فرية الكتاب المقدس!
بقلم أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
(صفحة من الكتاب المقدس وعليها كمّ لافت للنظر من الشطب والتعديل والتغيير والإضافات... فهل يمكن لمثل هذا العبث أن يوصف بأنه منزّل من عند الله؟!)
في السادس من شهر أكتوبر عام 2008، نشر موقع "بي.بي.سي" التابع لهيئة الإذاعة البريطانية مقالا حول مخطوطة الكتاب المقدس المعروفة باسم "السيناوية"، نسبة إلى سيناء حيث تم العثور عليها في دير سانت كاترين منذ 160 عاما تقريبا، وللتمييز بينها وبين المخطوطة الأخرى التي ترجع أيضا إلى القرن الرابع والمعروفة باسم "الفاتيكانية"، وهما أقدم مخطوطتين معروفتين للكتاب المقدس، وإن كانتا مكتوبتان باليونانية، أي أنهما ليستا النسخة الأصلية لذلك الكتاب المفترض فيه أن يكون مكتوبا بالآرامية، على الأقل فيما يخص العهد الجديد، أي بلغة يسوع.
وبخلاف الإشارة إلى كمّ التصويبات والتعديلات الموجودة على المخطوطة وفي كل صفحة منها -وهو ما يثبت يقينا أن ذلك النص لا يمكن أن يكون كلام الله، على حد قول رودجر بولطون كاتب المقال، الأمر الذي سوف يصدم العديد من الأتباع الذين يتصورون أن الكتاب المقدس الحالي الذي بين أيديهم منزّل من عند الله- فإن المقال كان يُعلن عن قرب افتتاح الموقع الخاص بهذه المخطوطة في الصيف المقبل، لتكون متاحة لكل من يريد الدراسة والاستزادة من معرفة كيفية صياغة وتكوين النصوص "المقدسة" عبر العصور.
وبالفعل، كما كان معلنا في أكتوبر الماضي، تم افتتاح الموقع الخاص بمخطوطة سيناء في شهر يوليو 2009، ورابطه هو:www.codex-sinaiticus.net.
وفي السادس والسابع من نفس الشهر، أقيم بالمكتبة البريطانية مؤتمر علمي حول أصول مخطوطة الكتاب المقدس بعد تجميع أجزائها من أربعة أماكن مختلفة هي: المكتبة البريطانية، والمكتبة القومية في روسيا، ودير سانت كاترين بسيناء، ومكتبة جامعة لايبزج. ويبدو أن الالتزام بموعد الافتتاح طغى على إمكانية إتمام كل محتويات الموقع سواء في عدد اللغات المعلنة أو في ترجمة جميع النصوص.
وما يقال حول كيفية اكتشاف هذه المخطوطة وقصة انتقال أجزائها في تلك الأماكن الأربعة يتضمن بعض الغموض وشيئا من اللامعقول، أي أن هناك ما يوجد بين السطور وما خلفها و.. ما يقال عليها، وذلك مثل كل ما يتعلق بكيفية نشأة المسيحية الحالية وأصولها! واختصاراً، يقولون إنه في عام 1844 توجه أحد الباحثين الألمان، -يدعى قسطنطين فون تيشندورف C. Von Tischendorff)) مرسلا إلى مصر في مهمة استطلاعية من قِبَل فريدريك أغسطس ملك ساكسونيا- ليزور دير سانت كاترين الأرثوذكسي، وفي تجواله في غرفة أحد الرهبان، وقع نظره على سلة مهملات بجوار المدفأة، بها مخطوطات كانت في طريقها لإعلاء سعير نيرانها.. وهذه الجزئية تحديداً ليست بغريبة، فما أكثر المخطوطات التي استخدمها الرهبان للتدفئة، فهُم أول من يعلم بحقيقة قيمتها.. فمد الباحث يده من باب الفضول، وإذا به يمسك بـ 129 صفحة مخطوطة من العهد القديم، المعروفة باسم السبعينية. فأخذها وأودعها مكتبة جامعة لايبزج.
وفي زيارة أخرى عام 1853 عثر على جزأين آخرين من العهد القديم، وفي زيارة ثالثة عام 1859 أخبره الراهب بما يحتفظ به لنفسه، وإذا به العهد الجديد كاملا.. إلا أن الراهب رفض أن يعطيه له، فسافر تيشندورف إلى القاهرة، إلى دير يتبع نفس الملة، وطلب استحضار المخطوطة من عند الراهب لإهدائها إلى القيصر الذي كان يقوم بتمويل الحفائر في الموقع، وهو ما تم له فعلا.. وفي عام 1869 قام القيصر بإهداء سبعة آلاف روبيل لكل دير منهما، في القاهرة وفي سانت كاترين، مع بعض الهدايا العينية.. ولا يزال بدير سانت كاترين 33 ألف مخطوطة تعد أكبر مجموعة مخطوطات مسيحية خارج الفاتيكان.
