د. راغب السرجاني
دائمًا وعلى مدار عقود التاريخ توجد فئة من الناس لا يُؤمنون بدين، ولا يعتقدون في إله على الإطلاق.
وللحقِّ فقد ظلَّت هذه الفئة تُمَثِّل الشذوذ البشري طوال التاريخ الإنساني ولكن الأمر أخذ في التصاعد منذ تزايد الصراع مع الكنيسة في أوربا،
وهذا ما حَدَا بكثير من الفلاسفة والمؤرِّخين أن يُهَاجموا الدين كله ويرموه عن قوس واحدة، ويُنتجوا فلسفات تُحاول تفسير الحياة والوجود بغضِّ النظر عن الإله.
كان اكتشاف نيوتن لقوانين الحركة ضربة قاسية للمعتقدات الكنسيَّة، التي تقول: إن كل شيء يحدث في هذا الكون إنما يتمُّ بقدرة الله.
واكتشافات نيوتن تقول: إن الحركة الموجودة في الكون تتمُّ طبقًا لقوانين محدَّدة، ولا تتمُّ برعاية الله، ولا تتدخَّل فيها السماء.
ثم ما لبث نيوتن أن تكلَّم عن قانون الجاذبية الذي فسَّر حركة الأجسام من أسفل إلى أعلى والعكس.
فبعد أن نفت آراء كوبر###وس(ت 1543م) وبرونو (ت 1600م) وجاليليو (ت 1642م) بشكل ضمني قيمة الأرض ومكانتها بالنسبة للكون،
وبالتالي احتمال نزول تشريع إلهي لها دون غيرها، كانت نظرية نيوتن تُدَمِّر فكرة وجود الإله نفسه، وتنفي أن هناك مشيئة تُسَيِّر الكون،
بل إنها قوانين حركة صارمة وطبيعية، ولا علاقة لها لا بالخير ولا بالشرِّ، ولا بالإيمان ولا بالكفر.
لم يلبث الأمر طويلاً حتى ظهر في ساحة المعركة عالم الأحياء الشهير تشارلز دارون(ت 1882م)، وهو الذي قاده عمله -في مراقبة العلاقة بين الكائنات الحيَّة وتفاعلاتها،
وكيف تنسجم مع بيئتها وتتكيَّف معها- إلى أن يقول بأن الكائنات تتطوَّر تبعًا لظروفها وحاجاتها المعيشية،وأنها ترتقي إلى كائنات أفضل.
ونحن نتوقَّع أنه لولا أجواء الصراع التي اعْتُبِرَ فيها العلمُ ضدَّ الدين، والدينُ ضدَّ العلم لما تطوَّرت أفكار دارون إلى هذه النتيجة،
التي تُخالف رُوح البحث العلمي، وتقترب من الرأي العقيدي، فلو كانت الأجواء هادئة لكانت النتيجة الطبيعية أن يُقال: سبحان الذي خلق فسوَّى، وقَدَّر فهدى.
لكن الكنيسة لم تستطع مجرَّد سماع هذه الآراء؛ وقامت بمراقبة الكتب والمطبوعات الصادرة عن هؤلاء العلماء وأتباعهم؛
لئلاَّ يُذيعوا آراءً مخالفةً للعقيدة الكاثوليكية، وتوسَّعت الكنيسة في تشكيل محاكم التفتيش ضدَّهم،
وقد حكمت تلك المحاكم في الفترة من 1481-1499م على تسعين ألفًا وثلاثة وعشرين شخصًا بأحكام مختلفة،
كما أصدرت قرارات تُحرِّم قراءة كتب جاليليو وبرونو وكوبر###وس ونيوتن، وأمرت بحرق كتبهم؛
ففي غَرْنَاطة -على سبيل المثال- تمَّ إحراق ثمانية آلاف كتاب ومخطوط لمخالفتها آراء الكنيسة
وبين هذه المراحل الثلاثة (كوبر###وس وجاليليو، ثم نيوتن، ثم دارون) كانت هناك غابة كثيفة من الفلاسفة والأدباء والمفكِّرين،
الذين كانت آراؤهم في مجملها تُهاجم الكنيسة بعنف، وهذه هي المرحلة التي وُلِدَ فيها الفكر الغربي الذي يرفض وجود الإله،
ويعتمد مبادئ الصدفة أو التطوُّر أو الشكِّ، ويُعلي من قيمة العقل فقط، وينقل السلطة والتشريع من الإله إلى الشعب.
