في دروب الحَيدَة عن الحق، والتجافي عن سلوك سبيل الرُّشد، والمخالفةِ عن صفات أولي الألباب ومناهج الصفْوة من عباد الرحمن تكثُر الأدواء، وتعظُم العلل، وتستحكمُ الآفات، ويصيب النفسَ منها شرٌّ عظيم، تقف به على شفا خطرٍ داهم، حين يعزُّ الدواء ويعسُر البرء ويمتنع الشفاء.
وإنَّما يصيب النفسَ من أدواء تتنوَّع ألوانُه وتتباين ضروبه وتتعدَّد وجوهه، غير أنَّ من أعظم هذه الأدواء شرًا وأشدِّها نُكرا وأبعدِها أثرًا ما يقع لفريق من الناس من إغراقٍ في الأثَرَة وإيغالٍ في طلب التفرّد، حتى يبلغَ به الأمرُ أن يُسرف على نفسه، فينظرَ إليها نظرَ الرضا والإعجاب واعتقادِ الكمال، ويرى لها من العلوِّ والرفعة والمقامات ما لا يراه أو يُقرُّ به لغيرها.
ثم إن هذه الخَلَّة المقبوحةَ قد تتمادى بصاحبها حتى تحملَه على ردِّ الحق ومقاومته، وعدم الإذعان له، والاستكبارِ عن آيات الله، والاستطالة على عباد الله في أموالهم أو أنفسهم أو أعراضهم، وكلُّ أولئك مما استلزم معالجةً دقيقة محكمةً تولَّاها الذكر الحكيم حيث بيَّن سبحانه جملةً من صنائع بعض من علا في الأرض بغير الحقِّ في معرض الذمّ لهم والتنفير من سلوك سبيلهم، مع بيان سوء مآلهم وقبح عاقبتهم، فقال سبحانه في شأن فرعونَ موضحًا أنَّ علوَّه في الأرض كان السببَ فيما لقيه أهلُها من ذلٍّ وصغار وعذاب وبلاء، فقال سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي ٱلأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].
وإنَّه لو لم يكن لهذه الخَلَّة المنكورة من سوءٍ سوى ما تُحدِثه في البناء النفسي للفرد من فسادٍ عريض؛ لكفى بذلك حاملًا لأولي النهي على الحذر منها والتجافي عنها والخشية من التردي في وهدتها، فكيف وقد جاء الوعيد الشديد للمتصِف بها مع بيان منتهى حالها ووبال أمرها؟ أفليست تُوقع صاحبَها في موبقةِ الكبر الذي أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مآل صاحبه في الدار الآخرة بقوله فيما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)[1]أجارنا الله جميعا من ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي ٱلأرْضِ وَلَا فَسَادًا وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
واعلموا أنَّ رفعةَ درجاتِ المتقين ورُقيَّ منازلِ الأبرار وسُموَّ مراتبِ المجتهدين وعلوَّ مقامات العاملين ليس من العلو الذي ذمَّه الله في شيء؛ لأنه علوٌّ بالحق باستباق الخيرات والتنافس في الباقيات الصالحات، وقد وصف سبحانه عباده المؤمنين وجندَه الصادقين بأنَّهم الأعلَون في قوله سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، وقال سبحانه في صفة موسى -عليه السلام-: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ} [طه: 68]، [الصف: 9]، وقال سبحانه: {فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـٰلَكُمْ} [محمد: 35].
نقلًا من موقع: المنبر
للشيخ: أسامة خياط -حفظه الله-
(بتصرف)
[1] أخرجه مسلم.
Hu/l hgH],hx avWh
المفضلات