بين قيصر والمسيح... أزمة طلاق الأقباط في مصر
تاريخ النشر : 13 June 2010 - 11:50am | تقرير: إذاعة هولندا العالمية
محمد عبد الرؤوف - إذاعة هولندا العالمية - " زواج قبطي" عبارة لا يزال يرددها البعض في مصر في إشارة إلى أي علاقة يصعب وضع نهاية لها خاصة في مجال العلاقات الزوجية. وتعكس العبارة الصورة التي تراها الكنيسة القبطية المصرية للزواج. فطالما ارتبط رجل وامرأة بعقد الزواج المقدس فلا يمكن وضع نهاية لتلك العلاقة إلا بوفاة احد الزوجين أو لعلة الزنا، لكن هذا الموقف الذي يعتمد على التفسير الحرفي للإنجيل يواجه أزمة قانونية. حيث أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكما أثار غضب الكنيسة يلزمها بتزويج رعاياها الذي حصلوا على أحكام طلاق. لكن كيف حصل هؤلاء الأقباط على أحكام الطلاق؟ ولماذا تعارض الكنيسة الحكم؟ قد تقدم الإجابة على تلك الأسئلة وسيلة للتعرف على الظروف الاجتماعية والسياسية التي يمر بها مسيحيو مصر من الأقباط الأرثوذكس الذين وأن كانوا يشكلون ما يقرب من 10% من إجمالي عدد سكان مصر فإنهم يمثلون الجماعة المسيحية الأكبر عددا في العالم العربي.
" لا طلاق إلا لعلة الزنا"
" كل من يطلق امرأته و يتزوج بأخرى يزني و كل من يتزوج بمطلقة من رجل يزني" تمثل تلك الأية المنقولة من أنجيل متى أساس موقف الكنيسة المصرية الأرثوذكسية المتعلق بالطلاق. فـ"لا طلاق إلا لعلة الزنا" هي العبارة التي كثيرا ما تتردد على لسان البابا شنودة رأس الكنيسة المصرية عند تناوله لموقف الكنيسة من الطلاق. لكن ذلك الموقف لك يكن هو الرأي الوحيد للكنيسة المصرية. فمع دخول الإسلام مصر في القرن السابع الميلادي ترك أغلب ولاة مصر وحكامها جميع الأحكام الخاصة بمسيحي مصر في يد الكنيسة القبطية بحيث أمست الكنيسة هي الحاكم الوحيد في أمور شعبها. لكن رياح الحداثة والتغريب على البلاد في القرنين التاسع عشر والعشرين سيكون لها مردود على مسيحيي مصر مثلما أثرت على مسلميها. فكما خرج من رحم الليبرالية المصرية شخصيات مثل على عبد الرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم الذي دعا فيه إلى علمانية الدولة وطه حسين صاحب المذهب النقدي العقلاني فإنها أنجبت سلامة موسى الذي مزج بين عقيدته المسيحية والاشتراكية ومذهب التطور.
وقد ظهر هذا التأثر الليبرالي واضحا في القوانين التي تم تشريعها في البلاد في تلك الفترة مثل دستور 1923 ذو الصبغة الليبرالية ولائحة عام 1938 التي وضعها المجلس الملي المشكل من شخصيات قبطية علمانية— بمعني أنهم ليسوا من الكهنة ورجال الدين وأوردت اللائحة التي تحكم الأحوال الشخصية لأقباط مصر 9 أسباب تجعل الطلاق مباحا من بينها النفور الشديد بين الزوجين وغياب أحد الزوجين. وقد أقرت الحكومة المصرية اللائحة وشرعت في عام 1955 قانونا يجعل أحكام الطلاق من اختصاص محكمات مدنية لا من اختصاص الكنيسة، وهكذا كان على أي قبطي أو قبطية يرغب في الطلاق أن يقصد المحكمة المدنية للحصول على حكم بالطلاق ثم كان عليه أن يعود للكنيسة للحصول على تصريح زواج للمرة الثانية وهو ما كان يحدث في أغلب الحالات. بمعني أن الطلاق كان من اختصاص المحاكم المدنية أما الزواج فهو أحد اسرار الكنيسة. لكن الأمور تغيرت في عام 1971 مع تولي البابا شنودة منصب رأس الكنيسة القبطية. حيث شدد البابا شنودة على تمسكه بالتفسير الحرفي للإنجيل بحيث أمست الكنيسة لا تعترف بالطلاق إلا في حالة الزنا. وأمست أحكام الطلاق التي أصدرتها المحاكم المدنية المصرية لغير علة الزنا عير معترف بها من قبل الكنيسة بحيث أن من يحصل عليها لا يحصل على تصريح بالزواج الثاني من قبل الكنيسة. وقد زاد الأمور تعقيدا أن الزواج المدني غير مسموح به لمسيحي مصر من أتباع المذهب الأرثوذكسي. فالكنيسة هي الوحيدة صاحبة الحق في تسجيل زواج شعبها. وهكذا صار على الذين لم يوفقوا في زواجهم الأول أن يرضوا بوضعهم الحالي وأن يعتزلوا الزواج. أما من يرغبون في أن يختبروا حظوظهم مرة أخرى فكان عليهم أن يلجأوا إلى الأبواب الخلفية مثل السفر إلى الخارج لإجراء مراسم زواج مدني أو تغيير العقيدة بحيث يتحول الشخص الراغب في الانفصال والزواج مرة أخرى إلى عقيدة أخرى مثل الإسلام أو مذهب أخر مثل المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي وهو ما يثير الحساسية عند الكثير من الأقباط المصريين نظرا للارتباط الشديد بكنيستهم.
