الفقر. وإن خاصية الفقر هي أنه لا يمثل انتهاكا لواحد من حقوق الإنسان وإنما يمثل انتهاكا لجميع حقوقه، لذلك بدأ الحديث في العقد الأخير خاصة عن الفقر باعتباره انتهاكا شاملا لحقوق الإنسان. وقد ذهب نلسون منديلا أبعد من ذلك في قمة كوبنهاكن حين وصف الفقر وصفا بليغا باعتباره "الوجه الحديث للعبودية". وكما ألغت البشرية العبودية خلال القرن التاسع عشر وجرّمته، فهي مطالبة اليوم بإلغاء الفقر وتجريمه لأنه يتسبب في أشكال جديدة من العبودية.
1 - ربط الفقر بحقوق الإنسان
يتضح لنا مما سبق أن ربط الفقر بحقوق الإنسان، يمثل مرحلة أساسية ضرورية للوصول إلى تجريمه كما جرّمت العبودية. وقد بدأ هذا الربط تدريجيا منذ الثمانينات بصدور إعلان الحق في التنمية سنة 1986 الذي يستمد جذوره من المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) التي تنص على أن "لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشتة في حالات البطالة والمرض والعجز والترمّل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته".
وقد فصل العهدان الدوليان ذلك (1966) ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي حقوق لئن عولجت أساسا من حيث هي حقوق فردية، فإن في العهدين ما يتعلق بالحقوق الجماعية للشعوب، وما يهيء لصدور إعلان الحق في التنمية بعد عقدين من ذلك، وهو إعلان يندرج بمواده العشر بوضوح ضمن حقوق الشعوب، باعتبار تنمية الشعوب شاملة بطبيعة الحال للأفراد.
وقد تعاقبت النصوص والقرارات بعد ذلك بنسق متسارع يدل على أنّ قضية الفقر في العالم أصبحت هاجسا من هواجس البشرية، لذلك وقع إدراجها ضمن برنامج عمل مؤتمر فيينا (1993) والقمة العالمية للتنمية الاجتماعية (1995) وإعلان الألفية، والعشرية الأممية للقضاء على الفقر (1997 – 2006) واعتبار ذلك واجبا أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا.
وقد تمّ الربط بوضوح بين الفقر وحقوق الإنسان والحق في التنمية والحكم الصالح الديمقراطي في الوثيقة العملية الصادرة في أواسط 2003 عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية. وفي هذا الربط دليل على تزايد الاقتناع بترابط هذه العناصر وبأن الفقر ليس ظاهرة شاذة أو معزولة وإنما هو مسؤولية جماعية. لأجل ذلك تبنت القضية لجان حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وردّدت صداها جميع تقارير المقررين الأمميين في السنين الأخيرة ولا سيما منهم الخاصين بما يسمى "الحقوق الجديدة" مثل التغذية والسكان الأصليين والسكن" فضلا عن تقارير منظمة العمل الدولية.
وخلال السنة الجارية (2004) كانت قضية الفقر في صدارة اهتمام المنتدى العالمي في دافوس والمنتدى الاجتماعي في هومباي من بين عديد المناسبات الأخرى.
2 - من الربط إلى الإلزام
يمكن القول إننا اليوم في مرحلة إدراج الفقر ضمن منظومة حقوق اإنسان بصفة نظرية ومبدئية. أما إدراجه ضمن المنظومة المعياريةّ، فهو غير مباشر لأنه يمر عبر الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية، فهل من الواقعية أن تصبح مقاومة الفقر إلزامية مثل منظومة حقوق الإنسان الأخرى؟
إن ذلك أمر مرغوب فيه أخلاقيا وتقتضيه جميع الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمناهضة الفقر لا تقع على هامش المنظومة وإنما في صلبها لأنها تقع في خط التقاطع بين الحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى. فالتهميش الاقتصادي والاجتماعي مرتبط وثيق الارتباط بالتهميش السياسي والديمقراطي. ويكفي على سبيل المثال أن نرى أثر الفقر في سير الانتخابات في بعض المجتمعات حيث تصبح الأصوات بضاعة تباع وتشترى.
وقد يرى البعض أن الليبرالية واقتصاد السوق وماآلا إليه من عولمة متوحشة مسؤول عن هذا الوضع. لكن يجب الاعتراف أيضا أن المثالية الاشتراكية التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية لئن حققت مكاسب هامة في المجال الاجتماعي فإنها فشلت وتبخرت الأحلام والآمال التي بعثتها لدخولها منطق الأولويات وإهمالها للحقوق المدنية والسياسية.
