حقا ان قلوب العباد بين اصبعين من اصابع الرحمن جل وعلا يقلبها كيف يشاء
فبينما كان عمير بن وهب الذي كان اهل مكة يلقبونه بشيطان قريش يجول بفكره وبجسده وبكل ما يملك من اجل ان يحارب النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه رضي الله عنهم وقلبه قد امتلأ حقدا على الاسلام واهله واذا بالحق جل جلاله ياخذ بناصيته الى الاسلام ليكون واحدا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ففي يوم بدر كان عمير واحدا ممن حملاو السيفوف ليقضوا على الاسلام في مهده
ونظرا لخفته وحسن تقديره فان كفار قريش بعثوه وقالوا له :احزر لنا أصحاب محمد ، قال : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم ، فقال : ثلاث مائة رجل ، يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ قال : فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئا ، ولكن قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم ، حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فروا رأيكم .يعني ما رأيكم
وكان كلام عمير يفت في عضدهم الا ان ابا جهل افسد عليهم رايهم واصر على ملاقاة المسلمين
وبدأت ملحمة بدر الكبرى التي اعز الله فيها جنده وهزم المشركين شر هزيمة
وعصفت الهزيمة بقلوب قريش وجلس عمير بن وهب الذي ترك ولده اسيرا في ايدي المسلمين حزينا على ابنه وعلى تلك الهزيمة التي حلت بكفار قريش
وهو الذي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه ويلقون منه العناء وهو بمكة .
فجلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر من قريش بيسير في الحِجْر فَذَكَرَ أصحابَ القليب (اي المشركين الذين قتلوا والقوا في بئر قليب )ومصابهم فقال صفوان : والله ما في العيش بعدهم خير
قال له عمير : صدقت والله ، أما والله لولا دَين عليّ ليس له عندي قضاء ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله فإن لي قبلهم عِلّة أعتلّ بها ، أقول : قدمت من أجل ابني هذا الأسير . فاغتنمها صفوان وقال : عليّ دَينك أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعني شيء ويعجز عنهم ، فقال له عمير : فاكتم شأني وشأنك . قال : افْعَـل . ثم أمر عمير بسيفه فشُحذ له وسُمّ ، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينا عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدّثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم من عدوهم ، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف فقال عمر : هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ! والله ما جاء إلا لِشَرّ ، وهو الذي حرش بيننا ، وحزرنا للقوم يوم بدر ، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشِّحاً سيفه قال : فأدخله عليّ . فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبَه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث فإنه غير مأمون ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال : أرسله يا عمر . ادن يا عمير ، فدنا ثم قال : فما جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه . قال : فما بال السيف في عنقك ؟ قال : قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنّا شيئا ! قال : اصدقني ما الذي جئت له ؟ قال : ما جئت إلا لذلك . قال : بل قعدت وصفوان بن أمية في الحِجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت : لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمّـل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له ، والله حائل بينك وبين ذلك . قال عمير : أشهد أنك رسول الله . قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فو الله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق ثم شهد شهادة الحق .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(فقهوا اخاكم في دينه واقرئوه القرآن واطلقوا له اسيره )ففعلوا (1)
وقف عمير وقفة صادقة مع نفسه يتذكر كيف استطاع ان يحمل سيفه لقتل النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله سببا لخروجه من الظلمات الى النور
وتمر تلك الذكريات المؤلمة وهو يتمنى ان يقدم شيئا لدين الله ليمحو تلك الصفحات السوداء التي امتلات بها صحيفته من عداوته للاسلام واهله
فلقد احس بانه لابد ان يقوم وينفض غبار الغفلة ويحمل امانة هذا الدين ويدعوا الدنيا كلها اليه
ثم قال يا رسول الله إني كنت جاهدا على إطفاء نور الله شديد للأذى لمن كان على دين الله عز وجل وأنا أحب أن تأذن لي ، فأقدم مكة ، فأدعوهم إلى الله تعالى ، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم ؟ قال فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة . وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب يقول أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر وكان صفوان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه فحلف أن لا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع أبدا .
قال ابن إسحاق : فلما قدم عمير مكة ، أقام بها يدعو إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذى شديدا ، فأسلم على يديه ناس كثير .(2)
ولم ينسى عمير صديقه الذي دعاه لقتل النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن امية
فبعد ان لامس الايمان شغاف قلب عمير اراد الخير لصفوان فذهب يدعوه الى الاسلام لتكتمل فرحته باسلامه
ففر صفوان عامدا للبحر واقبل عمير بن وهب إلى رسول الله ، فسأله أمانا لصفوان ، وقال : قد هرب ، وأخشى أن يهلك ، وإنك قد أمنت الأحمر والأسود . قال : أدرك ابن عمك فهو آمن . (3)
فبعث إليه رسول الله ابن عمه بردائه أمانا لصفوان ودعاه إلى الإسلام وأن يقدم فإن رضي أمرا وإلا سيره شهرين فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ناداه على رؤوس الناس يا محمد هذا جاءني بردائك ودعوتني إلى القدوم عليك فإن رضيت وإلا سيرتني شهرين فقال انزل أبا وهب فقال لا والله حتى تبين لي قال لك تسيير أربعة أشهر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن بحنين فأرسل إلى صفوان يستعيره أداة وسلاحا كان عنده فقال طوعا أو كرها قال لا بل طوعا ثم خرج معه كافرا فشهد حنينا والطائف كافرا وامرأته مسلمة فلم يفرق بينهما حتى أسلم واستقرت عنده بذلك النكاح (4)
فاكتملت سعادة عمير بن وهب باسلام صفوان ليكون اخا له في الاسلام كما كان صديقه في الجاهلية
واستمر عمير في تلك المسيرة العطرة يدعو الى الله ولايفتر منه ابدا لانه يعلم ان هؤلاء جميعا سيكونون في ميزان حسناته يوم القيامة .
(1) السيرة لابن هشام
(2) قال السيوطي في الخصائص الكبرى (1/344) اخرجه الطبراني وابو نعيم من طريق ابي عمران الحوفي عن انس موصولا بسند صحيح
(3) تهذيب ابن عساكر (6/432 ) نقلا من السير (2/565ـ566)
(4) اخرجه مالك (2/75ـ76) في النكاح :باب نكاح المشرك اذا اسلمت زوجته قبله وهو من بلاغات مالك التي لايعلم اتصاله من وجه صحيح قال ابن عبد البر :وهو حديث مشهور معلوم عند اهل السير وابن شهاب امام اهل السير وكذلك الشعبي .ad'hk rvda dwfp ]hudm hgn hggi juhgn
المفضلات