كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فقد أيد الله رسله لا سيما خاتمهم -صلى الله عليه وسلم- بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة، التي لا يمكن لكل من أوتي مسكة من عقل أن يردها أو يكذب بها، ومع هذا توجد فئام كثيرة من البشر يكفرون برسل الله، وهذا يرجع إلى أمور، منها: الإعراض عن التدبر في هذه الأدلة وتلك البراهين، وهذا ما تحاول شياطين الإنس والجن دائماً أن توصل البشر إليه، ومن نجا من تلك العقبة فنظر وتدبر فإن الشياطين تلقي إليه بالشبهات؛ ليصل إلى التكذيب، أو على الأقل الشك والتردد، وهذا بدوره نادر؛ حيث يجد كثير من الخلق في أنفسهم ضرورة التصديق بخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعلى ذلك فكثير من الخلق ينجون من هذه الأنواع من الكفر. "
لو أن كل باب غلا فيه البعض أغلق لما بقي لنا من شرائع الإسلام شيء
"
إلا أن كثيراً منهم يقع في العقبة التي تلي ذلك، فيكون ممن قال الله فيهم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)(النمل:14)، أو يكون ممن قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)(البقرة:165)، فيعادون الحق رغم قناعتهم التامة بصدقه، وهؤلاء إذ فقدوا الإيمان إلا أنهم ليسوا دائماً يملكون القدرة على كتم ما يعتمل في قلوبهم من معرفة الحق؛ لاعتبارات متعددة، فهؤلاء صناديد قريش، وهم أرباب البلاغة وأساطينها، تملـَّكْتـُهم بلاغةُ القرآن، فكان كل واحد منهم يخرج متسترا لكي يتسمع رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فيجمعهم الله على غير موعد، فيتواعدون على ألا يعودوا، ومع ذلك يعودون حتى تكرر ذلك منهم ثلاث ليال.
وهذا أعلمهم بأشعار الجن والإنس، والعجم والعرب، أرسلوه ليستكشف لهم المصدر الخفي الذي يستقى منه محمد -صلى الله عليه وسلم- ذلك القرآن، فخجل من أن يكذب كذبة تطعن في خبرته، فقال قولته المشهورة: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وما هذا بقول البشر"، ومع هذا بقي على كفره وعناده!
وأما اليهود الذين كانوا أهل تشريع وأحكام فلم يستطيعوا أن يواروا حسدهم وحقدهم وانبهارهم بهذا التشريع الشامل الكامل، فأتوا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قائلين: (آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وما هي؟ قالوا: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، قال عمر: والله إني لأعلم في أي يوم نزلت، وفي أي ساعة نزلت. نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية يوم عرفة عام حجة الوداع)متفق عليه.
وجاءوا أيضاً إلى سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قائلين: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة) رواه مسلم"
قال أحدهم: ""أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل؛ لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا"
".
ومن كفار هذا الزمان من صرح بأشياء كثيرة من ذلك، فمنهم من جزم بأن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي محفوظاً كما كان يقرأه محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من قال: "إن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ليس فيه شيء يناقض حقائق العلم الحديث بخلاف التوراة والإنجيل التي بين أيدي اليهود والنصارى اليوم".
ومنهم من بلغ به حبه للدنيا وانبهاره بعظمة التشريع الإسلامي فيها أن يطالب رغم بقاءه على كفره بتطبيق التشريع الإسلامي في كثير من جوانب الحياة!
وقدر الله -تعالى- أن يجتمع من هذه التصريحات الشيء الكثير في الآونة الأخيرة، فمن ذلك الخبر الذي نشرته جريدة المصريون الالكترونية في عددها الصادر 1/11/2008 عن منظمة أمريكية مدعومة بدعم حكومي تعطي جائزة لكل خطيبين لا يوجد بينهما علاقة قبل الزواج، ونقلت الجريدة عن مديرة المنظمة قولها: "إن الجائزة تهدف إلى تشجيع الشباب الأمريكي على عدم إقامة علاقات غير شرعية قبل الزواج بعد أن أصبح نادراً العثور على شباب يحترم العفة قبل الزواج".
وذكرت أن المنظمة اشترطت على المتقدمين لنيل الجائزة عدم تقديم المشروبات الكحولية في حفل الزفاف، على أساس أن الخمور من أكثر العوامل التي تساعد على انتشار الرذيلة بين الشباب.
وهذا خبر لا يحتمل أي تعليق.
