قصة فتاة
د.محمد بن عبدالرحمن العريفي
الحمد لله يختص من يشاء برحمته .. ويوفق أحبابه لأسباب عنايته ..
ومتابع الإحسان إلى العباد بفضله ومنته ..
ومصرف الأحكام في العبيد .. فمن شقي وسعيد .. ومقرب وطريد .. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ..
وصلوات الله وسلامه على سيد أنبيائه .. وأول أوليائه ..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..
محدثُ الأكوان والأعيان .. ومبدعُ الأركان والأزمان ..
ومنشئُ الألباب والأبدان .. ومنتخبُ الأحباب والخلان ..
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى … حمدا إذا قابل النعم وفى ..
وسلاما إذا بلغ خاتم النبيين شفى .. وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى .. أما بعد :
الحمد لله ..
فهذه جلسة مع الصالحات .. القانتات التقيات ..
اللاتي سمع الليل بكاءهن في الأسحار .. ورأى النهار صومهن والأذكار ..
هذه كلمات عابرات ..أبعثها مع كل نبضة أمل ..في عصر تكاثرت فيه الفتن
إلى الفتاة المسلمة .. الراكعة الساجدة..
أبعثها إلى جوهرة المجتمع .. وأمل الأمة ..
إنها جلسة مع المؤمنات ..اللاتي لم تهتك إحداهن عرضها ..ولم تدنس شرفها
وإنما صلت خمسها ..وأدامت سترها ..لتدخل جنة ربها ..
إنها قصة فتاة بل فتيات .. قانتات صالحات ..
ليست قصة عشق فاتنة .. ولا رواية ماجنة ..
نعم .. قصة أحكيها .. لك أنت أيتها الأخت العفيفة .. العزيزة الشريفة ..
فأنتِ أعز ما لدينا.. أنت الأم والأخت .. والزوجة والبنت ..
أنت نصف المجتمع .. وأنت التي تلدين النصف الآخر..
نعم تلدين الخطيب البارع .. والإمام النافع .. وتربين المجاهد المؤيد .. والقائد المسدد ..
فلك مني قصص وكلمات .. وأحاديث وهمسات .. لعلها تبلغ حبةَ قلبك؟.. وتصل إلى شغاف نفسك ؟..
فالنساء شقائق الرجال ..فكما أن في الرجال عالم جليل .. وداعية نبيل .. ففي النساء كذلك ..
وكما أن في الرجال صوامون في النهار .. بكاؤون في الأسحار ..
ففي النساء كذلك ..
وكم من امرأة سابقت الرجال .. في صالح الأقوال والأعمال .. فسبقتهم ..
في عبادتها لربها ..ونصرتها لدينها .. وإنفاقها وعلمها ..
بل إنك إذا قلبت صفحات التاريخ .. رأيت أن أعظم الفضائل إنما سبقت إليها النساء ..
فأول من سكن الحرم .. وشرب من ماء زمزم .. وسعى بين الصفا والمروة .. هي امرأة .. هاجرُ أم إسماعيل ..
وأول من دخل في الإسلام .. وناصر النبي عليه السلام .. هي امرأة .. خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ..
وأول من عُذب في مولاه .. حتى قتل في سبيل الله .. هي امرأة .. سميةُ أم عمار بن ياسر ..
فعند البخاري ..
أن إبراهيم عليه السلام .. انطلق من الشام .. إلى البلد الحرام ..
معه زوجه هاجر وولدها إسماعيل وهو طفل صغير في مهده .. وهي ترضعه .. حتى وضعهما عند مكان البيت .. وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء .. فوضعها هنالك .. ووضع عندهما جراباً فيه تمر .. وسقاء فيه ماء ..
ثم قفى عليه السلام منطلقاً إلى الشام ..
فتلفتت أم إسماعيل حولها .. في هذه الصحراء الموحشة .. فإذا جبالٌ صماء وصخوراً سوداء .. وما رأت حولها من أنيس ولا جليس ..