نشأت هذه الآراء كردَّة فِعْلٍ على ما كانت الكنيسة الغربية تقوم به من احتكار لحياة الناس العامَّة،
فلا يستطيع أحدٌ أن يُدير شئون حياته بعيدًا عن رقابة بابا الكنيسة ومباركته،
وإلاَّ تعرَّض الشخص لعقوبات كنسية تصل في بعض الأحيان إلى القتل.
وفي المقابل فمَنِ استطاع الحصول على مباركة الكنيسة تُفتَح له كلُّ الأبواب المغلقة، ولا يستطيع أحد الوقوف في طريقه،
وقد يتطوَّر الأمر بهذا المحظوظ إلى حصوله على صكٍّ من بابا الكنيسة بأنه من أهل الجنَّة!
ولم ينجُ من هذا الوضع الفاسد البائس أحدٌ حتى كبار العلماء؛ فما إن ظهرت في أوربا بوادر النهضة العلمية المتأثِّرَة بحضارة المسلمين في الأندلس
-بعد ترجمة العلوم الإسلامية واليونانية إلى اللاتينية، وبرز عدد من العلماء الذين بَيَّنُوا بطلان آراء الكنيسة العلمية وبخاصَّة في الجغرافيا والفلك-
إلا ورأينا كيف انقضَّتْ عليهم وحاربتهم، مستخدمةً أشدَّ وأبشع طرق التعذيب والقهر؛ لتُرغمهم على الرضوخ لآرائها دونما مناقشة أو اجتهاد!!
ومن ثَمَّ أسفرت هذه السياسة الفاسدة إلى أن استقرَّ الفكر الأوربي على نظريَّتَيْنِ لتفسير الكون:
الأولى: استمدَّها من أرسطو؛ الذي قال بأن الإله قد خَلَق الكون، وخلق بداخله القوانين التي تُنَظِّمه، ثم تركه؛
لأنه أعظم من أن يهتمَّ بشيء أقلَّ منه. ويُمثَّل لهذه الحالة بصانع الساعة الذي وضع فيها قوانين الحركة وتركها.
والثانية: أن الإله -في الحقيقة- ليس إلاَّ جزءًا من الطبيعة ذاتها وخاضعًا لقوانينها، أو هو قانونها وسرُّ قوَّتها،
الذي بمزيد من المعرفة يمكن فهمه وإدراكه من خلال دراسة قوانين الطبيعة وسُنَّة الكون؛
وسواء تجلَّى الإله في مخلوقاته حتى يكاد يتوحَّد معها، أو انسحب من الدنيا تمامًا وتركها وشأنها، فإنَّ هذا يعني تهميش الإله
لكن بقيت في هذا الإطار حلقة رابعة، ألا وهي كارل ماركس، وهو الذي تأثَّر هو وصديقه فريدريك إنجلز (ت 1895م) بدارون،
فتجمَّعت السلسلة التي قادت إلى الفكر المادي، ليُقال في صراحة بمبدأ الشيوعية الكبير: "لا إله - الحياة مادَّة - الدين أفيون الشعوب -
كل التاريخ البشري يمكن تفسيره وَفق حاجات مادية فقط".
وكانت الحاجة المادية عند ماركس هي الجوع والمسألة الاقتصادية،
هذا الاتجاه بُنِيَتْ عليه الثورة الشيوعية، التي أحدثت انفجارًا في زيادة عدد الملحدين في العالم إلى هذه اللحظة.
ولا شكَّ أن الإلحاد يُمَثِّل رابطة تجمع بين معتنقيه على اختلاف رُؤاهم التفصيلية؛ وهي رابطة تتَّفق في استبعاد الإله،
كما تتَّفق في إحلال الإنسان أو العقل الإنساني في مكان المرجعية التي تتولَّى أمر التفسير والتشريع.. وما إلى ذلك.
ومن عجبٍ أنك تراهم على ضلالهم الظاهر هذا ينظرون إلى أصحاب الديانات نظرة المتعلِّم إلى الجاهل، والمتحضِّر إلى المتخلِّف،
وصاحب العلم إلى صاحب الخرافة، وثمة احترام يُولِيه كلُّ لاديني نحو المتَّفق معه في أن الأديان خرافة، وأنها من صُنْعِ البشر،
أو من صُنْعِ حُكَّامهم الطواغيت في العصور السحيقة؛ ليسهل من خلالها السيطرة على الناس، وتسخيرهم نحو رغباتهم ولذَّاتهم الخاصة!
وكانت العلمانية كغيرها من الأفكار المنحرفة التي ظهرت في هذه الفترة المظلمة بسبب طغيان رجال الكنسية وحماقاتهم..