كما نشرت الصحفية ذاتها قبل ذلك بيومين خبراً عن رأس من رؤوس الكفر لم يجد مثالاً يحتذي به في اختيار خليفته سوى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، الذي لم يختر خليفة ولكنه أحال الأمر إلى شورى خاصة وليست عامة.
وأما أكثر هذه التصريحات وضوحاً وأعظمها انتشاراً، تلك التصريحات التي أطلقها بعض الاقتصاديون الغربيون، وتناقلتها وكالات الأنباء على نطاق واسع، من ضرورة تطبيق تشريعات القرآن للخروج من الأزمات الاقتصادية، التي يسببها النظام الرأسمالي القائم على الربا والميسر والغرر، منها ما كتبه "بوفيس فانسون" رئيس تحرير مجلة"تشالينجز"، والذي كتب في افتتاحيتها موضوعاً بعنوان:"البابا أو القرآن".
تساءل فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور المسيحية كديانةوالكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيراً إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلىالهاوية.
وتساءل الكاتب بأسلوب يقترب من التهكم من موقفالكنيسة، ومستسمحاً البابا "بنديكيت السادس عشر" قائلاً:
"أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلاً من الإنجيل؛ لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد فيالقرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بناالحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود."
وفي الإطار ذاته لكن بوضوح وجرأة أكثر، طالبَ "رولان لاسكين" رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دفينانس" في افتتاحية هذاالأسبوعبضرورة تطبيق الشريعةالإسلامية في المجال المالي والاقتصادي؛ لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالممن جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غيرالمشروعة.
وعرض لاسكين في مقاله الذي جاء بعنوان: "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئالشريعة الإسلامية؟"، المخاطر التي تحدق بالرأسمالية، وضرورةالإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدم سلسلة من المقترحات المثيرةفي مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعةالإسلاميةبرغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتهاالدينية.
نقلا عن مقال: "كتاب غربيون: الشريعة تنقذ اقتصاد العالم" موقع إسلام أون لاين.
ومن هذه النقول يتضح لك أن كثيراً من الكفار حرصاً على دنياهم وإذعاناً بعظمة التشريع الإسلامي ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية فيهم مع أنهم غير مسلمين
وإذا كان هؤلاء لم يجدوا لهم دافعاً للدعوة إلى تطبيق شريعة الإسلام سوى ما أدركته عقولهم بما فيها من مصالح، وما لمسوه بأنفسهم بما في مخالفتها من مفاسد، فإن الأمر بالنسبة للمسلمين كان ينبغي أن يكون أظهر وأوضح.
فالمسلمون الذين يقرؤون قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)(طـه:124)، ليسوا في حاجة إلى تجارب ليعلموا شؤم المعصية، وهم يعلمون أن كل المعاصي حتى تلك التي لا ترتبط بالنشاط الاقتصادي من قريب ولا من بعيد سبب لضيق الرزق، فضلاً عن الآثار المباشرة لكل ذنب من الذنوب، والتي أدركها حتى الكفار من الآثار المدمرة للزنا والخمر والربا وغيرها. "
فالمسلمون الذين يقرؤون (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ليسوا في حاجة إلى تجارب ليعلموا شؤم المعصية
وقبل هذا كله يوجد الإيمان الذي يلزم أصحابه بالتحاكم إلى شرع الله
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
لكن يوجد بعض من هم من جلدتنا -نحن المسلمين- ممن لا يكاد يطيق سماع كلمة تطبيق الشريعة، لا سيما إذا ذكرت في مقابل إفلاس المناهج الغربية التي يعملون وكلاء للترويج لها في بلاد المسلمين، وكلما سمعوا من يعلق هذا الضيق والكرب على المعاصي أخذوا ينعون عليه أنه من أصحاب الفكر الغيبي الظلامي.. إلى آخر تلك الألفاظ التي اعتدنا سماعها من أفراخ الغرب أكثر من سماعها من الغربيين أنفسهم
وأعجب من هؤلاء أقوام يزعمون أنهم من جلدة "الإسلاميين"، ولكن أصابتهم فوبيا "تحكيم الشريعة" التي كانت حتى وقت مضى قاصرة على الكفار وعلى العلمانيين، فإذا بها تصيب بعض المنتسبين إلى الدعوة زاعمين محاولة تصحيح "غلو" البعض في قضية الحاكمية، فلم يجدوا لهم من دواء إلا النهى التام عن الكلام في قضية "تحكيم الشريعة
وهي قضية أعم من أن تكون قضية موجهة إلى الحكام، ولكنها قضية موجهة إلى كل مسلم حاكماً كان أو محكوماً، وهي قضية من مقتضيات توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فَرَامَ هؤلاء من باب إغلاق باب الغلو أن يغلقوا هذا الباب جملة وتفصيلاً، ولو أن كل باب غلا فيه البعض أغلق لما بقي لنا من شرائع الإسلام شيء.