وهي التي نشأت في قصور مصر .. ثم سكنت في الشام في مروجها الخضراء .. وحدائقها الغناء .. فاستوحشت مما حولها ..
فقامت .. وتبعت زوجها .. فقالت : يا إبراهيم . . أين تذهب .. وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء ؟
فما رد عليها .. ولا التفت إليها .. فأعادت عليه .. أين تذهب وتتركنا .. فما ردَّ عليها ..
فأعادت عليه .. وما أجابها .. فلما رأت أنه لا يلتفت إليها ..
قالت له : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم .. قالت : حسبي .. قد رضيت بالله .. إذن لا يضيعنا .. ثم رجعت ..
فانطلق إبراهيم الشيخ الكبير .. وقد فارق زوجه وولده .. وتركهما وحيدين ..
حتى إذا كان عند ثنية جبل .. حيث لا يرونه .. استقبل بوجهه جهة البيت .. ثم رفع يديه إلى الله داعياً .. مبتهلاً راجياً ..
فقال : " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " ..
ثم ذهب إبراهيم إلى الشام ..
ورجعت أم إسماعيل إلى ولدها .. فجعلت ترضعه وتشرب من ذلك الماء ..
فلم تلبث أن نفد ما في السقاء .. فعطشت .. وعطش ابنها .. وجعل من شدة العطش يتلوى .. ويتلمظ بشفتيه .. ويضرب الأرض بيديه وقدميه ..
وأمه تنظر إليه يتلوى ويتلبط .. كأنه يصارع الموت ..
فتلفتت حولها .. هل من معين أو مغيث .. فلم ترَ أحداً ..
فقامت من عنده ..
وانطلقت كراهية أن تنظر إليه يموت ..
فاحتارت.. أين تذهب !!
فرأت جبل الصفا أقرب جبل إليها .. فصعدت عليه .. وهي المجهدة الضعيفة .. لعلها ترى أعراباً نازلين .. أو قافلة مارة ..
فلما وصلت إلى أعلاه .. استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً .. فلم تر أحداً .. فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها .. ثم سعت سعى الإنسان المجهود .. حتى جاوزت الوادي ..
ثم أتت جبل المروة فقامت عليها .. ونظرت .. هل ترى أحداً .. فلم تر أحداً .. فعادت إلى الصفا .. فلم تر أحداً .. ففعلت ذلك سبع مرات .
فلما أشرفت على المروة في المرة السابعة .. سمعت صوتاً فقالت :
صه .. ثم تسمعت ..
فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فأغثني .. فلم تسمع جواباً ..
فالتفتت إلى ولدها ..
فإذا هي بالملك عند موضع زمزم .. فضرب الأرض بعقبه أو بجناحه حتى تفجر الماء ..
فنزلت إلى الماء سريعاً .. وجعلت تحوضه بيدها وتجمعه ..
وتغرف بيدها من الماء في سقائها .. وهو يفور بعد ما تغرف .. فقال لها جبريل : لا تخافوا الضيعة .. إن ههنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ..
فلله درها ما أصبرها .. وأعجب حالها .. وأعظم بلاءها ..
هذا خبر هاجر .. التي صبرت .. وبذلت .. حتى سطر الله في القرآن ذكرها.. وجعل من الأنبياء ولدها .. فهي أم الأنبياء .. وقدوة الأولياء ..
هذا حالها .. وعاقبة أمرها ..
نعم .. تغربت وخافت .. وعطشت وجاعت ..
لكنها راضية بذلك مادام أن في ذلك رضا ربها ..
عاشت غريبة في سبيل الله .. حتى أعقبها الله فرحاً وبشراً ..
فهل تصبرين أنت اليوم مثل غربتها .. فتقومين الليل والناس نيام ..
وتصومين النهار .. وهم في شراب وطعام ..