نشأت الفكرة العلمانية التي تُنادي بضرورة إقصاء الدين عن الحياة تحت التعذيب ومن داخل محاكم التفتيش،
التي تفنَّنَتْ في وسائل إزهاق الأرواح؛ فهذا عظامه سُحقت، وآخر قُطعت أطرافه، ولم تُفَرِّق المحكمة في أحكامها بين رجل وامرأة
وظلَّ رجال الدين يُطاردون العلم والعلماء؛ خوفًا على مناصبهم أن تذهب بها فكرة جديدة أو اكتشاف علمي أدراج الرياح،
ولم يكن لأولئك الرجال من سعة الأفق ما يحملهم على تفهُّم اكتشافات وآراء المفكِّرين, ومقابلة الرأي بالرأي, والحُجَّة بالحُجَّة،
بل قابلوا ذلك بالعنف الذي تحوَّل لصالح المفكِّرين ونظرياتهم, وألهب قلوب الجماهير في كل مكان.
نشأت العلمانية في أوربا في وقت تفشَّتْ فيه الانحرافات والمذاهب الفكرية الضالَّة؛ بسبب الظروف القاسية التي عانت منها القارة الأوربية
لقرون طويلة تحت سيطرة طغاة الحُكَّام وطغاة رجال الدين الكنسي، الذين وصلوا في الطغيان وضروب الخرافات
إلى ما لا يتصوره العقل من التجبُّر والتناقض, والظلم الفادح, واستعباد الناس وإذلالهم, ومحاربة كل فكر يخالف ما هم عليه.
عاصر المفكِّرُون في هذه الفترة المظلمة دينًا لا يقبله العقل ولا يقرُّه المنطق،
وجرائم خُلُقيَّة من جنس وبذخ وسفه ودعارة لا حدود لها بين رجال الكنيسة أنفسهم -رهبانها وراهباتها-
وقد ذكر ول ديورانت -مؤلف موسوعة قصة الحضارة- أن سجلات الأديرة احتوت على عشرين مجلدًا من المحاكمات؛ بسبب الاتصال الجنسي بين رجال الكنيسة وراهباتها.
لقد أفاق المفكِّرُون على هذا الغبن الفاحش والفساد العريض، والظلم الذي لا يردعه رادع باسم الدين والتقرُّب إلى الله تعالى
بطاعة الرهبان والخضوع لهم، فهبُّوا يُطلقون الصرخات الحارَّة, والنداءات تلو النداءات للشعوب أن يفيقوا من تنويم دين الكنيسة المحرَّف لهم,
وأن ينفضوا عنهم غبار الجهل المتراكم بسببه.
فانفجر الناس وكأنهم البراكين الثائرة, وأخذوا يُنادون بإقصاء الدين ومَنْ يُمَثِّله عن طريقهم,
وخرجوا وكأنَّهم طُلاَّب ثَأْرٍ موتورون، وحصل بعد ذلك ما حصل من الحروب الخفيَّة والظاهرة بين رجال الكنيسة
وبين المفكِّرين ومَنْ تَبِعَهم، وإذا بالأرواح تُزهق, والضحايا تتوالى وتزداد.
استمرَّ هذا الوضع المتوتِّر إلى أن اندلعت الثورة الشعبية العارمة في فرنسا في 17 من يوليو عام 1789م..
فقد كانت الثورة الفرنسية بمنزلة نقطة الارتكاز للفكر العلماني، حيث قامت الثورة في فرنسا في الأساس على تعاليم الكنيسة الظالمة؛
وذلك بعد أن ذاق الفرنسيون ألوان الحرمان والجوع والشقاء, وبعد أن تبيّن لهم أن كل أسباب تلك المصائب هم طبقة النبلاء الحاكمة وطبقة رجال الدين،
فخاضوا ثورتهم المشهورة، التي أسفرت عن انتصار الشعب وسحق رجال الدين وكل ما يتصل بالدين؛
انتقامًا لما أسلفه رجال الدين نحوهم، فكانت سببًا من الأسباب القوية التي أدَّت إلى قيام العلمانية.
وتُعتبر تلك الثورة هي الفاتحة والمشجِّع الأوَّل لقيام العلمانية وإخفات أصوات طغاة الكنيسة،
وكذلك المناداة بإقامة الحكم على الإلحاد أو اللادينية, وعلى القوانين التي يصنعونها بدلاً من قوانين الكنيسة وفلسفتها.
المصدرhguglhkdm >> jhvdo hgkaHm
المفضلات