وليت الأمر انتهى عند هذا الحد، بل بلغ الحال ببعضهم إلى الزعم بأن كل من لم يوافقهم على "آرائهم" فهو موافق على غلو الغلاة، بل هو منهم، بل هو كبيرهم، بل هو رأس من رؤوس الخوارج.
ومن المضحكات المبكيات أن أحدهم قد نسي نفسه في غمرة "أم المعارك" التي يخوضها ضد من أسماهم برؤوس الخوارج، فوجه كلمة عصماء "استنكر" فيها سكوت "ولاة الأمر" -وسماهم بأسمائهم- عن قتل رؤوس الخوارج من أمثال فلان وفلان
ولا أدري لماذا لم يعد هذا النقد العلني لـ"ولاة الأمر" خروجاً؟ أم أن هذا نوع من الخروج يمكن تسميته بـ"خروج الحبيب" قياساً على "ضرب الحبيب" في المثل الشعبي الدارج؟
وما زالت هذه الفكرة تطِنُّ على رأس بعضهم، حتى صارت هذه القضية هي شغله الشاغل، فلم يعد هناك تدارس لكتاب ولا لسنة ولا لهدي سلف، ولا تصدي لانحراف داخلي -"أينهى غيره عن الخروج ثم يكون خارجيا؟"-، ولا انحراف خارجي -"خشية أن يكون داخلياً دون أن يدري، أو أن يتحول يوماً إلى انحراف داخلي ولا ينتبه في غمار انشغاله بالحرب المقدسة على الخوارج"-!!
لقد هممت أن أشبه هؤلاء بالدب الذي أراد أن يهش الذباب عن وجه صاحبه فقتله، ولكني وجدت أن في ذلك ظلم للدب؛ لأن هؤلاء وإن ذهبت بعض أحجارهم الطائشة إلى من كان عنده خلل فقتلوه بدلاً من علاجه إلا أن جُلَّ أحجارهم أصابت من لم يكن به بأس البتة.
قضية تحكيم الشريعة أعم من أن تكون قضية موجهة إلى الحكام، ولكنها قضية موجهة إلى كل مسلم
نعم لقد شَغَلَ هؤلاء من ابتـُلي بالسماع لهم بقضية وحيدة، وهي محاربة كل من يدعو إلى تحكيم شرع الله وإن لم يكفر معيناً أو يخرج حتى من مسجده، فضلاً عن أن يخرج على حكام زمانه، وانشغلوا بذلك عن سائر القضايا، ومنها مواجهة الخوارج الأصليين الذين يكفرون المسلمين كلهم أو جمهورهم على الأقل، فإنا لا نكاد نرى لهم جهداً في مواجهة هؤلاء
والآن ومع تصاعد موجة المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية بين "كفار أوروبا"، وعلى الرغم من أن الكفر سوف يكون واقياً لهم من أن ينسبوا عند القوم إلى "الخوارج"، إلا أن الخوف في أن يـُسلم بعض هؤلاء بسبب ما يراه من حسن الشرع وكماله لا سيما مع استمرار كثير من الدعاة السلفيين -بحمد الله تبارك وتعالى- في مشارق الدنيا ومغاربها في بيان حسن الشرع وتمامه، ووجوب تطبيقه، وما يعود على الناس من نفع من جراء ذلك في الدنيا والآخرة، رغم ما يتناثر عليهم من أحجار هؤلاء الناصحين
والسؤال المضحك المبكي هو الآخر لإخواننا أصحاب الحساسية من الحاكمية: "ماذا ستفعلون في جموع الداخلين الجدد في الإسلام في أوربا وأمريكا والذين سيأتونكم "خوارج جاهزين" -على حد زعمكم-، ولن يكونوا حينئذ في حاجة إلى كتاباتنا ولا كتابات غيرنا
بالطبع هذه ليست دعوة لهم لكي يحولوا هجومهم إلى أصحاب هذه الدعوات في أوربا؛ لأنه إن كان ولا بد لهم من دعوة فلتكن بين أظهرنا، نحن أولى باحتمالها من باب: "إذا بليتم فاستتروا".[/
نسأل الله أن يردنا جميعا إلى رشدنا، وأن يلهمنا صوابنا، ونسأله -تبارك وتعالى- الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، اللهم آمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
www.salafvoice.comt,fdh "jp;dl hgavu" jogw lkih hg;thv tljn djogw lkih hglsgl,k???
المفضلات