إن القضية اليوم ليست مناهضة رأس المال بمفهومه التقليدي، أو باسم دكتاتورية البرولتياريا، وهو موقف غير واقعي، بل هو عقيم، وإنما هي قضية مناهضة جميع الدكتاتوريات بما فيها دكتاتورية السوق، التي تسعى العولمة المتوحشة إلى فرضها. لذلك نحتاج اليوم إلى توسيع مفهوم رأس المال بتصنيفه إلى ثلاثة :
رأس المال الاقتصادي،و هو مالي، قابل للنموّ بحسن التصرّف.
رأس المال البشري، وهو فردي، يتحسّن خاصة بالتعليم والمعرفة.
رأس المال الاجتماعي، وهو جماعي، يهم مجتمعا معينا ويتحسّن بالتوزيع الأعدل لثمار النمو وبالتضامن الاجتماعي (العائلي والوطني...).
فإذا اعتبرنا ما بين هذه الأنواع من ترابط وتكامل، وعممنا الوعي به لدى الجميع، أمكن تضافر الجهود لتنميتها جميعا دون صراع لا يؤججه إلا فك الارتباط وافتعال التناقض بينها.
وهكذا تكون تنمية رؤوس الأموال الثلاثة وما يتفرع عنها عاملا أساسيا من عوامل التنمية الشاملة والقضاء على الفقر بإقرار الحق في تساوي الفرص حتى تتوفر للإنسان وسائل تجاوز حالة الفقر والخروج منه نهائيا.
بيد أن هذا التوجه لا يكتمل إلا بالحكم الصالح في مستوى المجتمع الواحد، وبنظام عالمي قائم على علاقات دولية أعدل.
الخلاصــة :
إن هذا التطور في مفهوم الفقر لا ينفي الوسائل التقليدية في محاربة الفقر مثل التضامن والمساعدات الإنسانية اجتماعيا ودوليا، وإنما يتجاوزها إلى تصوّر يُعرّف الفقر تعريفا أدق ويحلل أسبابه ونتائجه تحليلا أعمق وأشمل من النواحي الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإن تنامي الوعي بذلك يمثل مرحلة ضرورية لإدراج مناهضة الفقر ضمن منظومة حقوق الإنسان المعيارية قبل أن يقع تجريمه مثلما جرّمت العبودية أو التعذيب على سبيل المثال.
ومثلما فرضت البشرية بعث محاكم عدل دولية، لا نستغرب أن تنشأ يوما، قد لا يكون بعيدا، محكمة دولية تجرّم الفقر الذي يتسبب فيه الحكم الفاسد بالمقاييس الموضوعية. وإن ما يوجد في العالم اليوم من انتهاك لحقوق الإنسان والشعوب ، لا يجب أن لا يحجب عنا ما تحقق من مكاسب في مجال القانون الدولي الإنساني. فالانتهاكات التي كانت القاعدة، لابدّ أن تصبح شذوذا وعارا على من يقترفها من الجماعات والدول.
بعـض المراجــع
تقارير التنمية البشرية الصادرة سنويا عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية.
تقارير البنك العالمي السنوية.
"إعلان الحق في التنمية" (الأمم المتحدة 1986).
"الحد من الفقر وحقوق الإنسان، وثيقة عملية" برنامج الأمم المتحدة للتنمية 6/2003
"حقوق الإنسان والفقر المدقع" قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 55/106
"حقوق الإنسان والفقر المدقع" قرار لجنة حقوق الإنسان 2001/31
"الفقر المدقع وحقوق الإنسان" وثيقة المنظمات غير الحكومية المقدمة للدورة 55 للّجنة الفرعية الخاصة بالنهوض بحقوق الإنسان وحمايتها (2003).
"الوثيقة الإعلامية لمداولات لجنة حقوق الإنسان حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (29-3-2004).
أشغال المنتدى الاجتماعي، جنيف 2002 و2003.
أشغال المنتدى العالمي لحقوق الإنسان/ نانت – فرنسا 16-19/05/2004 (خاصة تقرير خوزي بنقوا، رئيس فريق العمل الأممي حول الفقر المدقع "الفقر من حيث هو انتهاك لحقوق الإنسان" وتعقيب الطيب البكوش عليه).
القيت هذه المحاضرة في دورة عنبتاوي 14/2004hgtrv ,pr,r hghkshk
المفضلات