بل تفخرين بعباءتك وحجابك .. يوم تنازل عنها من تنازل ..
وتهجرين الأفلام والمسرحيات .. والفواحش والأغنيات ..
في سبيل رضا رب الأرض والسموات ..
فهذا الصبر من أعظم الجهاد .. وأنت عليه في الدنيا عزيزة مأجورة ..
وفي الآخرة كريمة مشكورة ..
بل طوبى لك إن فعلت ذلك .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ..(
نعم .. طوبى للغرباء ..
فمن هم الغرباء .. إنهم قوم صالحون .. بين قوم سوء كثير ..
إنهم رجال ونساء .. صدقوا ما عاهدوا الله عليه ..
يقبضون على الجمر .. ويمشون على الصخر ..
ويبيتون على الرماد .. ويهربون من الفساد ..
صادقة ألسنتهم .. عفيفة فروجهم .. محفوظة أبصارهم ..
كلماتهم عفيفة .. وجلساتهم شريفة ..
فإذا وقفوا بين يدي الله .. وشهدت الأيدي الأرجل .. وتكلمت الآذان والأعين .. فرحوا واستبشروا ..
فلم تشهد عليهم عين بنظر إلى محرمات .. ولا أذن بسماع أغنيات ..
بل شهدت لهم بالبكاء في الأسحار .. والعفة في النهار ..
أما غيرهم فتحيط بهم الفضائح .. وتهلكهم القبائح ..
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } ..
أما خبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ..
فعند البخاري :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه بالنبوة .. كان يذهب إلى غار حراء .. بجانب المدينة .. فيتعبد فيه ..
فبينما هو صلى الله عليه وسلم في هدوء الغار يوماً .. إذ جاءه جبريل فجأة .. فقال : اقرأ ..
ففزع النبي صلى الله عليه وسلم منه .. وقال : ما قرأت كتاباً قط .. ولا أحسنه .. وما أكتب .. وما أقرأ ..
فأخذه جبريل فضمه إليه .. حتى بلغ منه الجهد .. ثم تركه .. فقال : اقرأ ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ ..
فأخذه فضمه إليه الثانية.. حتى بلغ منه الجهد .. ثم تركه .. فقال : اقرأ ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ .. فأخذه جبريل فضمه إليه الثانية.. حتى بلغ منه الجهد .. ثم تركه ..
فقال : " اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم " ..
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات .. ورأى هذا المنظر .. اشتد فزعه .. ورجف فؤاده .. ثم رجع إلى المدينة ..
فدخل على خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها . فقال : زملوني .. زملزني .. أي غطوني بالفرش .. ثم اضطجع .. وغطوه ..
وأم المؤمنين .. تنظر إليه لا تدري ما الذي أفزعه ..
فلبث صلى الله عليه وسلم ملياً حتى سكن روعه ..
ثم التفت إلى خديجة فأخبرها الخبر .. وقال لها : يا خديجة .. لقد خشيت على نفسي ..
فقالت خديجة : كلا .. والله لا يخزيك الله أبداً .. إنك لتصل الرحم .. وتقري الضيف .. وتحمل الكل .. وتكسب المعدوم .. وتعين على نوائب الحق ..
ثم لم ينقطع خيرها .. ولم يقف حماسها ..
وإنما أخذت بيده صلى الله عليه وسلم .. فانطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عمها .. وكان شيخاً كبيراً أعمى .. وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية .. وكان يقرأ الإنجيل .. ويكتبه .. ويعرف أخبار الأنبياء ..
فلما دخلت عليه خديجة جلست إليه ومعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقالت له : يا ابن عم ! اسمع من ابن أخيك ..
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى .. وما سمع من القرآن ..
فقال ورقة : سبوح .. سبوح .. أبشر ثم أبشر .. هذا الناموس الذي أنزل على موسى ..