وتكشف هذه الجزئية من تاريخ مخطوطة سيناء عن عدة مآخذ، أولها خطورة عمليات التنقيب عن الآثار التي تشرف عليها بعثات أجنبية، وسرقة الآثار والمخطوطات وسهولة الخروج بها من خلال المؤسسات الكنسية أو الدبلوماسية، وإهمال القساوسة وعدم إدراكهم لأهمية ما بين أيديهم من وثائق.. فما أكثر ما ضاع وابتلعته النيران أو فرّطوا فيه من أجل حفنة عملات على مر التاريخ، وهذه ليست بمعلومة جديدة وما أكثر من أشاروا إليها من المؤرخين والعلماء..
ومع تناثر أجزاء مخطوطة سيناء في أربعة بلدان، يقال إنه في عام 1933 قامت السلطات السوفييتية ببيع ما لديها من المخطوطة أو جزء منها إلى بريطانيا، بمبلغ 100 ألف جنيه أسترليني، وأودعت في المكتبة البريطانية. وفي شهر مارس عام 2005، تم الاتفاق بين المؤسسات الأربع لتجميع الأجزاء المتناثرة في مكان واحد وعمل موقع لها وتصويرها رقميا، والقيام بعمل ترجمة علمية لنصوصها باللغات الأربع.
وأهم ما تكشف عنه مخطوطة سيناء هذه، أن العهد الجديد كان يتضمن كتبا أو أسفاراً لم تعد توجد في العهد الجديد الحالي، ومنها وجود إنجيل برنابا كاملا وإنجيل الراعي هيرماس، اللذين تم استبعادهما بعد ذلك، كما تكشف عن تغيير ترتيب الأسفار المعروفة حاليا..
وبخلاف إضافة بعض النصوص أو استبعادها، فإن هذه المخطوطة تُسقط بكل تأكيد مصداقية هذه النصوص "المقدسة"؛ إذ بها كمّ لا تغفله عين من الطمس والإضافات والتغيير والتبديل في كل صفحة، كما هو واضح في الصورة بأول المقال! بينما يعلق دكتور سْكوت ماكّندريك (Sc. Mckendrick) قائلا في جريدة "لوموند" الفرنسية: "هذه المخطوطة تفتح نافذة واسعة على بدايات المسيحية، وتقدم أدلة من الدرجة الأولى حول كيفية انتقال الكتاب المقدس وصياغته من جيل إلى جيل".. ذلك لأن المخطوطة مليئة بالتصويبات المنتشرة في كل صفحة من صفحاتها، وهي تصويبات قام بها ما لا يقل عن عشرة مصححين، والكثير من هذه التغييرات يقال إنه تم خاصة في القرن السادس والسابع وامتد حتى القرن الثاني عشر!
ويقول جون بورجن (J. Burgon)عميد كلية وستمينستر: "إن عدم نقاء النص المتعلق بمخطوطة سيناء أو مخطوطة الفاتيكان ليس مجرد قضية رأي، وإنما هو حقيقة واقعة، فمخطوطة الفاتيكان تغفل كلمات أو جمل بأسرها في أكثر من 1491 موضعا، ومخطوطة سيناء مليئة بالأخطاء الظاهرة للعين المجردة.. أو بمعنى أدق: مخطوطة الفاتيكان تحذف 2877 كلمة، وتضيف 536 كلمة، وتبدّل معنى 935 كلمة، وتغيّر موضع 2098 كلمة، وتعديل 1132 كلمة، وهو ما يؤدي إلى 7578 اختلافا حقيقيا في النص، ومخطوطة سيناء أكثر فساداً؛ إذ إنها تتضمن أكثر من 9000 اختلاف وتناقض"!!
وحتى القرن الرابع لم تكن المؤسسة الكنسية قد استقرت بعد على اختيار الأناجيل التي ستحتفظ بها، من بين عشرات الأناجيل المتداولة، لذلك تم انعقاد مجمع نيقية الأول عام 325، لتحديد هذا الاختيار وترسيخ عقيدة الإيمان بعد تعديلها بتأليه يسوع عليه السلام.
واستبعاد إنجيل برنابا بعد ذلك من العهد الجديد الحالي لا يرجع إلى أنه يتهم اليهود بقتل المسيح -كما قيل- وليس الرومان، فذلك هو ما تؤكده رسائل بولس وأعمال الرسل التي تم الاحتفاظ بها، وإنما استُبعد برنابا لأنه يشير صراحة إلى مجيء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.. وهذه قضية أخرى.
وإذا نظرنا إلى العهد الجديد عن قرب، في مخطوطة سيناء، لوجدنا أنها تكشف أحيانا عن عكس ما يقوله يسوع في الأناجيل الحالية، كما لا توجد قصة المرأة الزانية التي كانت سترجم وأنقذها يسوع، ولا توجد العبارة التي قالها يسوع وهو على الصليب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34)، كما لا تذكر المخطوطة شيئا عن صعود المسيح إلى السماء، وبغياب هذا الدليل الذي يُعد من أسس الإيمان المسيحي ندرك إلى أي مدى تم نسج هذه الأناجيل وهذه العقيدة على مر العصور..