هنري الثامن
لكن ذلك الارتباط الشديد لم يمنع البعض من اللجوء إلى ساحات القضاء لاختصام الكنيسة وإجبارها على منحهم تصاريح بالزواج الثاني. وجاء حكم المحكمة الإدارية في بتأييد حق المسيحيين الحاصلين على أحكام طلاق بالزواج مرة ثانية. وهكذا أمست الكنيسة أمام اختبار صعب بين الحفاظ على تمسكها بالتفسير الحرفي للإنجيل وبين الإقدام على مواجهة الدولة المصرية. وصار على القبطي المصري أن يختار بين قيصر الممثل في الدولة والمسيح ممثلا في الكنيسة.
لكن الأمر ليس مجرد خلاف قانوني أو عقائدي. فحكم المحكمة الإدارية وما صاحبه من نقاش وجدل يعكس ليس فقط ما يمر به مسيحيو مصر بل ومسلميها أيضا. فالطلاق ظل لفترة ليست بالقصيرة من المحرمات في مصر سواء على مسلميها أو مسيحييها. فالمرأة المطلقة كانت تمثل ما هو أشبه بالإهانة لأهلها، فالطلاق لم يكن خيارا متاحا وفقا للعرف والتقاليد التي أحيانا تكون أقوى من العقيدة. لكن الوضع تغير الآن. فمع الانتصارات التي حققتها المرأة المصرية في القرن الماضي أصبحت الفتاة المصرية قادرة على مواصله تعليمها ومنافسة الرجل في ميادين العمل. وأصبح بإمكان المرأة أن تواصل حياتها بمعزل عن الرجل سواء كان الأب أو الزوج أو الأخ. وصاحب هذا تغير في الأوضاع الاجتماعية بحيث لم يعد الطلاق بمثابة حكما بالإعدام على المرأة. ونتيجة لهذا فقد تزايد عدد حالات الطلاق تزايدا رهيبا بحيث شهد عام 2008 وحده 84 ألف حالة طلاق بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وحيث أن الفشل في العلاقات الزوجية لا يعرف تمييز بين مسيحيين ومسلمين فقد كان من الطبيعي أن ترتفع الأصوات المسيحية المطالبة بالطلاق بحيث وصل عدد حالات الطلاق المنظورة أمام المحاكم إلى ما يقرب من 100 ألف حالة بحسب الصحفية المصرية كريمة كمال في كتابها طلاق الأقباط. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الأزمة بين ما هو ما وارد في الإنجيل والرغبة في الطلاق لم تكن مصرية فقط بل لها سوابق تاريخية وعالمية لعل أشهرها انفصال كنيسة انجلترا عن بابا الفاتيكان لرفض الأخير منح الملك هنري الثامن تصريح بالطلاق من زوجته التي لم توفق في أنجاب وريث لملك بريطانيا.
دولة مدنية؟
لكن الأمر لا يتوقف عند الطلاق كظاهرة اجتماعية بل أنه يتقاطع مع الأوضاع الثقافية والسياسية. فهناك من المتعاطفين مع حكم المحكمة من يرونه انتصارا للدولة المدنية ضد هيمنة المؤسسات الدينية إسلامية كانت أم مسيحية. لكن هذا الرأي يتجاهل أن الدولة المصرية أبعد ما تكون عن الدولة المدنية. فالدستور المصري ينص على أن الإسلام هو دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسى للتشريعة. كما أن الدولة تشرف وتقوم بتمويل مؤسسات دينية مثل الأزهر. ولا ينسى الكثير من الأقباط موقف الرئيس "المؤمن" انور السادات الذي دفع البلاد إلى معسكر التدين. هذا على المستوى الرسمي أما على المستوى الشعبي فإن الهوية الدينية أمست هي المهيمنة على المجتمع. وقد صاحب هذه الهيمنة الدينية احتقان للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المحكمة الإدارية التي أصدرت الحكم تتبع ما يعرف بمجلس الدولة الذي رفضت أغلبية القضاء العاملين فيه تولى المرأة منصب القضاء استنادا إلى رؤية محافظة للإسلام تحرم اشتغال المرأة بالقضاء.
من جهة أخرى فإن المعارضين للحكم يؤيدون موقف الكنيسة ويشددون على استقلاليتها، لكنهم يتجاهلون أن رفض الحكم والتمسك بالتفسير الحرفي للإنجيل سيقوض من جهود تيار أنصار الليبرالية والدولة المدنية والذين يدعون ليل نهار إلى تبني تفسير معتدل غير حرفي للشريعة الإسلامية يقبل الأقباط كشركاء في الوطن على أساس المواطنة والدولة المدنية.
لكن يبدو ان كلا من الكنيسة القبطية والدولة المصرية لا ترغبان في خوض المواجهة ويمكن أن يتجسد هذا في حكم قضائي جديد أو قرار من قبل الرئيس حسني مبارك يحمل أخبارا سارة للطرفين. لكن هذا لن يمثل نهاية لأزمة طلاق الأقباط بل سيكون حلا مؤقتا ستعود بعده القضية إلى الساحة القضائية والإعلامية مرة أخرى.
http://www.rnw.nl/arabic/article/116659fdk rdwv ,hglsdp>>> H.lm 'ghr hgHrfh' td lwv - frglL lpl] uf] hgvc,t
المفضلات