بقلم الدكتور محمد نزار الدقر
الفطرة في الأصل تعني ما يميل الإنسان إليه بطبعه وذوقه السليم (1).
والإسلام كله يكون بهذا دين الفطرة، وتعاليمه كلها هي سنن الفطرة (2) .
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص فيها مجموعة من السنن والتعاليم سماها " سنن الفطرة " لارتباطها ببدن الإنسان ووظائفه الحياتية.
فمن هذه السنن ما رواه أبو هريرة رضي الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس من الفطرة ـ وفي رواية ـ الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم ونتف الإبط " رواه البخاري ومسلم .
وما روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عشر من الفطرة ، قص الشارب واستنشاق الماء والسواك وإعفاء اللحية ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء وقص الأظافر وغسل البرامج قال الراوي ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة " وانتقاص الماء يعني الاستنجاء رواه مسلم وابن خزيمة في صحيحه . وقال القاضي عياض : لعل العاشرة الختان لأنه مذكور في حديث (الفطرة خمس ) .
وكما ورد في حديث الإسراء والمعراج " عندما خير جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم ، تاركاً الخمر وشارباً اللبن ، فقال جبريل : الحمد لله الذي هداك للفطرة " رواه البخاري ومسلم .
قال ابن الأثير : " الإنسان يولد على نوع من الجبلة والطبع المهيء لقبول الدين، فلو ترك الأمر عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها ، وإنما يعدل من يعدل لآفة من البشر والتقليد " .
وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفة (3) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى : ( وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) .
قال : " أبتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد . في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس . وفي الجسد تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء" .
قال أبو شامة (4) : " الفطرة في الخلقة المبتدئة ، أي أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها . والاستحداد استعمال الموسى في حلق الشعر ، والبراجم مفاصل الأصابع أو العقد التي على ظهرها ، والمراد بها المواضع التي تتجمع فيها الأوساخ من البدن" .
وقد فسر كثير من العلماء " الفطرة " التي ورد ذكرها في الأحاديث النبوية بأنها " السنة " أي الطريقة التي جاء بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقد أمر الله سبحانه نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهم في قوله تعالى : (فبهداهم اقتده ) .
يقول الإمام النووي (5) : " جزم الماوردي وأبو اسحاق بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث : الدين . وقال البيضاوي : الفطرة المرادة هنا هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع وكأنها أمر جبلي فطروا عليه" .
وخصال الفطرة كلها ، التي حث عليها الإسلام بدعوة صريحة من نبي الرحمة وأياً كان تفسير العلماء لكلمة الفطرة ، فإنها تنضوي تحت عنوان " النظافة " والذوق السليم .
وسنتناولها في بحثنا هذا بالتفصيل، مع المنافع الصحية والاجتماعية التي يحصل عليها المسلم عند التزامه بها في حياته الدنيا . وسنفرد لكل من الختان والسواك بحثاً مستقلاً لأهميتهما .
ولقد نبه ابن حجر (5) إلى أنه يتحصل من مجموعة ما ورد من آثار صحيحة في خصال الفطرة أنها خمسة عشر خصلة وهي الختان والسواك والاستحداد (حلق العانة ) وتقليم الأظافر ونتف الإبط وقص الشارب وإعفاء اللحية والانتضاح وغسل البراجم والمضمضة والاستنشاق والاستنثار والاستنجاء وفرق الشعر وغسل الجمعة .
الاستحداد :
يقول الإمام النووي (6) : " الاستحداد هو حلق العانة وسمي استحداداً لاستعمال الحديد (الموسى أو الشفرة ) .
وهو سنة، والمراد به نظافة ذلك الموضع.
والأفضل فيه الحلق ، ويجوز بقص الشعر أو نتفه . والمراد بالعانة الشعر النابت حول الذكر أو الفرج وما يلحق به مثل الشعر حول الدبر . وأما وقت حلقه فالمختار أنه يضبط بالحاجة , وطوله ، فإذا ما طال حلق .
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب " رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك رضي الله عليه وسلم قال : " وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة " رواه مسلم .
إن ناحية العانة وما يحيط بالقبل والدب، منطقة كثيرة التعرق والاحتكاك ببعضها البعض ، وإنه إن لم يحلق شعرها تراكمت عليه مفرزات العرق والدهن، وإذا ما تلوثت بمفرغات البدن من بول وبراز صعب تنظيفها حينئذ، وقد يمتد التلوث إلى ما يجاورها فتزداد وتتوسع مساحة النجاسة ، ومن ثم يؤدي تراكمها إلى تخمرها فتنتن وتصدر عنها روائح كريهة جداً ، وقد تمنع صحة الصلاة إن لم تنظف وتقلع عنها النجاسات .
وحلق شعر العانة أيضاً وقاية من الإصابة بعدد من الأمراض الطفيلية المؤذية كقمل العانة الذي يتعلق بجذور الأشعار ويصعب حينئذ القضاء عليها . كما يخفف الحلق من إمكانية الإصابة بالفطور المغبنية . لذا سن الإسلام حلق العانة والأشعار حول الدبر كلما طالت تأميناً لنظافتها المستمرة ولأنها من أكثر مناطق الجسم تعرضاً للتلوث والمرض (4و7) .