ثم قال ورقة : يا ليتني فيها جذعاً .. حين يخرجك قومك .. أي شاباً قوياً لأخرج معك وأنصرك ؟
ففزع صلى الله عليه وسلم وقال : أومخرجيَّ هم ؟!
فقال : نعم ! إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي .. وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً .. أي أنصرك نصراً عزيزاً أبداً ..
ثم خرج صلى الله عليه وسلم مع زوجه خديجة .. وقد أيقنت خديجة أن عهد النوم قد تولى .. وأنها مع زوج سيبتلى .. وقد تخرج من بيتها .. وتؤذى في نفسها .. وهي المرأة التي نشأت غنية منعمة .. حسيبة مكرمة .. وهاهي تستقبل البلاء ..
فهل تخاذلت عن نصرة الدين .. أو خلطت الشك باليقين .. كلا .. بل آمنت بربها .. ونصرت نبيها.. بمالها .. ورأيها .. وجهدها .. ولم يزل هذا حالها حتى لقيت ربها ..
وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال : يا رسول الله.. هذه خديجة .. قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب .. فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها.. ومني.. وبشرها ببيت في الجنة من قصب.. لا صخب فيه ولا نصب ..
هذا خبر خديجة .. أول من دخل في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
سبقت الرجال .. وخلفت الأبطال ..
حتى ضرب التاريخ الأمثال ببذلها .. ودعانا إلى الاقتداء بفعلها ..
لم تلتفت إلى توهين من كافر .. أو شبهة من فاجر ..
فكان جزاؤها أن أعدَّ الله نزلها .. وبنى بيتها ..
فاستبشرت وفرحت .. وزادت وتعبدت ..
حتى لقيت ربها وهو راض عنها ..
{ وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ..
فرضي الله عن أم المؤمنين خديجة .. رضي الله عن أمنا ..
فهلا اقتدت بها بناتها .. هلا اقتديت أنت بها .. ليكون لك في الجنة مثلها بيت من قصب .. لا نصب فيه ولا وصب ..
أما خبر أم عمار .. سميةَ بنتِ خياط ..
فهو عجب ..
كانت أمة مملوكة لأبي جهل .. فلما جاء الله بالإسلام .. أسلمت هي وزوجها وولدها ..
فجعل أبو جهل يفتنهم .. ويعذبهم .. ويربطهم في الشمس حتى يشرفوا على الهلاك حراً وعطشاً ..
فكان صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون .. ودماؤهم تسيل على أجسادهم .. وقد تشققت من العطش شفاههم .. وتقرحت من السياط جلودهم .. وحر الشمس يصهرهم من فوقهم ..
لحالهم .. ويقول : صبراً آل ياسر .. صبراً آل ياسرفيتألم .. فإن موعدكم الجنة ..
فتلامس هذه الكلمات أسماعهم .. فترقص أفئدتهم .. وتطير قلوبهم .. فرحاً بهذه البشرى ..
وفجأة .. إذا بفرعون هذه الأمة .. أبي جهل يأتيهم .. فيزداد غيظه عليهم .. فيسومهم عذاباً ..
ويقول : سبوا محمداً وربه .. فلا يزدادون إلا ثباتاً وصبراً .. عندها يندفع الخبيث إلى سمية .. ثم يستل حربته .. ويطعن بها في فرجها .. فتتفجر دماؤها .. ويتناثر لحمها .. فتصيح وتستغيث .. وزوجها وولدها على جانبيها .. مربوطان يلتفتان إليها ..
وأبو جهل يسب ويكفر .. وهي تحتضر وتكبر .. فلم يزل يقطع جسدها المتهالك بحربته .. حتى تقطعت أشلاءً .. وماتت رضي الله عنها ..
نعم .. ماتت .. فلله درها ما أحسن مشهد موتها ..
ماتت .. وقد أرضت ربها .. وثبتت على دينها ..
ماتت .. ولم تعبأ بجلد جلاد .. ولا إغراء فساد ..
