بسم الله الرحمن الرحيمإِلَهِي لاَ تُعَذِّب لِسَاناًيُخْبِر عَنْكَبقلم: شيخنا د.عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف -حفظهالله-
( إلهي لا تعذب لساناًيُخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدلّ عليك، ولا يداً تكتب حديث رسولك؛ فبعزتكلا تدخلني النار )[1].
هكذا كان ابن الجوزي - رحمه الله - يناجي ربه، وربما ابتهل إلى ربه قائلاً :( ارحم عبرة ترقرق على مافاتها منك ، وكبداً تحترق على بُعدها عنك )[2].
إن الانكساروالانطراح بين يدي الله تعالى أعظم العبادات وأجلُّ القربات ؛ فالدعاء هو العبادة ؛حيث يتضمن أنواعاً كثيرة من العبادة كإسلام الوجه لله تعالى ، والرغبة إليه ،والاعتماد عليه والتذلل والافتقار [3] .
يقول مطرف بن عبد الله بن الشخّير -رحمه الله- :( تذاكرتُ : ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثيرالصيام والصلاة ، وإذا هو في يد الله، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أنتسأله فيعطيك ، فإذا جماع الخير الدعاء)[4].
وقال سهل بن عبد اللهالتستري -رحمه الله-:( ليس بين العبد وبين ربه طريق أقربإليه من الافتقار )[5].
ولما كان الله تعالى لا يخلق شراً محضاً، فإنالمحن المتتابعة على أمة الإسلام في هذا العصر من أعظم أسباب اللجوء إلى اللهتعالى، والابتهال إليه . وتحقيق التوحيد كما حرر ذلك ابن تيمية - رحمه الله - بقوله :( فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهمالشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجونأحداً سواه ، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره ، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه،وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرضوالخوف، أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة ؛ فإن ذلك لذَّات بدنيةونِعَم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن.
وأما ما يحصل لأهلالتوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال،ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: يا ابن آدم، لقد بورك لكفي حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك . وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجةفأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتيخشية أن تنصرف نفسي عن ذلك)[6].
إن الناظر إلى حالنا يرى غفلة عنالدعاء ؛ فقد ندعو الله تعالى دون إلحاح أو افتقار ، وربما دعونا الله تعالى مع ضعفثقة ويقين بإجابة الدعاء ، ولذا تغيب حلاوة المناجاة ولذة الابتهال إلى رب العالمين . وإن مما يحقق ذلك أمرين مهمين:
أحدهما: أن نستحضر أسماء الله الحسنى وصفاته العلا ، فنتعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ فهوجل جلاله البرّ الكريم ، الرحمن الرحيم ، الملك القدوس السلام المؤمن المهمينالعزيز الجبار المتكبر . كما نتعرّف على الله تعالى من خلال آلائه ونعمه، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا}(النحل : 18).
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَاللَّهِ}(النحل : 53).
والأمرالآخر: أن نستصحب في مناجاتنا فقرَنا وضعفَنا ومسكنَتَنا ، وكثرةَذنوبنا، وظلمَنا وتفريطنا ؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله .
أرأيت إلى دعواتالأنبياء ومناجاتهم وما تحويه من هذين الأمرين المهمين ؟ فهذا زكريا - عليه السلام - ينادي ربه قائلاً :{قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّيوَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّشَقِياًّ}(مريم : 4) .
وها هو يونس - عليه السلام - ينادي ربه فيبطن الحوت فيقول:{لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّيكُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(الأنبياء: 87).
وكان نبينا صلى الله عليهوسلم يقول:[ سيد الاستغفار : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت،خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ماصنعت، أبوء لكبنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] [7].
ومما يحسن ذكره ها هنا أن عبد الملك بن مروان خطب خطبة بليغة ثم قطعهاوبكى بكاء كثيراً، ثم قال:( يا رب ! إن ذنوبي عظيمة ، وإنقليل عفوك أعظم منها، اللهم فامحُ بقليل عفوك عظيم ذنوبي . فبلغ ذلك الحسن البصريفبكى وقال: لو كان كلامٌ يكتب بالذهب لكُتِب هذا الكلام)[8] .
ومعأن ابن تيمية - قدس الله روحه - ينكر على الشاعر المتنبي مبالغته فيقوله:
يا من ألوذ به فيما أؤمله***ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنتكاسره***ولا يهيضون عظماً أنت جابره
إلا أنه يقول :( ربما قلتُ هذين البيتين فيالسجود أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع ) [9].
وقد رئي أبوالحسين الرازي (304 ت هـ) في المنام بعد موته ، فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي بقولي عند الموت:( اللهم إني نصحت الناس قولاً، وخنتنفسي فعلاً؛ فهب خيانة فعلي لنصح قولي )[10].
ونختم المقالة بخيرالهدي ؛ فقد كان من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم :[اللهمإنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي ، ولا يخفى عليك شيء من أمري ، أناالبائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر بذنبه، أسألك مسألةالمسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعتلك رقبته ، وذلّ لك جسده، ورغم لك أنفه ، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً، وكن ربيرؤوفاً رحيماً ! يا خير المسؤولين ،ويا خير المعطين! ][11].
ـــــــ
الهوامش:
[1] ذيل طبقاتالحنابلة ، 1/422 .
[2] ذيل طبقات الحنابلة ، 1/422 .
[3] انظر: كتاب الردعلى شبهات المستعينين بغير الله ، ص 47 .
[4] أخرجه ابن بطة في الإبانة (القدر) 2/ 195 .
[5] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ، 10/108 .
[6] مجموع الفتاوى ، 10/333 ، 334 .
[7] أخرجه البخاري ، كتاب الدعوات ، رقم 15 ، معنى (أبوء) : أقروأعترف .
[8] البداية والنهاية ، لابن كثير ، 9/67 .
[9] البداية والنهاية ،لابن كثير ، 11/259 .
[10] البداية والنهاية ، لابن كثير ، 11/ 127 .
[11] أخرجه الطبراني .YAgQiAd ghQ jEuQ`~Af gAsQhkhW dEoXfAv uQkX;Q
المفضلات