نتف الآباط :
قال النووي (6) : " وأما نتف الإبط فهو سنة بالاتفاق والأفضل فيه النتف لمن قوي عليه ويجوز بالحلق وغيره " .
ويرى العلامة ابن حجر (5) أن الهدي النبوي بنتف شعر الإبط وليس بحلقه لأن النتف يضعف التعرق تحت الآباط .
ويؤكد د. إبراهيم الكيلاني (4) أن النتف يضعف إفراز الغدد العرقية والدهنية .
وإن الاعتياد عليه ( أي بالنتف) منذ بدء نموه ودون أن يحلقه أبداً يضعف الشعر أيضاً ولا يشعر المرء بأي ألم عند نتفه . والمقصود بالنتف أن يكون باليد ويمكن إزالته أيضاً بالرهيمات المزيلة للشعر .
وفي الحقيقة فإن نمو الأشعار تحت الإبطين بعد البلوغ يرافقه نضوج غدد عراقية خاصة تفرز مواد ذات رائحة خاصة إذا تراكمت معها الأوساخ والغبار أزنخت وأصبح لها رائحة كريهة (4) ، وإن نتف هذه الأشعار يخفف إلى حد كبير من هذه الرائحة ، ويخفف من الإصابة بالعديد من الأمراض التي تصيب تلك المنطقة كالمذح والسعفات الفطرية والتهابات الغدد العرقية (عروسة الإبط ) والتهاب الأجربة الشعرية وغيرها ، كما يقي من الإصابة بالحشرات المتطفلة على الأشعار كقمل العانة (7و8).
قص الشارب وإعفاء اللحية :
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" احفوا الشارب وأعفوا اللحى " رواه البخاري .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جزوا الشوارب وأرخوا اللحي ، خالفوا المجوس " رواه البخاري ومسلم .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من الفطرة قص الشارب " رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك رضي الله عليه وسلم قال : " وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قي قص الشارب ... ألآ نترك أكثر من أربعين ليلة " رواه مسلم .
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من لم يأخذ من شارب فليس منا " رواه النسائي وأحمد ، ورواه الترمذي عن المغيرة بن شعبة وقال حديث حسن صحيح .
قال النووي (6) : " وأما قص الشارب فسنة أيضاً . وأما حدّ ما يقصه فالمختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله . وأما روايات احفوا الشوارب فمعناها ما طال على الشفتين ، وإعفاء اللحية توفيرها وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهي الشارع عن ذلك .
إن قص الشارب سنة بالاتفاق ، إنما يرى الشافعية والمالكية التقصير أي قص الزائد عن الشفة العليا، بينما يرى الحنفية استئصال الشارب كله والحنابلة مخيرون بين هؤلاء وهؤلاء (9) .
ومن الناحية الطبية فإن الشوارب إذا ما طالت تلوثت بالطعام والشراب وأصبح منظرها مدعاة للسخرية وقد تكون سبباً في نقل الجراثيم (4_8) .
وعندما يقص المسلم شواربه يبدو بمظهر التواضع والارتياح خلافاً لما يخلفه إطالة الشارب وفتله من مظهر الكبر والجبروت (8).
وسنة الإسلام في قص الشارب تتفق مع ما دعا إليه الطب ، بقص ما زاد عن حدود الشفة العليا فقط وهو ما كان عليه جمع من الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير ، وهو ما ذهب إليه الشافعية ومالك ، وإن عدم إزالة الشارب بقصه فقط تتفق مع الطب الوقائي ، فالشارب خلق للرجل وهو المهيأ للعمل وطوارئ البيئة ووجود الشارب يحمي الرجل من طوارئ البيئة وفي تصفية الهواء الداخل عبر الأنف إلى الرئتين، وهذا بالطبع أنفع وأسلم .
أما اللحية فقد دعا الإسلام إلى إعفائها وعدم حلقها : وقد ذهب المالكية والحنابلة إلى حرمة حلقها وقال الحنفية بكراهية التحريم وأفتى الشافعية بالكراهة (9) .
ومن الناحية الصحية فإن د. عبد الرزاق كيلاني (4) يرى أن عمل الرجل يؤدي إلى كثرة تعرضه لأشعة الشمس والرياح الباردة والحارة والذي يؤثر سلبياً على الألياف المرنة والكلاجين الموجودين في جلد الوجه ويؤدي تخربهما شيئاً فشيئاً إلى ظهور التجاعيد والشيخوخة المبكرة . وقد خلق الله [ المصور ] اللحية في وجه الرجل للتخفيف من تأثير هذه العوامل ، ولم يخلقها للمرأة لأنه سبحانه خلقها للعمل في البيت بعيداً عن تأثير الأشعة الشمسية وتقلبات الرياح .
من هنا نرى النتيجة الرائعة للهدي العظيم في أن وجه الملتحي أكثر نضارة وشباباً من وجه حليق اللحية ، كما أن وجه اللحية ، كما أن وجه المرأة المحجبة أكثر حيوية ونضارة من وجه السافرة مهما تقدمت بها السن .
هذا عدا عما يسببه حلق اللحية اليومي من تهيج للجلد وتخريب لأنسجته ، وعلاوة عما في حلق اللحية من تشبه الرجل بالمرأة وقد " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " كما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في صحيح البخاري .
hgt'vi juvdtih ,hsl owhgih
المفضلات