فآهٍ لفتيات اليوم ..
تضل إحداهن بأقل من ذلك .. فتنحرف عن الصراط .. وهي لم تُجلد بسياط .. ولم تخوف بعذاب ..
ومع كل ذلك .. وتهتك سمعها بسماع الأغنيات .. وبصرها بالأفلام والمسرحيات .. وعرضها بالغزل والمكالمات .. وحجابها بتلاعب أصحاب الشهوات ..
نعم .. كانت النساء .. تصبر على البلاء ..
كن يصبرن على العذاب الشديد .. والكي بالحديد .. وفراق الزوج والأولاد ..
يصبرن على ذلك كله حباً للدين .. وتعظيماً لرب العالمين ..
لا تتنازل إحداهن عن شيء من دينها.. ولا تهتك حجابها.. ولا تدنس شرفها.. ولو كان ثمنُ ذلك حياتها..
نساء خالدات .. تعيش إحداهن لقضية واحدة .. كيف تخدم الإسلام ..
تبذل للدين مالها .. ووقتها .. بل وروحها ..
حملن هم الدين .. وحققن اليقين ..
أم شريك غزية الأنصارية ..
أسلمت مع أول من أسلم في مكة البلد الأمين .. فلما رأت تمكن الكافرين .. وضعف المؤمنين ..
حملت هم الدعوة إلى الدين .. فقوي إيمانها .. وارتفع شأن ربها عندها ..
ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن إلى الإسلام .. وتحذرهن من عبادة ألأصنام ..
حتى ظهر أمرها لكفار مكة .. فاشتد غضبهم عليها .. ولم تكن قرشية يمنعها قومها ..
فأخذها الكفار وقالوا : لولا أن قومك حلفاء لنا لفعلنا بك وفعلنا .. لكنا نخرجك من مكة إلى قومك ..
فتلتلوها .. ثم حملوها على بعير .. ولم يجعلوها تحتها رحلاً .. ولا كساءً .. تعذيباً لها ..
ثم ساروا بها ثلاثة أيام .. لا يطعمونها ولا يسقونها .. حتى كادت أن تهلك ظمئاً وجوعاً ..
وكانوا من حقدهم عليها .. إذا نزلوا منزلاً أوثقوها .. ثم ألقوها تحت حر الشمس .. واستظلوا هم تحت الشجر ..
فبينما هم في طريقهم .. نزلوا منزلاً .. وأنزلوها من على البعير .. وأثقوها في الشمس ..
فاستسقتهم فلم يسقوها ..
فبينما هي تتلمظ عطشاً .. إذ بشيء بارد على صدرها .. فتناولته بيدها فإذا هو دلو من ماء ..
فشربت منه قليلاً .. ثم نزع منها فرفع .. ثم عاد فتناولته فشربت منه ثم رفع .. ثم عاد فتناولته ثم رفع مراراً ..
فشربت حتى رويت .. ثم أفاضت منه على جسدها وثيابها ..
فلما استيقظ الكفار .. وأرادوا الارتحال .. أقبلوا إليها .. فإذا هم بأثر الماء على جسدها وثيابها ..
ورأوها في هيئة حسنة .. فعجبوا .. كيف وصلت إلى الماء وهي مقيدة ..
فقالوا لها : حللت قيودك .. فأخذت سقائنا فشربت منه ؟
قلت : لا والله .. ولكنه نزل علي دلو من السماء فشربت حتى رويت ..
فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كانت صادقة لدينها خير من ديننا ..
فتفقدوا قربهم وأسقيتهم .. فوجدوها كما تركوها .. فأسلموا عند ذلك .. كلهم .. وأطلقوها من عقالها وأحسنوا إليها ..
أسلموا كلهم بسبب صبرها وثباتها .. وتأتي أم شريك يوم القيامة وفي صحيفتها .. رجال ونساء .. أسلموا على يدها ..
يتبع
rwm tjhm
المفضلات