ومن أهم ما تكشف عنه هذه الآيات الغائبة عن هذا النص السيناوي، أن نهاية إنجيل مرقس كانت تقف عند العدد 8 من الإصحاح 16 التي تقول: "فخرجن سريعا وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحدٍ شيئاً لأنهن كن خائفات"!! وهذا يعني أنهن لم يبلّغن عن وجود القبر خاوياً، وبالتالي فما من أحد قد علم بأن يسوع قد صحا من الموت أو أنه قد بُعث حياً كما تزعم المؤسسة الكنسية، فوفقا لما يقوله الإنجيل في هذه المخطوطة التي ترجع لأواخر القرن الرابع، "لم يقلن لأحدٍ شيئاً لأنهن كن خائفات".
ومن الواضح أن الأعداد من 9 إلى 20 التي تمثل النهاية الحالية لإنجيل مرقس قد أضيفت لاحقا لتتمشى مع الإضافة التي تمت لإنجيل متّى وما بها من فرية أن يسوع قال: "اذهبوا وكرزوا كل الأمم باسم الآب والابن والروح القدس"، فالثالوث لم يتم تأليفه وفرضه على الأتباع إلا في مجمع القسطنطينية عام 381.. كما أن وجود الإشارة إلى الثالوث تؤكد أن مخطوطة سيناء ترجع إلى ما بعد عام 381 وليس إلى منتصف القرن الرابع.
وهناك ملاحظة أقل أهمية في إنجيل يوحنا، فهو ينتهي في المخطوطة بالإصحاح 21 عدد 24، أي إن مقولة العدد 25 غير موجودة، ومجرد الإطلاع على صياغتها في الأناجيل الحالية يدرك القارئ إلى أي مدى تكون المبالغة هي الأساس في الدعوة إلى هذه العقيدة، ويقول العدد غير الوارد في المخطوطة: "وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة. آمين"!!
كما أن النهاية الأصلية لهذا الإنجيل تكشف أن يوحنا المزعوم ليس كاتب هذا الإنجيل المعروف باسمه، بدليل قول من كتبه: "هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق" (يوحنا 21: 24).
لذلك يقول أندريه بول في موسوعة "أونيفرساليس" الفرنسية في فصل الكتاب المقدس: "إن الكتاب المقدس قد تم تكوينه على مراحل، فهو مجموعة من الكتب المصاغة في فترات مختلفة وتم تجميعها عبر تسعة قرون، بناء على روايات شفهية يتم تعديلها وتصحيحها وفقا للأحداث الجديدة.. وبفضل اكتشافات مخطوطات قمران تبيّن أن الكتاب المقدس ليس مجرد تراكمات عبر الزمان، وإنما هو نتيجة اختيارات انتقائية لبعض النصوص واستبعاد لبعضها الآخر".. ولذلك أيضا يؤكد بارت إرمان (B. Ehrman) عالم اللاهوت وأستاذ تاريخ الأديان بالولايات المتحدة قائلا: "إن الكتاب المقدس الذي بين أيدينا حاليا لا يمكن أن يكون كلام الله".
والمتأمل في الصورة المرفقة -وهي مجرد نموذج واحد لكل صفحة من صفحات مخطوطة سيناء- لا يملك إلا أن يُصدم من جبروت المؤسسة الكنسية، ومن كمّ الظلم والقهر الذي مارسته في مسيرتها على مدى ألفي عام، ولا نقول شيئا عن قتل ملايين وملايين البشر لتفرض عقيدة محرّفة، مزورة بوضوح، نسجتها بالفريات على مر العصور، وها هي مجرد مخطوطة تظهر إلى الوجود لتهدم فريات تلك المؤسسة بمجرد نظرة واحدة!
لذلك لا يسعني إلا أن أقول بلا أي تجريح أو مؤاخذة لكل الذين يساهمون عمدا أو عن جهل في عمليات التنصير الجارية حاليا في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فما من واحد منهم مسؤول عمّا تم في مسيحيته من تحريف وفريات منذ نشأتها وعلى مر العصور: اتقوا الله في الإسلام والمسلمين، فالدين عند الله هو الإسلام، التوحيد الحق، الذي نراه بكل وضوح في سورة الإخلاص، التي كشفت وأدانت بتلك الآيات أهم ما تم في المسيحية من تحريف وشرك بالله: (قل هو الله أحد*الله الصمد*لم يلد ولم يولد*ولم يكن له كفواً أحد).
اتقوا الله، بدلا من إشعال الفتن لفرض عقيدة لم يعد بخفي كيف نُسجت وكيف فُرضت..
5/8/2009tvdm hg;jhf hglr]s!
المفضلات